التأويل والتعطيل / حقيقة التعطيل /هل عطل الأشاعرة صفات الله تعالى
التأويل والتعطيل
التأويل والتعطيل كلاهما أسند إلى الأشاعرة على سبيل القدح والتشنيع.. أما التأويل فقد تبين لك كونه شعاراً لأهل الحق أمام أهل البدعة من المشبهة والمجسمة، فاستحقوا به المدح لا القدح، والمنقبة لا المذمة.
وأما التعطيل فهم منه براء.. وكيف ينسب إلى الأشاعرة التعطيل وهم المثبتة للصفات المنزهون لله تعالى عن جميع الآفات وسمات النقص والمخلوقات، وهم المنتسبون إلى إمام أهل السنة، وشوكة أصحاب الحق في حلوق المبتدعة.
وإنما الذي أوقع من يتهم الأشاعرة في ذلك أنهم لم يدركوا حقيقة الفرق بين التأويل والتعطيل، أو أنهم لم يدركوا الفرق بين نفي أصل الصفة ونفي المعنى الحسي الظاهر والحقيقة اللغوية التي لا تليق بالله تعالى.
وعلى أية حال سنحاول في ما يأتي بيان هذا الفرق، ولكن قبل ذلك لا بد من بيان معنى التعطيل.
* * * * *
حقيقة التعطيل
التعطيل هو التخلية والنفي، هذا في الأصل، يقال: امرأة عاطل، إذا خلا جيدها من القلائد والزينة.
والمعطّلة هم نفاة صانع العالم، وهم هنا نفاة صفات الباري جلّ وعزّ، مثل الجهمية الذين نفوا صفات الله تعالى وعطّلوها.
* * * * *
هل عطل الأشاعرة صفات الله تعالى
لقد مرّ معنا في هذا البحث اعتقاد الأشاعرة وتأويلهم لبعض الألفاظ التي يستحيل وصف الله تعالى بظاهرها وحقائقها التي يعهدها البشر من أنفسهم ومما حولهم، وهذا الذي ذهبوا إليه من التأويل هو عين ما كان يعرفه السلف الصالح ويعتقدونه، غير أن جمهورهم رضي الله عنهم أحجموا عن التصريح والتعيين حين احتمل اللفظ عندهم أكثر من معنى فتوقفـوا ورعاً وتهيّباً، ثم لعدم الحاجة إلى ذلك لسلامة عصرهم من البدع التي حدثت بعد، يشهد لهذا ما ذكرناه مراراً من تصريح البعض منهم بهذه المعاني التي قال بها الأشاعرة، ولو جاز وصف الأشاعرة بالتعطيل لأَخْذِهم بالتأويل لانسحب هذا الحكم على أجيال الصحابة والتابعيـن وتابعيهم.
ولقد نص العلماء على أن مذهب التأويل منقول عن السلف الصالح، وأخْذُ جمهورهم بمذهب التفويض – وهو ما يسميه العلماء تأويلاً إجمالياً- لا ينفى أخْذَ جماعاتٍ منهم بالتأويل.
قال الإمام النووي – رحمه الله – مثبتاً التأويل للسلف الصالح (شرح مسلم 6 / 36) ما نصه:
(هذا الحديث من أحاديث الصفات وفيه مذهبان مشهوران للعلماء…. ومختصرهما أن أحدهما وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين… والثاني مذهب المتكلمين وجماعات من السلف وهو محكي عن مالك والأوزاعي أنها تتأولّ على ما يليق بها بحسب مواطنها) اهـ.
وقال الإمام الزركشي – رحمه الله تعالى – في النصـوص المتشـابهة (البرهان في علوم القرآن 2 /207):
(اختلف الناس في الوارد منها في الآيات والأحاديث على ثلاث فرق:
أحدها: أنه لا مدخل للتأويل فيها، بل تجري على ظاهرها ولا تؤول… وهم المشبهة.
والثاني: أن لها تأويلاً ولكنّا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن التشبيه والتعطيل، ونقول لا يعلمه إلا الله. وهو قول السلف.
والثالث: أنها مؤوّلة، وأولوها على ما يليق به.
والأول باطل، والأخيران منقولان عن الصحابة… وممن نُقٍل عنه التأويل عليّ وابن مسعود وابن عباس وغيرهم) اهـ.
وقال العلامة الشوكاني – رحمه الله تعالى – (إرشاد الفحول ص / 176):
(الفصل الثاني: فيما يدخله التأويل، وهو قسمان، أحدهما أغلب الفروع، ولا خلاف في ذلك، والثاني: الأصول كالعقائد وأصول الديانات وصفات الباري عزّ وجلّ.
وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلاثة مذاهب ).
ونقل المذاهب الثلاثة التي ذكرها الزركشي ثم قال:
(قال ابن برهان: الأول من هذه المذاهب باطل، والآخران منقولان عن الصحابة، ونُقِلَ هذا المذهب الثالث عن عليّ وابن مسعود وابن عباس وأم سلمة) اهـ.
ويؤيد هذا أيضاً ما نقله العلماء عن بعض أئمة السلف من التأويلات لبعض نصـوص المتشابه، نذكر منها على سبيل الإجمال:
تأويل ابن عباس رضي الله عنهما للفظ الساق بشدة الأمر، وكذلك مجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير وغيرهم. (الطبري 29 / 38، القرطبي 18 / 249)
وتأويلهم للفظ الوجه في قوله تعالى ( فأينما تولّوا فثمّ وجه الله ) .
قال مجاهد: قبلة الله. (الطبري 1 / 402).
وقوله تعالى ( كلّ شئٍ هالكٌ إلا وجهه ) قال مجاهد وأبو عبيدة والضحاك: إلا هو. (القرطبي 13 / 322، الطبري 20 / 82، دفع شبه التشبيه ص / 113).
وقال أبو العالية وسفيان: إلا ما أريد به وجهه. وقال الصادق: دينه. وقال أبو عبيدة أيضاً: إلا جاهه. (القرطبي 13 / 322).
وتأويل ابن جرير الطبري للاستواء بالعلو والسلطان (في تفسيره 1/192) ويروى شيء قريب من هذا عن الحسن والثوري. (مرقاة المفاتيح 2/ 137، وتفسير العز بن عبد السلام 1 / 485 – 486).
وتأويل أحمد لقوله تعالى ( وجاء ربك ) قال: جاء ثوابه. (ذكره ابن كثير من رواية البيهقي ثم نقل قول البيهقي: وهذا إسناد لا غبار عليه. البداية والنهاية 10 / 327)، وهو مروي عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما. (تفسير النسفي 4 / 378، في هامش تفسير الخازن).
وتأويـل البخاري للضحك بالرحمة. (الأسماء والصفات للبيهقي ص / 470) وتأويـله لقوله تعالى ( كلّ شـئٍ هالكٌ إلا وجهه ) قال: إلا ملكه. (الفتح 8 / 364).
وغير ذلك مما سيأتي بيانه وتفصيله في مبحث تأويلات السلف الصالح، وهي كثيرة جداً تزخر بها كتب التفسير والحديث وغيرها. وهو أمر ثابت لا سبيل إلى جحده، ولن يتأتى لمكابر إنكاره.
إن التعطيل كما هو واضح من تعريفه نفي صفات الباري سبحانه، والأشاعرة لم ينفوا صفة لله تعالى ثبتت بطريق صحيح، ومؤلفاتهم تشهد بهذا، غاية ما فعلوه أنهم حملوا هذه النصوص التي تقتضي ظواهرها وحقائقها تشبيه الله تعالى بخلقه على وجه تعرفه العرب لا ينافي تنزيه الله تعالى، وفرق كبير بين نفي ما أثبته الله تعالى كما فعل الجهمية، وبين إثباته ثم حمله على معنى لائق بالله تعالى مشهور في اللسان العربي بعد أن استحال الظاهر.
ولنأخذ على ذلك مثالاً ليزداد الأمر وضوحاً، قال الله تعالى ( الرحمن على العرش استوي ) فللاستواء في اللغة معانٍ كثيرةٌ ما بين حقيقة ومجاز، وكل ما كان حقيقة من معاني الاستواء لا يليق بالله تعالى، لأن الاستواء فعل حسِّي جسماني وكل ما كان من هذا القبيل ظاهره وحقيقته اللغوية قطعاً لا تليق بالله تعالى، ولهذا فإنه لا محيص من المصير إلى المعاني المجازية، وهذا ما فعله العلماء، فهم رحمهم الله عندما رأوا استحالة المعاني الحقيقية للاستواء في حق الله تعالى أثبتوا ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام، ثم نزَّهوا الله عن ظاهر اللفظ فنفوا الحقيقة اللغوية المعهودة بين الخلق، وقالوا استوي ربُّنا تعالى كما أخبر استواءً ليس كاستواء البشر ـ كما يتبادر من ظاهر اللفظ ـ استواءً منزهاً عن المماسَّة والحلول والاستقرار وغير ذلك من المعاني الباطلة.
وهذه نصوصهم في ذلك:
قال الإمام الغزالي – رحمه الله تعالى – (إحياء علوم الدين 1 / 90):
(وأنه تعالى مستوٍ على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده، استواءً منزّهاً عن المماسّة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في قبضته).
وقال أيضاً (الإحياء 1 / 108) (الأصل الثامن: العلم بأنه تعالى مستوٍ على عرشه بالمعنى الذي أراده الله تعـالى بالاستـواء وهو لا ينافي الكبريـاء ولا يتطرق إليه سمـات الحدوث والفناء) 1هـ.
فبالله خبّرونا أي تعطيل في هذا ؟!
وهل نُفِي َهنا إلا ما يجب نفيه عن الله تعالى ويحرم إثباته؟!
فالأشاعرة لم يعطلوا صفة الاستواء، كلا، لكنهم نزهوا الله تعالى عن المعنى الحسي المحال للاستواء الذي هو الجلوس والاستقرار وهو المعنى الظاهر من اللفظ، ومثبته لا محالة واقع في التشبيه ومائل إليه، ولقد نصّ العلماء على أن الحمل على الظاهر تشبيه.
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله تعالى – أثناء شرحه لحديث النزول (الفتح 3 / 36):
(وقد اختلف في معنى النزول على أقوال: فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة تعالى الله عن قولهم..) اهـ.
وقد نقلنا قول الإمام الزركشي والشوكاني في هذا المعنى قريباً.
قال الإمـام القرطبي – رحمه الله تعالى – عند تفسير قوله تعالى ( ءأمنتم من في السماء ) (18 / 216) ما نصّه (قال المحققون: ءأمنتم من فوق السماء، كقوله تعالى ( فسيحوا في الأرض ) أي فوقها، لا بالمماسّة والتحيز لكن بالقهر والتدبير…..والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة منتشرة مشيرة إلى العلوّ لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل معاند، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت، ووصفه بالعلوّ والعظمة لا بالأماكن والجهات والحدود لأنها صفات الأجسام، وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء لأن السماء مهبط الوحي… ولأنه خلق الأمكنة وهو غير محتاج إليها وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان ولا مكان ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان) اهـ.
وقال الإمام الطبري رحمه الله تعالى (7 / 103) في تفسير قوله تعالى ( وهو القاهر فوق عباده ) ما نصّه (فهو فوقهم بقهره إياهم وهم دونه) أي هم دونه من هذه الحيثية، لا من حيث الحس والمكان.
وقـال في تفسيـره للاستـواء (1 / 192) (علا عليهم علوّ ملك وسلطان لا علوّ انتقال وزوال) اهـ.
وقال الإمام القرطبي (6 / 399) في تفسير قوله تعالى ( وهو القاهر فوق عباده ) :
(ومعنى فوق عباده فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم أي هم تحت تسخيره لا فوقية مكــان) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر (الفتح 6 / 158):
(ولا يلزم من كون جهتي العلوّ والسفل محال على الله أن لا يوصف بالعلوّ، لأن وصفه بالعلوّ من جهة المعنى والمستحيل كون ذلك من جهة الحسّ) اهـ.
وقال أيضاً (الفتح 1 / 508) عند شرحه لحديث (إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه.. فإن الله في قبلته).
قال الحافظ (فيه ردَّ على من زعم أنه – تعالى – على العرش بذاته) اهـ.
وقال الإمام بدر الدين بن جماعة رحمه الله:
( ثم استوي على العرش ) ورد في خمس آيات وفي سادسة في طه ( الرحمن على العرش استوي ) والقرآن نزل بلغة العرب ومعاني كلامهم وما كانوا يتعقلون من خطابهم) ثم أخذ رحمه الله ببيان معاني الاستواء في اللغة، ثم قال:
(واتفق السلف وأهل التأويل على أن ما لا يليق من ذلك بجلال الرب تعالى غير مراد كالقعود والاعتدال، واختلفوا في تعيين ما يليق بجلاله من المعاني المحتملة كالقصد والاستيلاء، فسكت السلف عنه وأوّله المتأولون على الاستيلاء والقهر لتعالي الرب عزّ وجلّ عن سمات الأجسام من الحاجة إلى الحيّز والمكان، وكذلك لا يوصف بحركة أو سكون أو اجتماع وافتراق، لأن ذلك كله من سمات المحدثات وعروض الأعراض، والرب تعالى مقدس عنه، فقوله تعالى ( استوي ) يتعين فيه معنى الاستيلاء والقهر لا القعود والاستقرار، إذ لو كان وجوده مكانياً أو زمانياً للزم قدم الزمان والمكان أو تقدّمهـما عليه تعالـى وكلاهما باطل… فإن قيل: نفي الجهة – أي حسّاً – عن الموجود يوجب نفيه- أي الموجود – لاستحالة موجود من غير جهة. قلنا: الموجود قسمان: موجود لا يتصرف فيه الوهم والحس والخيال، ولا يقبل الاتصال والانفصال. وموجود يتصرف ذلك فيه ويقبله.
فالأول ممنوع الاستحالة – أي لا يستحيل وجوده بغير جهة – والرب تعالى لا يتصرف فيه ذلك، إذ ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر، فصحّ وجوده عقلاً من غير جهة ولا حيز، كما دلّ الدليل العقلي على وجوده مع نفي الجسمية والعرضية مع بُعد الفهم الحسي له، فكذلك دلّ على نفي الجهة والحيز مع بُعد الفهم والحس له…… فإن قيل: قال الله تعالى ( إليه يصعد الكلم الطيب ) وهذا ظاهر في الجهة، وكذلك قوله تعالى ( تعرج الملائكة والروح إليه ) وقوله ( ثمّ يَعرج إليه ) الآية. قلنا: ليس المراد بالغاية هنا غاية المكان، بل غاية انتهاء الأمور إليه، كقوله تعالى ( ألا إلى الله تصير الأمور ) و ( إليه يرجع الأمر كلُّه ) وكقول الخليل ( إني ذاهب إلى ربى سيهدين ) … وهو كثير، فالمراد الانتهاء إلى ما أعدّه لعباده والملائكة من الثـواب والكرامة والمنزلة. فإن قيل: إنما يقال استولى لمن لم يكن مستولياً قبل، أو لمن كان له منازع فيما استولى عليه، أو عاجزاً ثم قدر. قلنا: المراد بهذا الاستيـلاء القـدرة التـامة الخـالية عن معـارض… فان قيـل: فالاستيـلاء- أي بهـذا المعنى – حاصل بالنسبة إلى جميع مخلوقاته، فما فائدة تخصيصه بالعرش. قلنا: خُصّ بالذكر لأنه أعظم المخلوقات إجماعاً، كما خصّ بقوله ( ربُّ العرش ) وهو رب كل شيء، وإذا استولى على العرش المحيط بكل شيء استولى على الكل قطعاً. إذا ثبت ذلك فمن جعل الاستواء في حقه تعالى ما يفهم من صفات المحدثين، وقال: استوي بذاته، أو قال: استوي حقيقة، فقد ابتدع بهذه الزيادة التي لم تثبت في السنة ولا عن أحد من الأئمة المقتدى بهم) اهـ. (إيضاح الدليل ص/101 ـ 107، إتحاف الكائنات، للشيخ محمود بن خطاب السبكي ص / 66 – 67، ويبدو أن النسخة التي اعتمد عليها الشيخ أوثق من نسخة ناشر الأصل، لذا اعتمدنا لفظ الإتحاف).
وقس على الاستواء جميع ما هو ثابت من نصوص الصفات، يثبتون كل ذلك بلا تشبيه ولا تمثيل، ويؤولون – إذا استحال الظاهر – بلا تعطيل، يثبتون ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان نبيّه ‘ بعد أن ينزهوه تعالى عن كل ما لا يليق به سبحانه من ظاهر اللفظ، وهذا القدر من معنى اللفظ هو المنفي عندهم لاستحالة أن يتصف الله تعالى به، وهو القدر الذي يجب نفيه، ومثبته لا محالة واقع في التشبيه أو التجسيم أو مائل إليه.
على أن التأويل ليس عنه محيص، وكل الذين يفرون منه مضطرون إليه لا محالة، وإلا فماذا عساهم أن يقولوا في مثل قوله تعالى ( نسوا الله فنسيهم ) وقوله سبحانه ( اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا )
وقوله عزّ وجلّ ( وهو معكم أينما كنتم )
وقوله سبحانه ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا )
وقوله تعالى ( الله يستهزئ بهم )
وقوله تعالى ( والله خير الماكرين )
وقوله تعالى ( يخادعون الله وهو خادعهم )
وقوله ‘ (لا يملّ الله حتى تملّوا).
وقوله ‘ في الحديث القدسي حاكياً عن ربّه عزّ وجلّ (.. ومن أتاني يمشي أتيته هرولة).
وقوله ‘ في الحديث القدسي حاكياً عن ربه تعالى (عبدي مرضت فلم تعدْني).
وقوله ‘ (فإن موسى الله أحدّ من موساك، وساعدَ الله أشدّ من ساعدك).
وقوله ‘ (إن الله تعالى حَييٌّ كريم يستحيي من عبده أن يرفع يديه فيردّهما صفراً ليس فيهما شيء).
وقوله ‘ (إن الله يضحك…).
وقوله ‘ (إن الله يغار…).
وقوله ‘ (إن الله يعجب…).
وغير ذلك من النصوص، أتراهم يثبتون ظواهرها وحقائقها المعهودة المعروفة بين البشر أيضاً، فيقولون:
نثبت لله نسياناً حقيقياً ومكراً حقيقياً وخداعاً حقيقياً واستهزاءً حقيقياً ومرضاً حقيقياً وهرولة حقيقية وسـاعداً شديداً حقيقياً، وموسى حادّةً حقيقية، ومللاً حقيقياً، وعجباً وغيرةً وحيـاءً وتردداً وضحكاً ومعيّةً وقرباً بالذات والمسافات، كلّ ذلك على الحقيقة؟!!
ولا نظن أن أحداً يماري ويكابر في استحالة هذه الظواهر وفي نفيها عن الله تعالى، فكذا ظاهر الاستواء والنزول والمجيء ونحوها يجب نفيه ومنعه لاتحاد العلّة في الجميع وهي استحالة الظاهر والحقيقة.
قال الحافظ ابن عساكر – رحمه الله تعالى – (تبيين كذب المفتري ص/ 388):
(فإنهم – يعني الأشاعرة – بحمد الله ليسوا معتزلة، ولا نفاة لصفات الله معطلة، لكنهم يثبتون له سبحانه ما أثبته لنفسه من الصفات، ويصفونه بما اتصف به في محكم الآيات، وبما وصفه به نبيّه ‘ في صحيح الروايات وينزهونه عن سمات النقص والآفات، فإذا وجدوا من يقول بالتجسيم أو التكييف من المجسمة والمشبهة، ولقوا من يصفه بصفات المحدثات من القائلين بالحدود والجهة فحينئذ يسلكون طريق التأويل، ويثبتون تنزيهه تعالى بأوضح الدليل، ويبالغون في إثبات التقديس له والتنزيه خوفاً من وقوع من لا يعلم في ظُلم التشبيه، فإذا أمنوا من ذلك رأوا أن السكوت أسلم، وترك الخوض في التأويل إلا عند الحاجة أحزم، وما مثالهم في ذلك إلا مثل الطبيب الحاذق الذي يداوي كلّ داء من الأدواء بالدواء الموافق، فإذا تحقق غلبة البرودة على المريض داواه بالأدوية الحارّة، ويعالجه بالأدوية الباردة عند تيقنه منه بغلبة الحرارة، وما هذا في ضرب المثال إلا كما رُويَ عن سفيان: إذا كنت بالشام فحدّث بفضائل عليّ رضي الله عنه، وإذا كنت بالكوفة فحدّث بفضائل عثمان رضي الله عنه.
وما مثال المتأوّل بالدليل الواضح إلا مثال الرجل السابح، فإنه لا يحتاج إلى السباحة ما دام في البر، فإن اتفق له في بعض الأحايين ركوب البحر، وعاين هوله عند ارتجاجه وشاهد منه تلاطم أمواجه، وعصفت به الريح حتى انكسر الفُلك، وأحاط به إن لم يستعمل السباحة الهُلك، فحينئذ يسبح بجهده طلباً للنجاة، ولا يلحقه فيها تقصير حبّاً للحياة، فكذلك الموحّد ما دام سالكاً محجّة التنزيه، آمناً في عقده من ركوب لجّة التشبيه، فهو غير محتاج إلى الخوض في التأويل لسلامة عقيدته من التشبيه والأباطيل، فأما إذا تكدّر صفاء عقده بكدورة التكييف والتمثيل، فلا بدّ من تصفية قلبه من الكدر بمصفاة التأويل، وترويق ذهنه براووق الدليل، لتسلم عقيدته من التشبيه والتعطيل) اهـ.
وقال الإمام أبو نصر القشيري رحمه الله تعالى (إتحاف السادة المتقين 2 / 108):
(فإن قيل: أليس الله يقول ( الرحمن على العرش استوي ) ؟ فيجب الأخذ بظاهره.
قلنا: الله يقول أيضاً ( وهو معكم أينما كنتم ) ويقول تعالى ( ألا إنّه بكلِّ شئ محيط ) فينبغي أيضاً أن تأخذ بظاهر هذه الآيات حتى يكون – تعالى – على العرش وعندنا ومعنا ومحيـطاً بالعالم محدقاً به بالذات في حالة واحدة، والواحد يستحيل أن يكون بذاته في كلّ مكان. قالوا: قوله تعالى ( وهو معكم ) يعني بالعلم، و ( بكل شـئ محيط ) إحاطة العلم.
قلنا: وقوله تعالى ( على العرش استوي ) قهر وحفظ) اهـ.
وقال الإمام وحجّة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى (الإحياء 1 / 108):
(الأصل الثامن: العلم بأنه تعالى مستوٍ على عرشه بالمعنى الذي أراده الله تعالى بالاستواء، وهو الذي لا ينافي وصف الكبرياء، ولا يتطرق إليه سمات الحدوث والفناء، وهو الذي أريد بالاستواء إلى السماء حيث قال في القرآن ( ثم استوي إلى السماء وهى دخان ) وليس ذلك إلا بطريق القهر والاستيلاء.. واضطرّ أهل الحق إلى هذا التأويل كما اضطرّ أهل الباطل إلى تأويل قوله تعالى ( وهو معكم أينما كنتم ) إذ حمل ذلك بالاتفاق على الإحاطة والعلم وحمل قولـه ‘ (قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن) على القدرة والقهر، وحمل قوله ‘ (الحجر الأسود يمين الله في أرضه) على التشريف والإكرام، لأنه لو ترك على ظاهره للزم منه المحال، فكذا الاستواء لو ترك على الاستقرار والتمكن لزم منه كون المتمكن جسماً مماسّاً للعرش إما أكبر منه أو أصغر، وذلك محال، وما يؤدّي إلى المحـال فهو محال)’اهـ.
ولقد نقل العلماء الإجماع على أن هذه الظواهر غير مرادة للشارع، من ذلك ما ذكره الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن القطان الفاسي – رحمه الله تعالى – حيث قال: (الإقناع في مسائل الإجماع 1 / 32 – 34):
(وأجمعوا أنه تعالى يجيء يوم القيامة والملك صفاً صفاً لعرض الأمم وحسابها وعقابها وثوابها، فيغفر لمن يشاء من المؤمنين ويعذب منهم من يشاء كما قال تعالى، وليس مجيئه بحركة ولا انتقال.
وأجمعوا أنه تعالى يرضى عن الطائعين له، وأن رضاه عنهم إرادته نعيمهم.
وأجمعوا أنه يحب التوّابين ويسخط على الكـافرين ويغضب عليهم، وأن غضبه إرادته لعذابهم، وأنه لا يقوم لغضبه شيء) اهـ.
أتراهم أجمعوا على باطل حين أجمعوا على نفي الظاهر المحال في لفظ المجيء والرضا والغضب؟! وهل تجتمع أمة محمد ‘ على ضلالة وبدعة؟! أم تراهم عطلوا صفات الباري عز وجل؟!
وقد مرَّ معنا قول القاضي عياض (شرح مسلم 5 / 24):
(لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السمـاء كقوله تعالى ( ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ) ونحوه ليست على ظاهرها بل متأوّلة عند جميعهم) اهـ.
وقال الإمام الزاهد القدوة أبو عمرو الداني رحمه الله تعالى (الرسالة الوافية لمذهب أهل السنة في الاعتقادات ص / 124):
(إن الله تعالى لم يزل مريداً، وشائياً، ومحبّاً، ومبغضاً، وراضياً، وساخطاً، وموالياً ومعادياً، ورحيماً، ورحماناً، وأن جميع هذه الصفات راجعة إلى إرادته في عباده، ومشيئته في خلقه لا إلى غضب يغيّره، ورضاً يسكن طبعاً له، وحنق وغيظ يلحقه، وحقد يجده، وأنه تعالى راضٍ في أزله عمّن علم أنه بالإيمان يختم عمله ويوافي به، وغضبان على من يعلم أنه بالكفر يختم عمله ويكون عاقبة أمره) اهـ.
وقال أيضاً في نزول الربّ جلّ وعزّ (ص / 135):
(ونزوله تبـارك وتعـالى كيف شـاء، بلا حدّ، ولا تكييـف، ولا وصف بانتقال ولا زوال) اهـ.
وقال ـ رحمه الله تعالى ـ في استوائه تعالى (ص / 130):
(واستواؤه جلّ جلاله علوّه بغير كيفية ولا تحديد ولا مجاورة ولا مماسة) اهـ.
فهل كان هؤلاء الأئمة معطلين حين صرفوا هذه الألفاظ عن ظاهرها، وحملوها على المجازات والاستعارات؟!
بهذا تعلم – تولّى الله هدانا وهداك – أن التعطيل الذي يُرمى به الأشاعرة والماتريدية وهم جماهير أعلام الأمة إنما هو عين التقديس والتنزيه، والذي يرفض ما ذهبوا إليه، ويصرّ على إثبات ما نفوه يقع حتماً بالتجسيم والتشبيه، إذ إن هذا القدر من معنى اللفظ الذي نفاه الأشاعرة ونزهوا الله تعالى عنه يحرم إثباته ووصفُ الله تعالى به لما يلزم منه من اللوازم الباطلة المحالة.
وعلى الجملة فأقوال سلف الأمة وخلفها مطبقة على تنزيـه الله تعالى عن هذه الظواهر المحالة، وفي ما نقلناه مقنع لمن أنصف.
نخلص من هذا إلى أن التأويل بشرطه وضوابطه شعارٌ سُنّيٌّ ومنهج شرعي أصيل لا مناص من الأخذ به لفهم كتاب الله تعالى وسنة نبيّه صلى الله على وسلم، وليس شعاراً للبدعة والضلالة أو التعطيل، وأن من يحمل المتشابه من نصوص الصفات على الظواهر المعهودة لدى الخلق هو الواقع في التعطيل، لأنه عطل المعنى المفهوم من النص وصدف به عن القصد.
* * * * *