الخلاف في العقيدة
الخلاف في العقيدة
هل كل خلاف في العقيدة سواء كان في الأصول أو في الفروع يترتب عليه الكفر أو الضلالة، والبدعة والفسق؟
وهل وقع بين الصحابة وعلماء السلف الطيب خلاف في العقائد؟
وهل وقع بينهم رضي الله عنهم على إثر ذلك الخلاف تضليل لبعضهم أو تفسيق؟
عند الإجابة على هذه الأسئلة يتضح خطأ الذين يجازفون بتضليل الأشاعرة والماتريدية وعلماء الأمة وأعلامها وكل من خالفهم بغير علم ولا روية.
وكان الأجدر بهم – وحال الأمة من التفكك والتشرذم يدمى له قلب كل غيور – أن يُحمل الخلاف إذا وجد على محامل حسنة تتفق مع صدر ديننا الرحب، ويُلتمس العذر قدر المستطاع كي لا يزيدوا في فرقة الأمة وتشتتها، ويعينوا عليها أعداءها، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً.
ولبيان قضية الخلاف في العقيدة نقول:
إن العقيدة تنقسم إلى أصول وفروع، والأصول تنقسم كذلك إلى أصول الدين وأصول مذهب أهل السنة والجماعة، أما أصول الدين، مثل: وجود الله تعالى ووحدانيته وبقاؤه وقدمه، وحدوث العالم، وهو كل ما سوى الله تعالى من الموجودات، وصدق الرسل والأنبياء، ونحو ذلك من القضايا، فحكم المخالف فيها الخروج من الملة بلا خلاف لكونها أعمدة الدين وأسسه التي ينبني عليها، ومثال المخالفين فيها أصحاب الديانات والنحل الأخرى كاليهودية والنصرانية والمجوسية والبوذية..إلخ
نقل الإمام النووي – رحمه الله تعالى – عن الإمام المتولي قوله (روضة الطالبين 10 / 64):
(من اعتقد قدم العالم أو حدوث الصانع أو نفى ما هو ثابت للقديم بالإجماع، ككونه عالماً قادراً، أو أثبت ما هو منفي عنه بالإجماع، كالألوان، أو أثبت له الاتصال والانفصال، كان كافراً، وكذا من جحد جواز بعثة الرسل، أو أنكر نبوة نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، أو كذبه، أو جحد آية من القرآن مجمعاً عليها، أو زاد في القرآن كلمة واعتقد أنها منه، أو سبَّ نبياً أو استخف به، أو استحل محرماً بالإجماع، كالخمر والزنى واللواط، أو حرم حلالاً بالإجماع، أو نفى وجوب مجمع على وجوبه، كركعة من الصلوات الخمس، أو اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع، كصلاة سادسة وصوم شوال، أو نسب عائشة رضي الله عنها إلى الفاحشة، أو ادعى النبوة بعد نبينا ‘، أو صدق مدّعياً لها، أو عظم صنماً بالسجود له، أو تقرب إليه بالذبح باسمه فكل هذا كفر) اهـ.
وهنا قضية هامة وخطرة لابد من التعريج عليها قبل الانتقال إلى الخلاف في أصول أهل السنة والجماعة بشيء من البسط حسب ما يقتضيه المقام، وهي قول الإمام المتولي (أو أثبت له الاتصال أو الانفصال) فجعل إثبات الاتصال والانفصال لله تعالى من الأمور المكفرة ووافقه على ذلك الإمام النووي، وسيأتي معنا أقوال العلماء التي تنزه الله تعالى عن الاتصال والانفصال والمكان والحيز والجهة وكل ما لا يليق به من صفات المخلوقين.
والاتصال والانفصال هو الدخول والخروج الذي ينزه أهل السنة الله تعالى عن الاتصاف بأحدهما.
هذه القضية من الأهمية والخطورة بمكان، ولولا عدم الفهم لها فهماً صحيحاً من قبل هؤلاء الذين ينكرون على الأشاعرة لأجلها ما أدرجناها هنا لدقتها، بيد أننا سنحاول أن لا ندخل في تفاصيلها وسنكتفي بالبيان الإجمالي وبنقل أقوال العلماء المحذرة من وصف الله تعالى بأي شيء من ذلك، ومن أراد الاستزادة والتفصيل فليراجع المسألة في مظانها من كتب العقائد.
كثيرا ما نقرأ أو نسمع من البعض التصريح بوصف الله تعالى بأنه (بائن من خلقه بذاته!!) وهذا القول هو ما حذر العلماء منه، لأن البينونة بالذات هي الانفصال الذي حكم العلماء بحرمة وصف الله تعالى به كما مر من قول المتولي وإقرار النووي رحمهما الله، وكما سيأتي من نصوص غيرهما من العلماء، فهذا القول – وهو قولهم بائن بذاته – فضلا عن كونه قولاً ممتنعاً عقلاً فهو أيضاً قولٌ مبتدع لم يرد في كتاب ولا سنة ولا على لسان أحد من الصحابة أو التابعين.
وإليك أقوال العلماء في إنكار لفظة (بذاته):
قال الحافظ الذهبي أثناء ترجمة ابن الزاغوني (سير أعلام النبلاء19/607):
(قد ذكرنا أن لفظة بذاته لا حاجة إليها، وهي تشغب النفوس، وتركها أولى، والله أعـلــم) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني عند شرحه لحديث “إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة…” الحديث، قال:(وفيه – أي الحديث – الرد على من زعم أنه على العرش بذاته) اهـ.
وقال الحافظ الذهبي في كتاب (العلو / ص263) بعد أن نقل قول يحيى بن عمار: (بل نقول هو بذاته على العرش وعلمه محيط بكل شيء) قال الذهبي (قولك “بذاته”من كيسك) اهـ.
وقال أيضاً في ترجمة الحافظ أبي القاسم إسماعيل بن محمد التيمي (سير أعلام النبلاء 20/86):
(قلت: الصواب الكف عن إطلاق ذلك،إذ لم يأت فيه نص، ولو فرضنا أن المعنى صحيح فليس لنا أن نتفوه بشيء لم يأذن به الله خوفاً من أن يدخل القلب شيء من البدعة. اللهم احفظ علينا إيماننا) اهـ.
وافتراض الذهبي لصحة المعنى محمول على ما ذكره صاحب الترجمة من المعاني الصحيحة للفظة (بذاته) لا على المعنى الظاهر المتبادرإلى الذهن منها.
وقال الإمام بدر الدين بن جماعة رحمه الله تعالى في كتابه (إيضاح الدليل ص/107):
(فمن جعل الاستواء في حقه تعالى ما يفهم من صفات المحدثين وقال: استـوى بذاته، أو قال: استوى حقيقة فقد ابتدع بهذه الزيادة التي لم تثبت في السنة ولا عن أحد من الأئمة المقتدى بهم) اهـ.
وقال الحافظ الذهبي في (العلو/ ص 256):
(وقد نقموا عليه ـ يعني ابن أبي زيد القيرواني ـ في قوله بذاته. فليته تركها) اهـ.
هذا مع اليقين بأن الإمام ابن أبي زيد القيرواني لم يُرِدْ بهذه اللفظة – إذا صحَّت عنه([1]) – المعنى الذي يريده البعض من ذكرها، كما هو بيّن وجليّ من أقوال شراح رسالته، وهو أشعري محب للإمام أبي الحسن كما هو واضح من جوابه لمن لامه في حُبِّه، قال: (ما الأشعري إلا رجل مشهور بالردِّ على أهل البدع وعلى القدرية والجهمية متمسك بالسنن) اهـ، وقد ذكره التاج السبكي ضمن الطبقة الثانية من الأشاعرة الذين فات الحافظ ابن عساكر ذكرهم في كتابه ” التبيين ” (تبيين كذب المفتري ص/123، طبقات الشافعية الكبرى 3/ 368، 372).
وقال الإمام ابن عبدالبر رحمه الله (الاستذكار 8 /153):
(وقد قالت فرقة منتسبة إلى السنة: إنه – تعالى – ينزل بذاته! وهذا قول مهجور، لأنه تعالى ذِكْرُه ليس بمحل للحركات ولا فيه شيء من علامات المخلوقات.) اهـ.
وقال الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى (السير 20/331، في ترجمة كوتاه):
(وكذا قوله ( وجاء ربك ) ونحوه، فنقول: جاء، وينزل، وننهى عن القول: ينزل بذاته، كما لا نقول: ينزل بعلمه، بل نسكت ولا نتفاصح على الرسول صلى الله عليه وسلم بعبارات مبتدعة، والله أعلم) اهـ.
وبهذا يتضح أن لفظة بذاته غير ثابتة عن سلف الأمة الطيب ويأباها العقل والنقل. فأي حجة أقوى من هذه الحجة ونصوص الأئمة لا تحتمل معها أي معنى آخر، ونحن إذ نثبت هذا لا نحتم على مخالفينا اتباع ما نقول، كلاَّ، وإنما حسبنا أن يكفُّوا عن إساءتهم لعلماء الأمة وأئمة الهدى الذين لا يفتأون يُجرِّحونهم ويقعون في أعراضهم!! قـال أبـو الحسيـن ابن المنـادي – رحمـه الله – كمــا نقله ابن الجـوزي مـن خطّه (دفع شبه التشبيه 192):
(ولسنا نختلف أن الجبار لا يعلوه شيء من خلقه بحال، وأنه لا يحلّ بالأشياء بنفسه، ولا يزول عنها، لأنه لو حل بها لكان منها، ولو زال عنها لنأى عنها..) اهـ.
وقول ابن المنادي (وأنه لا يحلّ بالأشياء بنفسه ولا يزول عنها) هو عين ما يعنيه العلماء بقولهم: إن الله تعالى لا يوصف بالاتصال والانفصال والدخول والخروج.
وابن المنـادي هو الإمام أحمد بن جعفر المقرئ الحافظ كما وصفه الذهبي(السير 15 / 361)قال: (قال عنه الدانيّ: مقرئ جليل غاية في الإتقان، فصيح اللسان، عالم بالآثار، نهاية في علم العربية، صاحب سنة ثقة مأمون.) اهـ.
قال العلامة ابن خلدون رحمه الله تعالى (المقدمة ص/868):
(يقع كثيراً في كلام أهل العقائد من علماء الحديث والفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته، ويقع للمتكلمين أنه لا مباين ولا متصل، ويقع للفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه… فلنبينْ تفصيل هذه المذاهب ونشرحْ حقيقة كلِّ واحد منها حتى تتضح معانيها، فنقول: إن المباينة تقال لمعنيين أحدهما: المباينة في الحيز والجهة، ويقابلها [أي المباينة بهذا المعنى] الاتصال، وتُشعِر هذه المقابلة على هذه التقيدَ بالمكان إمّا صريحاً وهو تجسيم، أو لزوماً وهو تشبيه من قبيل القول بالجهة، وقد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التصريح بهذه المباينة، فيحتمل غير هذا المعنى، ومن أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة، وقالوا: لا يقال في البارئ أنه مباينٌ مخلوقاتَه ولا متصل بها، لأن ذلك إنما يكون للمتحيزات، وما يقال من أن المحلَّ لا يخلو عن الاتصاف بالمعنى وضدّه [أي نقيضه] فهو مشروط بصحة الاتصاف أولاً، وأمّا مع امتناعه فلا، بل يجوز الخلوُّ عن المعنى وضدِّه كما يقال في الجماد لا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا كاتب ولا أمّي، وصحة الاتصاف بهـذه المباينـة [أي المباينة في الحيز والجهة] مشروط بالحصول في الجهة، على ما تقرر من مدلولها، والبارئ منزه عن ذلك، ذكره ابن التلمساني في شرح اللمع لإمام الحرمين، وقال: ” ولا يقال في البارئ مباين للعالم ولا متصل به، ولا داخل فيه ولا خارج عنه. “…..
وأما المعنى الآخر للمباينة فهو المغايرة والمخالفة، فيقال: البارئ مباين لمخلوقاته في ذاته وهويته ووجوده وصفاته، ويقابله الاتحاد والامتزاج والاختلاط، وهذه المباينة هي مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السلف وعلماء الشرائع والمتكلمين والمتصوفة الأقدمين كأهـل الرسالـة [أي من جاء ذكرهم في رسالة القشيري] ومن نحا منحاهم) اهـ.
وقال ابن الجوزي- رحمه الله تعالى – (دفع شبه التشبيه ص 130):
(فإن التجاور والتباين من لوازم المتحيز في المتحيزات، وقد ثبت أن الاجتماع والافتراق من لوازم المتحيز، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالتحيز… وكذا ينبغي أن يقال: ليس بداخل العالم وليس بخارج منه، لأن الدخول والخروج من لوازم المتحيزات وهما كالحركة والسكون وسائر الأعراض التي تختص بالأجرام…. وكلام هؤلاء كله مبني على الحس، وقد حملهم الحس على التشبيه والتخليط) اهـ.
ولقد فرعوا على القول بأن الله تعالى بائن بذاته من خلقه ـ وهي بينونة حسية ـ وعلى إثبات الحد له سبحانه وتعالى، فرعوا على ذلك القول بالجهة لله تعالى أي أنه تعالى بجهة الفوق حساً ويشار إليه بالإشارة الحسية، ونسبوا لله تعالى المكان.
وهذه أقوال الأئمة الثقات بنفي الجهة عن الله تعالى وتنزيهه عن المكان:
* تنزيه الإمام مالك لله تعالى عن الجهة والمكان والعلو والنزول الحسي:
ذكر الإمام قاضي القضاة ناصر الدين بن المنير الإسكندري المالكي في كتابه” المنتقى في شرف المصطفى “لما تكلم على الجهة وقرر نفيها قال:
(ولهذا أشار مالك رحمه الله تعالى في قوله ” لا تفضلوني على يونس بن متى ” فقال مالك: إنما خص يونس للتنبيه على التنزيه لأنه، رفع إلى العرش ويونس عليه السلام هبط إلى قاموس البحر ونسبتهما مع ذلك من حيث الجهة إلى الحق جل جلاله نسبة واحدة ولو كان الفضل بالمكان لكان عليه السلام أقرب من يونس بن متى وأفـضـل، ولَمَا نهى عن ذلك) اهـ.
ثم أخذ الإمام ناصر الدين يبين أن الفضل بالمكانة لا بالمكان لأن العرش في الرفيق الأعلى فهو أفضل من السفلى. (إتحاف السادة المتقين 2/ 105).
وقال الإمام مالك رضي الله عنه في تأويله للنزول في الحديث (ينزل أمره كل سحر، فأما هو عز وجل فإنه دائم لا يزول ولا ينتقل، سبحانه لا إله إلا هو) اهـ. (التمهيد 7 / 143، شرح صحيح مسلم للنووي 6/ 37، سير أعلام النبلاء 8 / 105، الإنصاف لابن السيد البطليوسي ص / 81) قال الإمام ابن عبد البر بعد نقله لقول مالك: (وقد يحتمل أن يكون كما قال مالك رحمه الله على معنى أنه تتنزل رحمته وقضاؤه بالعفو والاستجابة) ثم قال بعد أن ذكر قول الذين يقولون: ينزل بذاته. قال رحمه الله تعالى: (ليس هذا بشيء عند أهل الفهم من أهل السنة، لأن هذا كيفية، وهم يفزعون منها لأنها لا تصلح إلا فيما يحاط به عياناً وقد جل الله وتعالى عن ذلك).
* قول الإمام الطبري في نفي العلو الحسي:
قال الإمام ابن جرير الطبري – رحمه الله تعالى – عند تفسير قوله عز وجل ( وه القاهر فوق عباده ) (7 / 103) قال (فهو فوقهم بقهره إياهم وهم دونه) فجعل – رحمه الله – فوقية الله على عباده فوقية القهر، وعباده دونه أي تحته من هذه الحيثية.
وقال أيضاً مؤولاً علو الله تعالى على عرشه ونافياً للاستقرار والتحيز (1 / 192): (علا عليه علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال) اهـ.
* قول القاضي عياض في صرف ألفاظ المتشابه عن ظاهرها ونقله اتفاق الأمة على ذلك:
قال – رحمه الله تعالى – (إكمال المعلم 2/465، شرح صحيح مسلم للنووي 5 / 24):
(لا خلاف بين المسلمين قاطبة فقيههم ومحدثهم ومتكلمهم ونظارهم ومقلدهم أن الظواهر الواردة بذكر الله تعالى في السمـاء كقوله تعالى ( ءَأَمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ) ونحوه ليست على ظاهرها بل متأولة عند جميعهم) اهـ.
* قول الإمام النووي:
قال ـ رحمه الله تعالى ـ (روضة الطالبين 10 / 85):
(ولو قال – يعني الكافر – لا إله إلا ساكن السماء، لم يكن مؤمناً، وكذا لو قال لا إله إلا الله ساكن السماء، لأن السكون محال على الله) اهـ.
وقال أيضاً ـ رحمه الله تعالى ـ في شرح حديث الجارية (شرح مسلم 5 / 24):
(هذا حديث من أحاديث الصفات وفيها مذهبان، أحدهما الإيمان به من غير خوض في معناه مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شيء وتنزيهه عن سمات المخلوقات.
والثاني: تأويله بما يليق. فمن قال بهذا قال: كأن المراد امتحان الجارية هل هي موحدة تُقرّ بأن الخالق المدبر الفعال هو الله وحده وهو الذي إذا دعاه الداعي استقبل السماء، كما إذا صلّى المصلّي استقبل الكعبة، وليس ذلك لأنه منحصر في السماء كما أنه ليس منحصراً في جهة الكعبة، بل ذلك لأن السماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلّين، أو هي من عبدة الأوثـان التي بين أيديهم، فلما قـالت: في السمـاء عُلم أنها موحـدة وليست عابـدة للأوثان) اهـ.
* قول الحافظ ابن حجر العسقلاني:
قال – رحمه الله تعالى – (الفتح 6 / 158): (ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله أن لا يوصف بالعلو، لأن وصفه بالعلو، من جهة المعنى، والمستحيل كون ذلك من جهة الحس) اهـ.
وقال – أيضاً – معلقاً على حديث “إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه أو إن ربه بينه وبين القبلة فلا يبزقن أحدكم قبل قبلته “:
(وفيه رد على من زعم أنه – تعالى – على العرش بذاته) اهـ (الفتح 1 /508).
وقال أيضاً منزهاً لله تعالى عن الجهة والمكان عند كلامه على حديث ” لا شخص أغير من الله ” (الفتح 13 / 413):
(وكأن لفظ الشخص أطلق مبالغة في إثبات إيمان من يتعذر على فهمه موجود لا يشبه شيئاً من الموجـودات، لئلا يفضي به إلى النفي والتعطيـل، وهو نحو قولـه ‘ للجارية ” أين الله ” قالت: ” في السماء “، فحكم بإيمانها مخافة أن تقع في التعطيل لقصور فهمها عمّا ينبغي له من تنزيهـه مما يقتضـي التشبيـه تعـالى الله عن ذلك علوّا كبيراً) اهـ.
وقال أيضاً ناقلاً قول ابن بطال مؤيداً له (الفتح 13/397):
(والله منزه عن الحلول في المواضع، لأن الحلول عرض يفنى، وهو حادث، والحادث لا يليق بالله.) اهـ.
وقال في شرحه لحديث النزول (الفتح 3 / 37):
(استدل به من أثبت الجهة وقال: هي جهة العلوّ، وأنكر ذلك الجمهور، لأن القول بذلك يفضي إلى التحيز تعالى الله عن ذلك. وقد اختلف في معنى النزول على أقوال:
فمنهم من حمله على ظاهره وحقيقته وهم المشبهة، تعالى الله عن قولهم.
ومنهم من أنكر صحة الأحاديث الواردة في ذلك جملة، وهم الخوارج والمعتزلة، وهو مكابرة…
ومنهم من أجراه على ما ورد مؤمناً به على طريق الإجمال منزهاً الله تعالى عن الكيفية والتشبيه وهم جمهور السلف، ونقله البيهقي وغيره عن الأئمة الأربعة والسفيانين والحمّادين والأوزاعي والليث وغيرهم.
ومنهم من أوّله على وجه يليق مستعمل في كلام العرب… ومنهم من فصل بين ما يكون تأويله قريباً مستعملاً في كلام العرب وبين ما يكون بعيداً مهجوراً، فأوّل في بعض وفوّض في بعض، وهو منقول عن مالك وجزم به من المتأخرين ابن دقيق العيد)’اهـ.
* قول الإمام ابن الجوزي:
قال – رحمه الله تعالى – (دفع شبه التشبيه. ص / 136):
(اعلم أن كل من يَتصور وجود الحق سبحانه وجوداً مكانياً طَلَبَ له جهة، كما أن من تخيل أن وجوده وجود زماني طلب له مدة في تقدمه على العالم بأزمنة، وكلا التخيلين باطل.
وقد ثبت أن جميع الجهات تتساوى بالإضافة إلى القائل بالجهة، فاختصاصه ببعضها ليس بواجب لذاته، بل هو جائز فيحتاج إلى مخصص يخصصه ويكون الاختصاص بذلك المعنى زائداً على ذاته وما تطرق الجواز إليه استحال قدمه، لأن القديم هو الواجب الوجود من جميع الجهات، ثم إن كل من هو في جهة يكون مقدّراً محدوداً وهو يتعالى عن ذلك، وإنما الجهات للجواهر والأجسام لأنها أجرام تحتاج إلى جهة، والجهة ليست في جهة، وإذا ثبت بطلان الجهة ثبت بطلان المكان، ويوضحه أن المكان يحيط بمن فيه والخالق لا يحويه شيء ولا تحدث له صفة) اهـ.
وقوله رحمه الله تعالى (والجهة ليست في جهة) أراد أن يردّ فيه زعم الزاعم: لا يُتَعقَّل موجود ليس في جهة. توصّلاً بهذا إلى إثبات الجهة لله تعالى، إذ الجهة موجودة عند هذا الزاعم وهي ليست في جهة من نفسها، إذ لو كانت كذلك لتسلسل الأمر إلى غير نهاية، وهذا باطل، فثبت أن الجهة موجودة بلا جهة، وبه ينتقض زعمهم: لا يُتَعقَّل موجود ليس في جهة من الجهات.
وقال القاضي أبو يعلى (دفع شبه التشبيه 137):
(إن الله عزّ وجلّ لا يوصف بالمكان) اهـ.
قال الإمام ابن الجوزي بعد نقله لقول أبي يعلى الفراء (دفع شبه التشبيه 138):
(فإن قيل: نفي الجهات يحيل وجوده. قلنا: إن كان الموجود يقبل الاتصال والانفصال فقد صدقت، فأمّا إذا لم يقبلهما فليس خلوّه من طرف النقيض بمحال.
فإن قيل: أنتم تلزموننا أن نقرّ بما لا يدخل تحت الفهم. قلنا: إن أردت بالفهم التخيل والتصور فإن الخالق لا يدخل تحت ذلك، إذ ليس يحس ولا يدخل تحت ذلك إلا جسم له لون وقدر، فإن الخيال قد أنس بالمبصرات فهو لا يتوهم شيئاً إلا على وفق ما رآه لأن الوهم من نتائج الحس، وإن أردت أنه لا يعلم بالعقل فقد دللنا أنه ثابت بالعقل، لأن العقل مضطر إلى التصديق بموجب الدليل.
واعلم أنك لمّا لم تجد إلا حسّاً أو عرضاً وعلمت تنزيه الخالق عن ذلك بدليل العقل الذي صرفك عن ذلك، فينبغي أن يصرفك عن كونه متحيزاً أو متحركاً أو منتقلاً.
ولمّا كان مثل هذا الكلام لا يفهمه العامّي قلنا: لا تسمعوه ما لا يفهمه ودعوا اعتقاده لا تحركوه، ويقال إن الله تعالى استوى على عرشه كما يليق به) اهـ.
وهذا واضح في أن الأصل في النصوص المتشابهة التفويض ما لم تدْعُ حاجة إلى التأويل، وهو ما كان عليه جمهور السلف الصالح كما سيأتي من أقوال العلماء التي تفيد ذلك، وأنهم ـ نعني السلف ـ لو وُجد في أزمانهم ما حدث بعد ذلك لجهروا بالتأويل، كيف وقد ثبت التأويل عن جماعات منهم؟!
* قول الإمام القشيري:
قال الإمام القشيري – رحمه الله تعالى – (إتحاف السادة المتقين 2 / 108): (فالرب موصـوف بالعلو وفوقيـة الرتبة والعظمة منزه عن الكون في المكـان وعن المحاذاة) اهـ.
* قول قاضي القضاة ابن المنير:
نقل الحـافظ ابن حجر عن ابن المنيـر مؤيّداً له في تنزيـه الله تعــالى عن المكان والجهة (فتح الباري 13 / 429):
(قال ابن المنير… قوله ” رب العرش “… نبّه [يعني البخاري] على بطلان قول من أثبت الجهة أخذاً من قوله ” ذي المعارج ” ففَـهِمَ – أي مثبت الجهة – أن العلوّ الفوقي مضاف إلى الله تعالى، فبين المصنف [يعني البخاري] أن الجهة التي يصدق عليها أنها سماء والجهة التي يصدق عليها أنها عرش كل منهما مخلوق مربوب محدث، وقد كان الله قبل ذلك وغيره، فحدثت هذه الأمكنة، وقدمه – تعالى – يحيل وصفه بالتحيز فيها والله أعلم) اهـ.
وبهذا تتفق كلمة البخاري وابن المنير والحافظ ابن حجر رحمهم الله تعالى في هذا النص على تنزيه الله تعالى عن المكان والجهة، وهذا قول جميع المنزهين.
* قول الإمام البيضاوي:
وقال الإمام البيضاوي – رحمه الله تعالى – (فتح الباري 3 / 37):
(ولما ثبت بالقواطع أنه سبحانه منزه عن الجسمية والتحيز امتنع عليه النزول على معنى الانتقال من موضع إلى موضع أخفض منه، فالمراد نور رحمته، أي ينتقل من مقتضى صفة الجـلال التي تقتضي الغضب والانتقـام إلى مقتضى صفة الإكرام التي تقتضي الرأفة والرحمة) اهـ.
* قول الإمام القرطبي:
وقال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى ( وهو القاهر فوق عباده ) (6 / 399): (ومعنى فوق عباده، فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم، أي أنهم تحت تسخيره لا فوقية مكان) اهـ.
نخلص من هذا إلى أن القول بأن الله تعالى ساكن في السماء، أو أنه على العرش بذاته أو ينزل بذاته أو استوى على العرش بذاته أو على الحقيقة، أو أنه تعالى بائن من خلقه بذاته، كل ذلك وصف لله بما يستحيل في حقه تعالى عقلاً ونقلاً، فهذه نصوص واضحة قاطعة بتنزيه الله تعالى عن المكان والجهة والحيز والاتصال والانفصال والدخول والخروج، وقاضية على من أثبت شيئاً من ذلك لله تعالى بالتشبيه.
ولا يفهم من قول أهل الحق: إن الله تعالى لا يوصف بأنه داخل العالم ولا بأنه خارج العالم. بأنهم يصفونه تعالى بالعدم، معاذ الله، كلا، وإنما مرادهم أن إطلاق هذا اللفظ على الله تعالى لا يجوز وهو منزه عنه، هذا مع إثباتهم أن الله تعالى ليس حالاًّ في العالم وليس شيء من العالم حالاًّ فيه تعالى، أما الدخول والخروج والاتصال والانفصال فلا يجوز أن يضاف شيء منها إلى الله تعالى لأنها من صفات الأجسام.
أما ما جاء في الكتاب والسنة من الألفاظ التي ظاهرها إثبات الجهة والمكان لله تعالى فهي ـ قطعاً وباتفاق علماء السلف والخلف ـ مصروفة عن ظاهرها وحقائقها كما مرّ من أقوال العلماء، ولا خلاف بين المسلمين في ذلك كما نقل الإمام النووي عن القاضي عياض قوله المار قريباً.
وهذا الذي ذكرناه في هذه القضية الهامة إنما كان موضعه – في الأصل – كتب أهل الاختصاص ومجالس العلم التي يُفهم فيها مدلولات الألفاظ، ولكن ما الحيلة وقد أصبح مثل هذا الكلام الخطر والمسلك الوعر ندرة المجالس وحديث العامة في كل مكان، فتجد من لا يعرف نواقض الوضوء وأركان الصلاة وأحكام العبادات يرفع عقيرته بالكلام عن أعظم قضية في الإسلام بلا خوف أو وجل نعني بذلك صفات الله تعالى، وما هذا إلا بسبب ترديد مثل هذه النصوص المتشابهة التي نهى العلماء عن التحدث بها كما مرَّ من قول الإمام مالك وكما قال الإمام ابن رشد معقِّباً على قول مالكٍ ومبيناً لسبب نهيِهِ عن ذلك، قال: (وإنما نهى مالك… مخافة أن يُتحدث بها، فيكثر التحدث بها، وتشيع في الناس فيسمعها الجهال الذين لا يعرفون تأويلها فيسبق إلى ظنونهم التشبيه بها) اهـ.
فاضطررنا إلى ذكره هنا تبياناً للحق، وتنبيهاً على ما وقع بين الناس من فهم غير صحيح لهذه القضية.
عود على بدء، قد بينا الخلاف في أصول الديانات وحكم المخالف في شيء منها، بقي أن نذكر الخلاف في أصول أهل السنة والجماعة، وهذه الأصول لا يحكم على المخالف فيها بالتكفير بيد أن الخلاف فيها غير يسير بل جد خطير.
ومثال هذه الأصول ثبوت عذاب القبرونعيمه والصراط والميزان، والكف عن صحابة رسول الله ‘ والترضي عليهم، والقدر، وعدم تكفير أهل المعاصي من الموحدين، وغير ذلك من المسائل والقضايا التي اتفقت عليها كلمة أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين وتابعيهم. وحكم المخالف في شيء من ذلك الفسق والضلال والخروج عن دائرة أهل السنة والجماعة، وما كان عليه رسول الله ‘ وأصحابه. أعاذنا الله من الفتن.
أما الفروع العقدية وهي ما سوى هذين القسمين مثل جزئيات العقيدة ونمثل لها هنا بما حدث بين الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من اختلاف في رؤية النبي ‘ ربه ليلة عرج به إلى السماء، فأثبتها بعضهم كابن عباس، ونفاها البعض كأم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنهم أجمعين، وكتعذيب الميت ببكاء أهله عليه، فأثبته بعضهم ونفاه آخرون. وغير ذلك من المسائل الجزئية الغيبية، ويلحق بهذا النوع من الاختلاف المشروع الذي حدث بين سلف الأمة الطيب الاختلاف في تفويض المتشابهات وتأويلها، فقد نقل العلماء عن السلف أن جمهورهم كان على مذهب التفويض وعن جماعات منهم أنهم أخذوا بالتأويل من هؤلاء ـ نعني الذين قالوا بالتأويل ـ سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من الصحابة وأكابر التابعين وتابعيهم.
وعلى الجملة فإن الخلاف في هذا النوع من القضايا لا يترتب عليه شيء قطعاً، إذ لم ينقل عن الصحابة أو السلف عموماً أنهم ضللوا بعضهم بعضاً بسبب شيء من ذلك خصوصاً وأن اختلافهم في مثل هذه القضايا مستفيض مشهور.
وما حدث بين طوائف أهل السنة من اختلاف في بعض المسائل ملحق بهذا النوع من الاختلاف، نحو ما حدث بين الأشاعرة والماتريدية، فكله لا يستلزم تضليلاً ولا تبديعاً.
قال الحافظ بن عساكر – رحمه الله تعالى – (تبين كذب المفترى ص / 409):
(الأصحاب مع اختلافهم في بعض المسائل كلهم أجمعون، على ترك تكفير بعضهم بعضاً مجمعون، بخلاف من عداهم من سائر الطوائف وجميع الفرق، فإنهم حين اختلفت بهم مستشنعات الأهواء والطرق كفر بعضهم بعضاً، ورأى تبرِّيه ممن خالفه فرضاً) اهـ.
وقال الإمام تاج الدين السبكي – رحمه الله تعالى – (طبقات الشافعية 3 / 378):
(تفحصت كتب الحنفية فوجدت جميع المسائل التي بيننا وبين الحنفية خلاف فيها ثلاث عشر مسألة، منها معنوي ست مسائل، والباقي لفظي، وتلك الست المعنوية لا تقتضي مخالفتهم لنا ولا مخالفتنا لهم فيها تكفيراً ولا تبديعاً صرح بذلك الأستاذ أبو منصور البغدادي وغيره من أئمتنا وأئمتهم وهو غني عن التصريح لظهوره)’اهـ.
وقال العلامة ملا علي القاري – رحمه الله تعالى – (مرقاة المفاتيح 1/ 206):
(وما وقع من الخلاف بين والماتريدية والأشعرية في مسائل فهي ترجع إلى الفروع في الحقيقة، فإنها ظنيات فلم تكن من الاعتقادات المبنية على اليقينيات، بل قال بعض المحققين إن الخُلْفَ بينهما في الكل لفظي) اهـ.
بهذا يتبين خطأ الذين يسارعون في تضليل مخالفيهم وتبديعهم معممين لأحكامهم وغير مراعين لنوع القضايا التي يقع فيها الخلاف، لا سيما المسائل التي نقل عن السلف الطيب خلاف فيها دون إنكار من بعضهم على بعض.
ويتبين أيضاً مجازفة أولئك الذين يضللون الأشاعرة والماتريدية جهلاً ودون روية، متجاهلين كل النصوص المنقولة عن علماء الأمة بالتنويه بفضلهم، ومتجاهلين أيضا كون قضية التفويض والتأويل التي يضللونهم بسببها منقولة عن الصحابة والسلف الطيب، وأنها من نوع المسائل التي لا يترتب عليها ضلال أو بدعة.
* * * * *
([1]) قال العلامة الكوثري رحمه الله في تعليقه على تبيين كذب المفتري في هامش ص/123 (يطبق شراح رسالته على أن هذه اللفظة إما مدسوسة أو من قبيل الاحتراس بالرفع أي: المجيد بذاته لا بالخدم والخول).