الأديب محمد شاكر
الشيخ محمود شاكر.. بين التحدي والاستجابة
ظاهرة فريدة في الأدب والثقافة العربية الحديثة، فهو كاتب له طريقته الخاصة لا تبارى أو تحاكى، وشاعر مبدع حقق في الإبداع الشعري ما بلغ ذروته في قصيدته “القوس العذراء”، ومحقق بارع لكتب التراث، قادر على فك رموزها وقراءة طلاسمها، ومفكر متوهج العقل ينقض أعتى المسلمات، ومثقف واسع الاطلاع في صدره أطراف الثقافة العربية كلها فكانت عنده كتابا واحدا.
غير أن العلامة الشيخ محمود محمد شاكر ظل سنوات طويلة في عزلة اختارها لنفسه، يقرأ ويدرس ويصدح في واحته الظليلة، لا يسمع غناءه إلا المقربون منه من تلامذته ومحبيه تاركا الدنيا ببريقها وأضوائها وراء ظهره، ولم يخرج من واحته إلا شاكي السلاح مستجيبا لدعوة الحق حين يشعر بأن ثقافة أمته يتهددها الخطر، فيقصم بقلمه الباتر زيف الباطل، ويكشف عورات الجهلاء المستترين وراء الألقاب الخادعة؛ ولذلك جاءت معظم مؤلفاته استجابة لتحديات شكلت خطرا على الثقافة العربية.
البداية والتكوين
ينتمي محمود شاكر إلى أسرة أبي علياء من أشراف جرجا بصعيد مصر، وينتهي نسبه إلى الحسين بن علي رضي الله عنه، وقد نشأ في بيت علم، فأبوه كان شيخا لعلماء الإسكندرية وتولى منصب وكيل الأزهر لمدة خمس سنوات (1909-1913م)، واشتغل بالعمل الوطني وكان من خطباء ثورة 1919م، وأخوه العلامة أحمد شاكر واحد من كبار محدثي العصر، وله مؤلفات وتحقيقات مشهورة ومتداولة.
انصرف محمود شاكر -وهو أصغر إخوته- إلى التعليم المدني، فالتحق بالمدارس الابتدائية والثانوية، وكان شغوفا بتعلم الإنجليزية والرياضيات، ثم تعلق بدراسة الأدب وقراءة عيونه، وحفظ وهو فتى صغير ديوان المتنبي كاملا، وحضر دروس الأدب التي كان يلقيها الشيخ المرصفي في جامع السلطان برقوق، وقرأ عليه في بيته: الكامل للمبرد، والحماسة لأبي تمام.
المواجهة الخافتة
وربما كان في وسع شاكر أن يكون أحد علماء الرياضيات أو فروع الطبيعة بعد حصوله على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) من القسم العلمي سنة 1925 لكنه فضل أن يدرس العربية في كلية الآداب، وكاد قانون الجامعة أن يحول بينه وبين الالتحاق بقسم اللغة العربية، لولا تدخل طه حسين لدى أحمد لطفي السيد مدير الجامعة وإقناعه بأن يلتحق شاكر بكلية الآداب فأصدر قرارا بذلك.
وفي الجامعة استمع شاكر لمحاضرات طه حسين عن الشعر الجاهلي وهى التي عرفت بكتاب “في الشعر الجاهلي”، وكم كانت صدمته حين ادعى طه حسين أن الشعر الجاهلي منتحل وأنه كذب ملفق لم يقله أمثال امرئ القيس وزهير، وإنما ابتدعه الرواة في العصر الإسلامي، وضاعف من شدة هذه الصدمة أن ما سمعه من المحاضر الكبير سبق له أن قرأه بحذافيره في مجلة استشراقية بقلم المستشرق الإنجليزي مرجليوث.
وتتابعت المحاضرات حول هذا الموضوع، ومحمود شاكر عاجز عن مواجهة طه حسين بما في صدره، وتمنعه الهيبة والأدب أن يقف مناقشا أستاذه، وظل على ذلك زمنا لا يستطيع أن يتكلم حتى إذا لم يعد في الصبر والتحمل بقية، وقف يرد على طه حسين في صراحة وبغير مداراة، لكنه لم يستطع أن يواجهه بأن ما يقوله إنما هو سطو على أفكار مرجليوث بلا حياء أو اكتراث. وتولد عن شعوره بالعجز عن مواجهة التحدي خيبة أمل كبيرة فترك الجامعة غير آسف عليها وهو في السنة الثانية، ولم تفلح المحاولات التي بذلها أساتذته وأهله في إقناعه بالرجوع، وسافر إلى الحجاز سنة 1928 مهاجرا، وأنشأ هناك مدرسة ابتدائية عمل مديرا لها، حتى استدعاه والده الشيخ فعاد إلى القاهرة.
اكتشاف المتنبي
وبعد عودته سنة 1929 انصرف إلى قراءة الأدب ومطالعة دواوين شعراء العربية على اختلاف عصورهم حتى صارت له ملكة في تذوق الشعر والتفرقة بين نظمه وأساليبه، وبدأ ينشر بعض قصائده الرومانسية في مجلتي “الفتح” و”الزهراء” لمحب الدين الخطيب، واتصل بأعلام عصره من أمثال أحمد تيمور وأحمد زكي باشا والخضر حسين ومصطفى صادق الرافعي الذي ارتبط بصداقة خاصة معه. ولم يكن شاكر معروفا بين الناس قبل تأليفه كتابه “المتنبي” الذي أثار ضجة كبيرة بمنهجه المبتكر وأسلوبه الجديد في البحث، وهو يعد علامة فارقة في الدرس الأدبي نقلته من الثرثرة المسترخية إلى البحث الجاد.
والعجيب أن شاكر الذي ألف هذا الكتاب سنة 1936 ولم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره لم يكن يقصد تأليف كتاب عن المتنبي، إنما كان مكلفا من قبل فؤاد صروف رئيس تحرير مجلة المقتطف بأن يكتب دراسة عن المتنبي مسهبة بعض الإسهاب ما بين عشرين إلى ثلاثين صفحة، ولكن هذا التكليف تحول على يد شاكر كتابا مستقلا عن المتنبي أنجزه في فترة زمنية قصيرة على نحو غير مسبوق ونشرته مجلة المقتطف في عددها الصادر في السادس من شوال 1354هـ الأول من يناير 1936م، وصدر فؤاد صروف مجلته بقوله: هذا العدد من المقتطف يختلف عن كل عدد صادر منذ سنتين إلى يومنا هذا، فهو في موضوع واحد ولكاتب واحد.
وقد اهتدى شاكر في كتابه إلى أشياء كثيرة لم يكتبها أحد من قبله استنتجها من خلال تذوقه لشعر المتنبي، فقال بعلوية المتنبي وأنه ليس ولد أحد السقائين بالكوفة كما قيل، بل كان علويا نشأ بالكوفة وتعلم مع الأشراف في مكاتب العلم، وقال بأن المتنبي كان يحب خولة أخت سيف الدين الحمداني واستشهد على ذلك من شعر المتنبي نفسه، وتم استقبال الكتاب بترحاب شديد وكتب عنه الرافعي مقالة رائعة أثنى عليه وعلى مؤلفه.
وكان هذا الكتاب فتحا جديدا في الدرس الأدبي وتحديا لأدباء العصر، فكتب بعده عبد الوهاب عزام كتابه “المتنبي في ألف عام”، وطه حسين “مع المتنبي”، واتهمهما شاكر بأنهما احتذيا منهجه، وسطوا على بعض آرائه، وهاجم شاكر ما كتبه طه حسين في سلسلة مقالات بلغت 12 مقالا في جريدة البلاغ تحت عنوان “بيني وبين طه حسين”.
مع سيد قطب والإخوان
وبعد وفاة مصطفي صادق الرافعي بعام أشعل سيد قطب معركة أدبية على صفحات الرسالة سنة 1938م، اندفع إليها بحماس الشباب دون روية، ومتأثرا بحبه الشديد وإعجابه الجامح بالعقاد، فهاجم أدب الرافعي وجرده من الإنسانية، والشاعرية واتهمه بالجمود والانغلاق، فثار محبو الرافعي على هذا الهجوم الصارخ، وقاد شاكر الدفاع عن شيخه وفند ما يزعمه سيد قطب، ودخل معه في معركة حامية لم يستطع الشهيد سيد قطب أن يصمد فيها.
ثم تجددت المعركة بينهما بعد سنوات طويلة حين كتب سيد قطب مؤلفه “العدالة الاجتماعية في الإسلام”، وكان سيد قطب قد بدأ مرحلة التحول إلى الفكر الإسلامي، وحمل الكتاب ما اعتبر نقدا وتجريحا لبعض الصحابة، فانتفض شاكر وكتب مقالة شهيرة في مجلة “المسلمون” تحت عنوان ” لا تسبوا أصحابي” سنة 1952م.
وهذا يجرنا إلى محاولة معرفة الموقف السلبي الذي اتخذه شاكر من جماعة الإخوان المسلمين، وكان شديد الهجوم عليهم، ولا يعرف حتى الآن الأسباب التي دعته إلى اتخاذ هذا الموقف، فهل كانت المعركة بينه وبين سيد قطب من أسباب ذلك؟! وهل الذين اتصلوا به من جماعة الإخوان كان لهم دور في توسيع الخلاف بينه وبينهم؟! ويجدر بالذكر أنه حين أنشئت داخل جماعة الإخوان المسلمين لجنة الشباب المسلم للتفرغ للدرس والبحث وبعيدا عن الانشغال بالنشاط الحركي، اتصلت بمحمود شاكر، وكان في برنامجها أن يقوم بتدريس السيرة النبوية لها بناء على اقتراح من المرشد العام حسن البنا، وعقدت عدة لقاءات، وعلى الرغم من هجوم شاكر على حسن البنا، فإن الأخير كان يصر على إتمام هذه اللقاءات للاستفادة من علم الأديب الكبير دون أن يتأثر بما يقوله عنه.
العالم الإسلامي في بيت شاكر
كانت فترة الخمسينيات فترة مشهودة في حياة شاكر، فقد ترسخت مكانته العلمية وعرف الناس قدره، وبدأت أجيال من الدارسين للأدب من أماكن مختلفة من العالم الإسلامي يفدون إلى بيته، يأخذون عنه ويفيدون من علمه ومكتبته الحافلة، من أمثال: ناصر الدين الأسد وإحسان عباس، وشاكر الفحام، وإبراهيم شبوح، فضلا عن كثير من أعلام الفكر الذي كانوا يحرصون على حضور ندوته الأسبوعية كل يوم جمعة عقب صلاة المغرب، مثل فتحي رضوان ويحيى حقي، ومحمود حسن إسماعيل، ومالك بن نبي، وأحمد حسن الباقوري، وعلال الفاسي، وعبد الرحمن بدوي، وعبد الله الطيب.
وشهدت هذه الندوة الدروس الأسبوعية التي كان يلقيها شاكر على الحاضرين في شرح القصائد الشعرية التي تضمنها كتاب الأصمعيات، وقد انتفع بهذه الدروس كثيرون، وكان الأديب الكبير يحيى حقي يعلن في كل مناسبة أن شاكر هو أستاذه الذي علمه العربية وأوقفه على بلاغتها، وأن ترجمات كتب مالك بن نبي خرجت من بيت شاكر، فقد قام أحد أفراد ندوته وترجمها إلى العربية وهو الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين، وكان آنذاك شابا صغيرا في بداية مشواره العلمي.
وفي ندواته الفكرية في بيته كان يعارض عبد الناصر علانية ويسخر من رجالات الثورة، ويستنكر ما يحدث للأبرياء في السجون من تعذيب وإيذاء وكان يفعل ذلك أمام زواره ومن بينهم من يشغل منصب الوزارة، كالشيخ أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف آنذاك، ونتيجة لذلك لم يسلم شاكر من بطش السلطة، فألقت القبض عليه سنة 1959م، وبقي رهن السجن 9 أشهر حتى تدخلت شخصيات عربية، فأفرج عنه وعاد لمواصلة نشاطه في تحقيق كتاب تفسير الطبري الذي بدأ في نشره من قبل، وانتظمت ندوته مرة أخرى.
أباطيل وأسمار
وظل شاكر في عزلته الاختيارية بين كتبه وتلاميذه ومحبيه، لا يشارك في الساحة الفكرية بمقالاته وآرائه حتى بدأ لويس عوض في نشر سلسلة مقالات له في جريدة الأهرام سنة 1964م، تحت عنوان “على هامش الغفران” وكان الكاتب قد لمع نجمه بعد تعيينه مستشارا ثقافيا لجريدة الأهرام، وأصبح مهيمنا على أمور الثقافة في مصر وصار له حواريون وسدنة يبشرون بآرائه.
وقد أثارت مقالات لويس عوض موجة من الشغب بين أوساط كثير من المثقفين لما فيها من تحامل على الشيخ المعري، ولم يجرؤ أحد على الرد سوى محمود شاكر الذي خرج من عزلته، وانبرى للويس عوض في سلسلة من المقالات المبهرة في مجلة الرسالة، كشفت عما في مقالات لويس عوض من الوهم والخلط التاريخي والتحريف في الاستشهاد بشعر أبي العلاء المعري، وعدم تمحيص الروايات التاريخية، والادعاء بتلقي المعري علوم اليونان على يد أحد الرهبان. وكانت مقالات شاكر التي ظهرت تباعا حدثا ثقافيا مدويا كشفت عن علم غزير ومعرفة واسعة بالشعر وغيره من الثقافة العربية، وقدرة باهرة على المحاجاة والبرهان، ولم تقف هذه المقالات التي بلغت ثلاثا وعشرين مقالة عند حدود الرد على كلام لويس عوض، بل انتقلت إلى الحديث عن الثقافة والفكر في العالم العربي والإسلامي، وما طرأ عليها من غزو فكري ولا سيما حركة التبشير التي غزت العالم الإسلامي.
وتدخل الناقد الكبير محمد مندور عند شاكر ليوقف مقالاته دون جدوى، وأصاب لويس عوض الذعر والهلع من مقالات شاكر التي فضحته بين أوساط المثقفين، وكشفت عن ضعف ثقافته حتى في تخصصه في الأدب الإنجليزي حين كشف شاكر عن فساد ترجمته العربية لمسرحية الضفادع لأرسطوفان، وراح لويس عوض يطوف على المجلات والصحف يستنصرهم ضد شاكر ويزعم أن المعركة بينهما معركة دينية، ولم يتوقف شاكر عند كتابة مقالاته حتى أغلقت مجلة الرسالة نفسها، وألقي به في غياهب السجن سنتين وأربعة أشهر من آخر شهر أغسطس سنة 1965م، حتى آخر شهر ديسمبر سنة 1967م، وقد جمعت هذه المقالات في كتابه “أباطيل وأسمار” الذي يعد من أهم الكتب التي ظهرت في المكتبة العربية في النصف الأخير من القرن العشرين.
معارك فكرية أخرى
وبعد خروجه من السجن هذه المرة عاد إلى ما كان عليه من قبل، فكتب في مجلة “المجلة” 7 مقالات إضافية تحت عنوان “نمط صعب، نمط مخيف” استجابة لصديقه الأديب يحيى حقي، حين أشاد بترجمة الشاعر الألماني “جوته” لقصيدة من قصائد الشاعر الجاهلي “تأبط شرا” وتساءل حول الترتيب الذي اقترحه الشاعر الألماني حين ترجم القصيدة إلى الألمانية، وحول الشعر القديم وروايته وافتقاد القصيدة العربية إلى الوحدة، وقد اقتضت الإجابة حول هذه الأسئلة تشعبا في الكلام، وامتدادا في أطرافه بلغ 400 صفحة حين جمع المقالات في كتاب، وقد تخلل ذلك نقد محكم للدكتور عبد الغفار مكاوي حين أعاد ترجمة قصيدة جوته إلى العربية، ودارت بينهما معركة قصيرة حول هذه الترجمة التي اتهمها شاكر بالركاكة والسقم.
ثم دارت معركة أخرى بينه وبين الباحث العراقي الدكتور علي جواد الطاهر حول تحقيقه كتاب “طبقات فحول الشعراء” لابن سلام الجمحي، وتولد عن ذلك كتابه “برنامج طبقات فحول الشعراء”.
تحقيق كتب التراث
يعد شاكر على رأس قائمة محققي التراث العربي، وأطلق عليه العقاد المحقق الفنان، وإنجازاته في هذا المجال كثيرة، وهي عنوان على الدقة والإتقان، ومن أشهر الكتب التي حققها: تفسير الطبري (16 جزءا)، طبقات فحول الشعراء (مجلدان)، تهذيب الآثار للطبري (6 مجلدات).. وشاكر لا يحب أن يوصف بأنه محقق لنصوص التراث العربي، وإنما يحب أن يوصف بأنه قارئ وشارح لها، وهو يكتب على أغلفة الكتب التي يقوم بتحقيقها عبارة: “قرأه وشرحه” وهذه العبارة كما يقول الدكتور محمود الربيعي “هي الحد الفاصل بين طبيعة عمله وطبيعة عمل غيره من شيوخ المحققين، إنه يوجه النص ويبين معناه بنوع من التوجيه أو القراءة التي تجعله محررا؛ لأنها قراءة ترفدها خبرة نوعية عميقة بطريقة الكتابة العربية، وهو إذا مال بالقراءة ناحية معينة أتى شرحه مقاربا، وضبطه مقنعا، وأفق فهمه واسعا، فخلع على النص بعض نفسه وأصبح كأنه صاحبه ومبدعه”.
صاحب رسالة
لم يكن شاكر في يوم من الأيام موظفا يمد يده نهاية كل شهر إلى مرتب ينتظره فتكون للحكومة كلمة نافذة في رزقه ومكانته، بل انقطع لعلمه وفكره ومكتبته وبحثه ودرسه وزملائه وتلاميذه كالراهب الذي انقطع للعبادة في صومعته.
وعاش على أقل القليل يكفيه ويسد حاجته، ومرت عليه سنوات عجاف لكنه لم ينحن أو يميل على الرغم من أن بيته كان مفتوحا لتلاميذه وأصدقائه وعارفي فضله.
ولم يكن له من مورد سوى عائده من كتبه التي كان يقوم بتحقيقها، وكان اسمه على صدرها يضمن لها النجاح والرواج، ولم يكن يأخذ شيئا على مقالاته التي يكتبها، فأعاد لمجلة العربي الكويتية سنة 1982م مائة وخمسين دولارا نظير مقالة كتبها ردا على الكاتب اليمني عبد العزيز المقالح حول طه حسين، ورفض أن يتسلم من دار الهلال مكافأته عن تأليفه كتابه المهم “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”.
ولأنه كان يشعر أنه صاحب رسالة فإنه كان ينتفض حين يرى انتهاك حرمة من حرمات اللغة العربية فيقف مدافعا عنها بكل ما يملك من أدوات علمية وفكرية، تجعل الخصم يسلم بما يقول أو يلوي هاربا. ومعاركه كلها جمعت في كتب وصارت وثائق في تاريخنا الفكري الحديث، كتبها هو من موقع المدافع والحارس لثقافة الأمة، ولولا خصومه لما ظهرت معظم مؤلفاته؛ لأنها كانت استجابة لتحديات عظيمة، وهي تظهر عظمة شاكر؛ لأنه لم يحتشد لها مثلما يحتشد المؤلفون عند تأليف كتبهم وإنما دخلها كارها مستندا إلى ثقافة واسعة وعلم غزير، وفكر ثاقب وروح وثابة، فأتى بالعجب العجاب.
وفي أخريات عمره رد له بعض الاعتبار، فنال جائزة الدولة التقديرية في الأدب سنة 1981م، ثم جائزة الملك فيصل في الأدب العربي عام 1984م، وفي أثناء ذلك اختير عضوا في مجمع اللغة العربية بدمشق، ثم بالقاهرة.
وبعد رحلة حياة عريضة رحل أبو فهر شيخ العربية وإمام المحققين في الساعة الخامسة من عصر الخميس الموافق 3 من ربيع الآخر 1418هـ= 6 من أغسطس 1997م) ولبى نداء ربه.. فسلام عليك أبا فهر.
الجانب الإنساني في حياة “شاكر” يرويه ابنه “فهر لا أحد – بالطبع – يستطيع أن يتحدث عن العلامة محمود محمد شاكر في جوانبه الإنسانية وحياته الخاصة وما لا يعرفه عنه أحد مثل ابنه “فهر” أستاذ الأدب العربي.
والعلاقة بين العلامة الراحل وبين ابنه فهر لم تكن فقط علاقة أب له مكانته بابنه وإنما امتدت لتصبح علاقة شيخ بتلميذه شارك خلالها فهر أباه في بعض تحقيقاته ونفذ إلى كثير من أسرار نفسه وسأله واستفسر منه، لكنه لم يشاكسه حيث ظل في نفسه وفي نفس كل من عرفوه مقام “الإمام الذي لا ينازع في علمه وأدبه وفضائله”! وفي هذا الحوار يتحدث د. فهر عن الجانب الخفي في حياة
شاكر وعن أسرار في حياته تنشر لأول مرة.
** اختار لك والدك العلامة الكبير اسما يبدو غريبا على -أسماع الناس هذه الأيام.. هل تحدثنا عن اسم “فهر”؟
– فهر تعني في اللغة “الحجر الصلب في حجم قبضة الكف” وهو اسم جد الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد اختار والدي الاسم لهذا السبب وكان الأقرب إلى قلبه أن يناديه من يعرفونه بلقب “أبي فهر” فانتماء والدي للعرب كان واضحا حادا وهو كان شديد الاعتزاز به حيث كان يذكر دائما أن “فهر” هو جد العرب لمن كان يستفسر عن اسمي أمامه.
** أكثر ما عرف عن محمود شاكر إنسانيا: الحدة. فهل كان -حادا لدرجة أن يترك انطباعا عاما عند كل من قابلوه بهذا؟
كانت الحدة شيئا أساسيا في طباعه رحمه الله لكنها كانت تظهر في مواقف معينة حينما يقرأ أو يسمع ما يمس أيا مما يؤمن به وما وهب حياته له كأن يقرأ تطاولات على الإسلام أو العربية أو يقرأ خوضا في حياة وسير الصحابة ورجال التاريخ الإسلامي، خاصة أن كثيرا مما كتب – ولا يزال – يفتقر للعلم أو للجهد في المعرفة. وقد كان “يغيظه” جدا الاستهلال الصحفي في عرض موضوعات يرى أنها قوام حياة هذه الأمة، ومع هذه الحدة فقد كان على الجانب الآخر وفي حياته الخاصة شديد الرقة والعطف، جياش المشاعر هادر الأحاسيس لدرجة أننا كثيرا ما رأيناه يبكي.
** هل كانت له عادات يومية ثابتة أم أنه كان مزاجيا -يتصرف كما يتفق له؟
كانت له عادات يومية ثابتة صارمة للغاية، فهو يصحو مبكرا جدا وأول ما يفعله بعد الصلاة وبعد إفطار خفيف أن يقرأ كل الجرائد بلا استثناء وكان يقسم يومه بين القراءة والعمل سواء كان يكتب أو يعمل في تحقيق كتاب، وكان شرها للغاية في القراءة فلا يمسك كتابا -مهما كان حجمه- إلا وينتهي منه في نفس اليوم، وكان إذا بدأ العمل لا يسمع أحدا مطلقا.
** كان الأستاذ شاكر أقرب لأن يكون “معتزلا”.. هل كانت له صداقات أدبية أوسع من المعروف عن علاقته بالأديب يحيى -حقي والشاعر محمود حسن إسماعيل؟
كانت له صداقات كثيرة بالطبع في الحياة الأدبية والفكرية لكنها امتدت خارج مصر حيث كان يحضر ندوته التي كان يقيمها كل يوم جمعة كثير من الأدباء وطلاب العلم من العالم العربي والإسلامي، ولم يكن يفضل أن يجعلها ندوة بالمعنى المتعارف عليه إنما كان الحديث يسير بشكل طبيعي وعن أي موضوع يعن للحاضرين وإن كانوا جميعا يفضلون الاستماع لآرائه في أي قضية تعرض لهم. ورغم أن والدي رحمه الله كان شديد العنف في هجومه الذي لم يتوقف حتى وفاته على الاستشراق والمستشرقين فإنه كانت تربطه علاقات ببعضهم مثل كارلونللينو الذي كان يحضر كثيرا لبيت جدي في الغورية حيث مجالس العلم والسياسة ومجتمع مشاهير الحركة الوطنية والفكرية. وفي هذا المنزل نشأت صداقة بين والدي وبينه.
أما بالنسبة لنجيب محفوظ فكانت تربطه بوالدي علاقة جيدة لكنها ليست في مستوى علاقته بيحيى حقي الذي ربطته بوالدي صداقة عمر لدرجة أنه كان لا بد من اتصال يومي بينهما، ورغم أن يحيى حقي رحمه الله كان دائم الثناء على والدي في كتبه وفي جلساته الخاصة فإن والدي كان يشاكسه كثيرا وكان يقول له إن كتابته ليست عربية بل هي هجين؛ لأن أصله تركي!.
** وبقية صداقاته؟
-كما قلت كانت كثيرة جدا، من سوريا مثلا كان الناقد والأديب شاكر الفحام من أكثر المترددين على ندوة الجمعة، ومن السياسيين كانت علاقة والدي بعلال الفاسي علاقة وثيقة لدرجة
أنه بمجرد اعتقال والدي وقّع عدد من السياسيين المغاربة وثيقة بالدم للمطالبة بالإفراج عنه وكان هو على رأس الموقعين.
أما محمود حسن إسماعيل فكانت علاقته به هي أوثق علاقة ربطته بشاعر في عصره، وكان يقول: “تركت الشعر لمحمود حسن إسماعيل”، وكانت بداية علاقتهما في مكتب أحمد حسن الزيات صاحب “الرسالة” وكان إسماعيل يقرأ لوالدي مقالاته فيها كما كان والدي يقرأ أيضا أشعار إسماعيل ويعجب بها. وتصادف في هذا اليوم أن كان والدي يعطي قصيدة للزيات لنشرها في الرسالة وقرأها الزيات بصوته بإعجاب شديد، لكنه استفسر عن ترك القصيدة بلا عنوان، وساعتها أمسك محمود حسن إسماعيل القصيدة وأخرج قلما وكتب عليها بخط يده: “رماد” وبالفعل نشرت القصيدة في الرسالة بهذا العنوان، وبعد هذا توطدت لقاءاتهما وعلاقتهما حتى أصبحت صداقة من نوع فريد.
** وعلاقته بك أنت وبابنته الوحيدة “زلفى”؟
-ولدت أنا وبعد شهرين بالضبط من ولادتي دخل أبي المعتقل وحينما خرج كان عمري أربع سنوات، ومنذ الطفولة كان أبي متدفق المشاعر جدا تجاهنا، وكان إذا غضب يفعل ما يعبر به عن غضبه وبحدة لا حدود لها، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بمضايقات نتعرض لها. وأذكر أنه خنق بواب العمارة وخلصه الناس من بين يديه؛ لأنه منعنا من اللعب في مدخل العمارة بدون أسباب. وكان حريصا جدا على أن نتم حفظ القرآن الكريم كاملا في الطفولة وقد كان هذا بعون الله.
** كان العلامة محمود شاكر أكثر علماء وأدباء عصره دراية بالأدب واللغة وعلوم العربية كلها.. من كان يفضل هو شخصيا من الأدباء؟
في النثر كان يجل الجاحظ ويرى أنه قمة الأدب العربي ولم يكن يحب كتب ابن المقفع ويراه فارسيا حتى وإن تربى وعاش بين العرب. وفي الشعر كان يحب الشعر الجاهلي الذي أحاط به إحاطة كاملة غير مسبوقة، لكن المتنبي كان بالطبع حبه الأول والأخير، كان يحفظ ديوانه كله، وكان يعرف كل ما اختلف فيه القدماء حول شعر المتنبي ويدافع عنه دفاعا حارا ينقل لنفس محدثه فورا الإعجاب بهذا الشاعر العربي الأعظم، وكان دائم الترنم بأشعاره وروايتها في كل المناسبات بإلقاء لم أسمع له نظيرا.
ومن الأدباء المحدثين الذين ارتبط بهم بعلاقة خاصة جدا من المودة والإكبار الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي، بل إن أبي رحمه الله كان يعتبره أستاذه الأول وكان يعتبره أكبر وأخلص من دافع عن الأدب العربي عن علم وموهبة وحرارة، وقد دخل في معركة ضخمة مع سيد قطب رحمه الله حينما هاجم الرافعي لصالح العقاد، وقد رد أبي ودافع عن الرافعي بحرارة وحسم.
** اختلف الشيخ شاكر مع الإخوان المسلمين.. هل تقابل مع حسن البنا، وماذا كان رأيه فيه؟
– كان يتضايق ويغضب من منطق أن السياسة قد تجوز لبعض أهلها التحدث في الدين ثم يتحولون إلى رموز دينية، وهو لم يكن يرى حسن البنا كذلك بالطبع، لكنه كان يراه رجل سياسة أكثر منه عالم دين، لكن كان تربطه علاقة وثيقة جدا مع الصداقة المستمرة بالشيخ أحمد حسن الباقوري عليه رحمة الله.
** لم يأخذ الشيخ شاكر حظه من الشهرة وذيوع الصيت.. هل كان ذلك بسبب عزلته أم بسبب مصادمة أفكاره لقيم عصره كلها؟
لم تكن قضية الشهرة تعنيه كثيرا، ودائما ما كان يردد: “كتبت ما يرضيني ولست رجل شهرة” وكان يقول: إن وظيفته الأولى والأخيرة أن يقرأ. وبمناسبة للمجتمع بالمعنى السلبي، فقد كان متابعا دقيقا للحياة الأدبية والفكرية في مصر والعالم العربي لكنه كان لا يحب أن يتحدث مع الصحافة ولا التليفزيون وكان رأيه فيهما سيئا.
** كان رحمه الله شديد التعصب للعربية حادا في الدفاع عنها.. هل كان يقرأ شعر العامية الذي نما وانتشر بعد الخمسينيات حتى طغى في بعض المراحل على شعر الفصحى من حيث الانتشار؟
– كان يسميه زجلا وكان يقرؤه بالطبع وكان معجبا بفؤاد حداد ويقول إن لغته حلوة وتنم عن ثقافة عميقة وقراءات واسعة في الشعر العربي، كما كان يحب أشعار صلاح جاهين، وربما انتبه له بفضل حديث يحيى حقي رحمه الله الدائم عنه كلما جلس مع أبي.
** والغناء.. ماذا كان رأيه فيه؟
كان يطرب للغناء طربا شديدا، لكن الغناء كله تلخص عنده في صوت أم كلثوم التي كان معجبا جدا بحلاوة وقوة صوتها وعمق ارتباطها بالشعر العربي ودقة مخارجها للحروف، وقد كان ينوي كتابة مقال مطول عنها، لكنه توفي قبل إتمامه.
** كيف كان رأيه حينما اشتدت أزمة الدكتور نصر أبو زيد، وما رأيه في كتبه؟
– د. نصر كان معنا في قسم اللغة العربية وكان دائم الاتصال بوالدي، وأذكر أنه في إحدى المحاضرات كان د. نصر يشرح لنا في “دلائل الإعجاز” وقمت لأستوضح منه أحد نصوص الكتاب التي بدت لي غامضة، لكن د. نصر قال: إن النص واضح جدا. وحينما عرضت الموضوع على والدي قرأ النص وقال إنه غير واضح، وابتدأ تحقيق “دلائل الإعجاز” من هذا اليوم.
وحين بدأت أزمة نصر أبو زيد في الجامعة حدثت أشياء غريبة ولم يعترض والدي على رأي أبو زيد في الإمام الشافعي؛ لكنه اعترض على الأخطاء الفادحة في الكتاب من الناحية العلمية، وحينما نبه د. نصر لأخطاء في التواريخ والوقائع لا تليق بطالب مبتدئ رد عليه بأنه وقع في “لخبطة” ولن يعيد طباعة الكتاب، لكن -وهذا هو الغريب- لم يمر أسبوع إلا وكان قد طبعه طبعة جديدة بنفس الأخطاء، وحينما حدث جدل حول الكتاب اتصل والدي بالدكتور أحمد مرسي الذي كان رئيسا لقسم اللغة العربية بآداب القاهرة وطلب منه ألا يصل الموضوع للصحافة حفاظا على ما تبقى من سمعة الجامعة وقسم اللغة العربية، لكن د. نصر ود. أحمد مرسي وصلا بالموضوع للضجة التي أثيرت ويعرفها الجميع.
** غير الأدب العربي.. كيف كانت علاقة محمود شاكر بالآداب الأخرى؟
-كان يجيد الإنجليزية بشكل مطلق وأعتقد أنه كان قادرا على أن يحاضر في الأدب الإنجليزي أكثر من كل المتخصصين، وقد ترجم بالفعل قصائد لأوسكار وايلد.
** هل صحيح أنه لم يكن يصلي في جامع الحسين أبدا؟
-هذا صحيح، فلم يصل مرة واحدة في مسجد الحسين رضي الله عنه؛ لأن قبر الحسين أمام القبلة وهذا مما يبطل الصلاة، لكنه كان يصلي في الأزهر ويحب أن يتجول وحيدا في القاهرة الإسلامية.
** هل تشعر أن محمود شاكر ظلم في حياتنا الثقافية أم أخذ ما يستحق؟
-بلا شك ظلم، وأقصد بهذا أنه شخصيا لم تكن تعنيه الشهرة والأضواء لكن كتبه وأفكاره لا تصل للناس بشكل يمثل ربع أهميتها وخطورتها.عزلته هو لم يكن معتزلا
المصدر:
http://www.islamonline.net/arabic/famous/2004/02/article01.SHTML