دعوى رجوع بعض الأئمة عن عقيدة الأشاعرة
دعوى رجوع بعض الأئمة عن عقيدة الأشاعرة
قريب من هذا الذي نسب إلى إمام أهل السنة أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى، ما ينسب إلى بعض الأئمة كالإمام الجويني والغزالي والرازي رحمهم الله تعالى أنهم رجعوا عن معتقد الأشاعرة وتبرءوا منه!
ومن يروج لهذه الدعوى يريد أن يقول: إن هذا المعتقد الذي رجع عنه هؤلاء العلماء لو كان حقاًّ ما تركوه ولا هجروه!!
فنقول:
إما أن يكون اعتقاد الأشاعرة هذا الذي ينسب إلى هؤلاء الأئمة الرجوع عنه حقًّا في ذاتـه أو باطلاً.
فإن كان حقّاً فماذا يضيره أو يضير من تمسك به حتى لو تبرأ منه هؤلاء الأئمة على فرض صحة ذلك عنهم؟! أم أنه صار حقّاً حين قالوا به، فلما تركوه انقلب الحق إلى باطل؟!
وإن كان ما رجعوا عنه باطلاً فواهاً ثم واهاً على أمة الإسلام وقد تبنّت طيلة هذه القرون الماضية باطلاً، ثم لم يكتشف بطلانه إلا ثلاثة أو أربعة منهم!!
كلا ليس الأمر هكذا، فعلماء الإسلام ليسوا حفنة من مقلدة العوام تغدو بهم كلمة وتروح بهم أخرى دون تبصر ولا برهان، لكنهم لما رأوا هذين الإمامين الجليلين أبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي رحمهما الله قد انتصبا دليلين على طريق السلف الصالح ينافحان عن معتقداتهم ويذبان عن الكتاب والسنة هرعوا لنصرتهم وانتهضوا لتأييدهم ونشر طريقتهم في إثبات عقيدة السلف الصالح، لهذا، ولهذا فقط نُسبوا إلى هذين الإمامين، وليس ـ كما يظـن البعض ـ لأنهم يقلدونهما فيما ذهبا إليه، فلو افترضنا صحة رجوع هؤلاء الأئمة عن معتقد الأشاعرة، بل لو افترضنا رجوع عشرات غيرهم عن الأشعرية ما كان هذا سيغير من الحقيقة التي أطبقت عليها الأمة شيئاً، غاية ما يقال حينها أن هؤلاء الأئمة قد أخطأوا في ذلك.
على أن هؤلاء الأئمة رحمهم الله تعالى لم يرجعوا عن اعتقاد الأشاعرة ولا تبرءوا منه، كيف وهو الامتداد الطبيعي لما كان عليه السلف، وإنما رجعوا عن طريق التأويل في ظواهر المتشابه الذي كانوا يقولون به قبلُ إلى طريق التفويض الذي هو طريق جمهور السلف الصالح بعد تنزيه الله تعالى عما توهمه هذه الظواهر من سمات المخلوق، وكلا الطريقين التفويض والتأويل بشرطه ثابت عن سلف الأمة ـ كما سيأتي بيانه وإثباته من قبل العلماء ـ وكلا المسلكين صحيح لا غبار عليه عند أهل الحق، أما الذي يأباه العقل والنقل فهو نسبة حقائق هذه الظواهر اللغوية لله تعالى، وحمل هذه الظواهر على ما يعهده الخلق مـن عوالمهم، وهذا قطعاً لم يقل به أحد من هؤلاء الأئمة الذين ينسب إليهم الرجوع عن معتقد الأشاعرة، بل على العكس من ذلك، فنصوصهم وأقوالهم واضحة وصريحة في الردّ على من يقول ذلك، بل ومن هذه الكتب التي ينسب إليهم الرجوع فيها!
فهذا الإمام الجويني الذي ينسبون له الرجوع عن معتقد الأشاعرة في رسالته النظامية، يصرح في نفس هذه الرسالة بإطباق أهل الحق على تنزيه الله تعالى عن ظواهر نصوص المتشابه بقوله (النظامية ص32): (.. وامتنع على أهل الحق اعتقاد فحواها وإجراؤها على موجب ما تبتدره أفهام أرباب اللسان منها..) اهـ.
أضف إلى ذلك أن الرسالة النظامية صنّفها الإمام الجويني رحمه الله للوزير نظام الملك، ولهذا سمّاها بالنظامية نسبة إليه، ولا يخفى أن الوزير نظام الملك أشعري المعتقد، قال عنه الحافظ الذهبي بعد أن أثنى عليه ثناءً عاطراً (السير 19/96): (وكان شافعيّاً أشعريّاً) اهـ.
تُرى هل سيهدي الإمام للوزير نظام الملك كتاباً في نقض اعتقاده؟!
ثم نقول: ليس في الرسالة النظامية ما يناقض اعتقاد الأشاعرة في شيء، والذي ذكره الإمام الجويني من ترجيح التفويض على التأويل هو أحد مسلكي الأشاعرة مع نصوص المتشابه، وهو ثابت أيضاً عن أئمة من السلف الصالح كما نقله العلماء عنهم كما سيأتي، قال الإمام ابن السبكي رحمه الله تعالى (الطبقات 5/191): (ثم أقول: للأشاعرة قولان مشهوران في إثبات الصفـات، هل تمرُّ على ظاهرها مع اعتقاد التنزيه، أو تؤوَّل؟ والقول بالإمرار مع اعتقاد التنزيه هو المعزوُّ إلى السلف، وهو اختيار الإمام ـ يعني الجويني ـ في الرسالة النظامية وفي مواضع من كلامه، فرجوعه معناه الرجوع عن التأويل إلى التفويض، ولا إنكار في ذلك ولا في مقابله ـ يعني التأويل ـ فإنها مسألة اجتهادية، أعني مسألة التأويل والتفويض مع اعتقاد التنزيه، إنما المصيبة الكبرى والداهية الدهياء الإمرار على الظاهر والاعتقاد أنه المراد وأنه لا يستحيل على الباري..) اهـ.
ومن يطالع النظامية يعلم موافقتها لاعتقاد أهل السنة الأشاعرة، فمن أمثلة ذلك تنزيه الإمام الجويني لله تعالى عن الجهة والمكان والحيز والحرف والصوت وظواهر المتشابه، وتشديده على القائلين بحوادث لا أول لها في الماضي، إلى غير ذلك من المسائل التي تدل دلالة قاطعة على تمسك الإمام باعتقاد السادة الأشاعرة.
وكذلك الإمام الغزالي رحمه الله تعالى، فكتابه (إلجام العوام) الذي ينسب إليه الرجوع فيه هو في حقيقة الأمر تأصيل لمسلك السادة الأشاعرة من حيث تنزيه الله تعالى عن سمات الحوادث مثل الجهة والمكان والحروف والأصوات وظواهر المتشابه، بل هو قائل بالتأويل في مواضع من الكتاب وذلك في شرح الوظيفة الخامسة من الوظائف السبع التي يجب على العوام مراعاتها عند سماع شيء من نصوص المتشابه، وذلك من الصفحة (71 )إلى الصفحة (81 )، وهو بحق كلام نفيس، وإنّا لنحض القارئ على مطالعة كتاب (إلجام العوام) والرجوع إليه، فهو كتاب قلّ نظيره في بابه، قد ذكر فيه حجة الإسلام رحمه الله تعالى من الفوائد ما لا مزيد عليه.
ومن يطالع الكتاب يعلم أن الإمام الغزالي رحمه الله تعالى لم يترك مذهب الأشاعرة ولا رجع عنه، وإنما رجَّح مسلك التفويض على مسلك التأويل، وهو ترجيح منه ليس على إطلاقه، كما أنه لا يفهم منه تضليل للقائلين بالتأويل، حاشاه، وهو الذي يعلم أن كلا المسلكين صحيح، وإن كان الأرجح عنده والأفضل ـ عند عدم الحاجة ـ هو مسلك التفويض الذي هو مسلك جمهور السلف، بل هو الأرجح والأفضل عند جميع الأشاعرة، وهو ما نراه ونقول به، فالوقوف حيث وقف السلف الصالح بعد تنزيه الله تعالى عمّا توهمه هذه الظواهر هو الأولى بالاتباع، وهذا كما ذكرنا عند عدم الحاجة، أما إذا خاض الناس في المتشابهات فلا بد حينئذ من البيان، ومن أساليب البيان التأويل، والإمام الغزالي رحمه الله لم يأت في كتاب الإلجام بشيء مخالف لما في كتبه الأخرى.
على أنه يلزم من ينسب إلى هؤلاء الأئمة ترك ما كانوا عليه والرجوع إلى منهج السلف أن يقرَّ بأن مذهب السلف هو تنزيه الله تعالى عن ظواهر هذه النصوص لأنهم نصّوا على ذلك في هذه الكتب التي ينسب إليهم الرجوع إلى منهج السلف فيها، ونحن لا ننكر رجوع هؤلاء الأئمة إلى مذهب جمهور السلف الذي هو التفويض مع التنزيه عن ظواهر هذه النصوص إذا صح النقل عنهم، كلا، وإنما الذي ننكره وترفضه نصوص هؤلاء الأئمة وغيرهم هو الزعم بأن هذا المسلك ينافي ما عليه معتقد الأشاعرة، وهذا أمر تبطله كتب هؤلاء الأئمة وجميع السادة الأشاعرة والمنقول عنهم وهم أعلام هذه الأمة في كل فن من فنون الشريعة.
وكذلك ما ينقل عن الإمام الرازي لا يخرج عمّا ذكرنا سابقاً، بل إن الإمام لآخر لحظة في حياته يوصي بكتبه التي صنفها قبلُ، فجاء في وصيته التي أملاها على أحد تلاميذه وهو على فراش الموت كما في (طبقات الأطباء ص469): (.. وأما الكتب العلمية التي صنّفتها أواستكثرت من إيراد السؤالات على المتقدمين فيها، فمن نظر في شيء منها فإن طابت له تلك السؤالات فليذكرني في صالح دعائه على سبيل التفضل والإنعام، وإلا فليحذف القول السيئ فإني ما أردت إلا تكثير البحث وتشحيذ الخاطر..) اهـ.
وما ينقل عنه مثل قوله (مجموع فتاوى ابن تيمية 4/72): (لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات ( الرحمن على العرش استوى ) ، ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) ، واقرأ في النفي ( ليس كمثله شئ ) ، ( ولا يحيطون به علما ) ، ( هل تعلم له سميا ) ..ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي..) اهـ .
فهذا إذا صحَّ عنه فلا يفيد تركه لمعتقد الأشاعرة لا تصريحاً ولا تلميحاً، غاية ما هنالك أنه رحمه الله تعالى يرى أن أقرب الطرق في إثبات صفة الرب جلّ وعزّ طريق القرآن، وهذا حق لا ريب فيه لا يخالفه إلا زائغ. والإدعاء بأنه رجع عن معتقد الأشاعرة تقويل للإمام ما لم يقله وتحميل للكلام ما لا يحتمل هذا إذا سلمنا صحة هذه الأقوال عن الإمام.
بهذا يتضح أن أقدار أئمة الإسلام أكبرُ وأجلُّ من أن تنقاد في مسائل أصول الدين إلى أحد ـ غير رسول الله عليه الصلاة والسلام ـ تقليداً بلا تبصر أواهتداء، حتى وإن كان إمام أهل السنة والجماعة أبا الحسن الأشعري، فإن اتباع الأمة له رحمه الله اهتداءً لا تقليداً، لذا فإن أي محاولة للتشكيك في معتقد الأشاعرة بادعاء رجوع الإمام أبي الحسن أو رجوع أحد من الأئمة لن تجدي نفعاً ولن تغير من الحق الذي أطبقت عليه الأمة بعلمائها ودهمائها شيئاً، فإن غاية ما يقال في أي دعوى من هذا القبيل إذا صحت عن أحد من العلماء هو أنه أخطأ فيما ذهب إليه، ولا يقلد في ذلك، وكلٌّ يؤخذ منه ويُردُّ عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
* * * * *