الشبهة الثالثة المتعلقة بكتاب الإبانة
الرد على القضية الثانية
كتاب الإبانة هو دليل ومعتمد من يقول بمرور الإمام الأشعري بثلاث مراحل في حياته، والذي لا ريب فيه أن الإمام قد سلك في هذا الكتاب وفي غيره من الرسائل التي نسبت له أسلوباً مختلفاً في التأليف، فهو في الغالب قد سلك مسلك جمهور السلف في المتشابهات، نعني بذلك أنه قد أخذ بطريق التفويض، ففهم البعض من ذلك أن الإمام قد رجع عن طريق ابن كلاب الذي كان عليه إلى طريق السلف!
ونحن قد أثبتنا في الحديث حول القضية الثانية أن ابن كلاب لم يكن مخالفاً للسلف بل هو منهم وعلى طريقهم وسالكٌ لمسلك التفويض كما مر من قول الحافظ ابن حجر في الرد على ابن النديم حين وصف ابن كلاب بأنه من الحشوية، قال: ( يريد من يكون على طريق السلف في ترك التأويل … ويقال لهم المفوضة ) ا.هـ ( لسان الميزان 3/291)، وهذا كافٍ في الردِّ لمن تأمل وأنصف.
لكننا نزيد على ذلك ونقول:
إن كتاب الإبانة الذي هو معتمد أصحاب هذه الدعوى، وهو الدليل عندهم على رجوع الإمام عن طريق ابن كلاب، نقول: إن هذا الكتاب بذاته ينقض دعوى رجوع الإمام عن هذا الطريق، لأنه مؤلَّف على طريقة ابن كلاّب وعلى منهجه، فكيف يرجع عن طريق ابن كلاب ثم يؤلف آخر كتبه على طريقته؟!
قال الحافظ ابن حجر في (لسان الميزان 3/291) ( وعلى طريقته ـ يعني ابن كلاّب ـ مشى الأشعري في كتاب الإبانة) اهـ.
وهذا يزيدنا يقيناً على يقين بأن الإمام ابن كلاب كان على طريق السلف الصالح ومن أئمتهم، لأن الإبانة التي ألَّفها الإمام الأشعري في آخر حياته على منهج السلف هي مؤلَّفة على طريقة الإمام ابن كلاب، وهذا يقتضي قطعاً أن طريق السلف وطريق ابن كلاب هما في حقيقة الأمر طريق واحد وهو ما كان عليه الإمام الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال.
أي أن الإمام لم يمرَّ بثلاث مراحل في حياته، بل هما مرحلتان فقط، مرحلة الاعتزال ثم أعقبتها مرحلة العودة إلى طريق السلف التي كان عليها ابن كلاب والمحاسبي والقلانسي والكرابيسي والبخاري ومسلم وأبو ثور والطبري وغيرهم، وهي المرحلة التي ألَّف الإمام فيها كتاب الإبانة.
ويُروى أن الإمام الأشعري عندما ألَّف الإبانة رفضها بعض حنابلة([1]) بغداد تعصّبـاً ولـم يقبلـوها منـه (انظرسيرأعلام النبلاء 15/90، طبقات الحنابلة 2/18، الوافـي بالوفيات 12/146) وهـذا يؤيد ما مرَّ من أن الإبانة مؤلَّفة على طريقة ابن كلاب الذي هجره بعض الحنابلة فيمن هجروه من الأئمة لأجل مسألة اللفظ وأخذهم بعلم الكلام للرد على المخالفين من المعتزلة وغيرهم.
وهذا الذي ذكرناه عن كتاب الإبانة، إنما أردنا به الإبانة التي صنّفها الإمام، وليست الإبانة المتداولة والمطبوعة اليوم، وذلك لما حدث على هذا الكتاب من التحريف والنقص والزيادة.
قال العلامة الكوثري رحمه الله تعالى في مقدمة كتاب ” تبيين كذب المفتري “:
(والنسخة المطبوعة في الهند من الإبانة نسخة مصحفة محرفة تلاعبت بها الأيدي الأثيمة، فيجب إعادة طبعها من أصل موثوق)’اهـ.
وقال أيضاً (مقدمته على كتاب إشارات المرام من عبارات الإمام للعلامة البياضي):
(ومن العزيز جدّاً الظفر بأصلٍ صحيح من مؤلفاته على كثرتها البالغة، وطبْعُ كتاب الإبانة لم يكن من أصل وثيق، وفي المقالات المنشورة باسمه وقفة) اهـ.( وانظر أيضاً تعليقه على السيف الصقيل ص155-196 ).
وهذا أيضاً ما ذهب إليه الدكتورعبد الرحمن بدوي مؤيداً للعلامة الكوثري (مذاهب الإسلاميين 1/516) قال:
(وقد لاحظ الشيخ الكوثري بحق أن النسخة المطبوعة في الهند.. تلاعبت بها الأيدي الأثيمة..) اهـ.
كما لاحظ ذلك غيرهم من الدارسين (انظر مذاهب الإسلاميين 1/517 وما بعدها).
وللشيخ وهبي غاوجي حفظه الله رسالة في هذا الموضوع بعنوان ” نظرة علمية في نسبة كتاب الإبانة جميعه إلى الإمام أبي الحسن ” أتى فيها بأدلة موضوعية تدل على أن قسماً كبيراً مما في الإبانة المتداولة اليوم بين الناس لا يصح نسبته للإمام الأشعري.
وقد طبع كتاب الإبانة طبعة قوبلت على أربع نسخ خطية بتحقيق الدكتورة فوقية حسين، وهي طبعة وإن كانت أحسن حالاً من المطبوعة قبلُ إلا أنها لم تخلُ من التحريف والنقص والزيادة أيضاً، وهذا لعله يصحح ما ذهب إليه العلامة الكوثري رحمه الله تعالى حين قال (ومن العزيز جدّاً الظفر بأصلٍ صحيح من مؤلفاته على كثرتها البالغة).
وقد نقل الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى في كتاب تبيين كذب المفتري فصلين من الإبانة، وعند مقارنة الإبانة المطبوعة المتداولة مع طبعة الدكتورة فوقية مع الفصلين المنقولين عند ابن عساكر يتبين بوضوح قدر ذلك التحريف الذي جرى على هذا الكتاب.
وهذه بعض الأمثلة على ذلك:
* جاء في الإبانة المطبوعة ص16 ما نصُّه (وأنكروا أن يكون له عينـان مـع قولـه تجري بأعيننا..) ا.هـ. هكذا بالتثنية!
* وعند ابن عساكر ص157 (وأنكروا أن يكون له عين…) بإفراد لفظ العين.
* وجاء في المطبوعة ص18 (وأن له عينين بلا كيف..)
* وفي طبعة الدكتورة فوقية ص22 (وأن له سبحانه عينين بلا كيف) هكذا، كلاهما بالتثنية!
* وعند ابن عساكر ص158 (وأن له عيناً بلا كيف..) بإفراد لفظ العين.
والإفراد هو الموافق للكتاب والسنة وأقوال السلف، وهذا نصٌّ واضح في التلاعب بنسخ الكتاب، ولفظ العينين لم يردْ في القرآن ولا في السنة، ومن ثنَّى فقد قاس الله تعالى على المحسوس المشاهد من الخلق، تعالى الله وتقدس عن ذلك.
قال العلامة الكوثري رحمه الله تعالى في تعليقه على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي في هامش ص313 : (لم ترد صيغة التثنية في الكتاب ولا في السنة، وما يروى عن أبي الحسن الأشعري من ذلك فمدسوس في كتبه بالنظر إلى نقل الكافة عنه) ثم قال: (قال ابن حزم: لا يجوز لأحد أن يصف الله عز وجل بأن له عينين لأن النص لم يـأت بـذلك) اهـ.
وقال ابن عقيل معلقاً على حديث الدجال (دفع شبه التشبيه ص263):
(يحسب بعض الجهلة أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما نفى العور عن الله عز وجل أثبت من دليل الخطاب أنه ذو عينين، وهذا بعيد من الفهم، إنما نفى العور من حيث نفي النقائص..) اهـ.
وقال ابن الجوزي في الرد على من أثبت لله تعالى عينين (دفع شبه التشبيه ص114):
(قلت: وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبتوا عينين من دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام: ” وإن الله ليس بأعور ” وإنما أراد نفي النقص عنه تعالى) اهـ.
ومن أمثلة التحريف فيه أيضاً القدح بالإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه:
فقد جاء في الإبانة المطبوعة ص57 (وذكر هارون بن إسحاق الهمداني عن أبي نعيم عن سليمان بن عيسى القاري عن سفيان الثوري، قال: قال لي حماد بن أبي سليمان: بلِّغ أبا حنيفة المشرك أنِّي منه بريء. قال سليمان: ثم قال سفيان: لأنه كان يقول القرآن مخلوق.
وذكر سفيان بن وكيع قال عمر بن حماد بن أبي حنيفة قال أخبرني أبي قال: الكلام الذي استتاب فيه ابن أبي ليلى أبا حنيفة هو قوله: القرآن مخلوق. قال: فتاب منه وطاف به في الخلق. قال أبي: فقلت له كيف صرت إلى هذا؟ قال: خفت أن يقوم عليّ، فأعطيته التقيّـة.
وذكر هارون بن إسحاق قال سمعت إسماعيل بن أبي الحكم يذكر عن عمر بن عبيد الطنافسي أن حمّاداً ـ يعني ابن أبي سليمان ـ بعث إلى أبي حنيفة: إني بريء مما تقول، إلا أن تتوب. وكان عنده ابن أبي عقبة، قال، فقال: أخبرني جارك أن أبا حنيفة دعاه إلى ما استتيب منه بعد ما استتيب.
وذكر عن أبي يوسف قال: ناظرت أبا حنيفة شهرين حتى رجع عن خلق القرآن) اهـ.
ترى هل نحن بحاجة إلى إثبات كذب مثل هذه الأخبار وأنها مدسوسة في كتاب الإمام الأشعري، أم أنه يكفي عزوها إلى الإبانة المطبوعة لكي يُعلم تحريفها وتلاعـب الأيـدي فيها؟!
وفي طبعة الدكتورة فوقية ص90-91 جاء بعد الخبر الأول بعد قول سفيان: لأنه يقول القرآن مخلوق. ما نصُّه: (وحاشى الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنه من هذا القول بل هو زور وباطل فإن أبا حنيفة من أفضل أهل السنة) اهـ.
وجاء فيها بعد قول ابن أبي عقبة: أخبرني جارك أن أبا حنيفة دعاه لما استتيب منه بعد ما استتيب. ما نصُّه: (وهذا كذب محض على أبي حنيفة رضي الله عنه) اهـ.
قال العلامة الكوثري رحمه الله تعالى في تعليقه على كتاب الاختلاف في اللفظ لابن قتيبة، في هامش ص49، ما نصُّه (ومن غريب التحريف ما دُسَّ في بعض نسخ الإبانة للأشعري كما دُسَّ فيها أشياء أخر من أن حمّاد بن أبي سليمان قال ” بلِّغ أبا حنيفة المشرك أني بريء من دينه ” وكان يقول بخلق القرآن. فإن لفظ حمّاد ” بلّغ أبا فلان ” لا أبا حنيفة! كما في أول خلق الأفعال للبخاري، وجعل من لا يخاف الله لفظ ” أبا حنيـفة ” فـي موضـع ” أبا فلان ” والله أعلم من هو أبو فلان هذا، وما هي المسألة..) اهـ.
وفي كتاب الاعتقاد للبيهقي ( ص 112 ) :
( روّينا عن محمد بن سعيد بن سابق أنه قال : سألت أبا يوسف فقلت : أكان أبو حنيفة يقول القرآن مخلوق؟ فقال : معاذ الله، ولا أنا أقوله. فقلت : أكان يرى رأي جهم؟ فقال : معاذ الله، ولا أنا أقوله. رواته ثقات ) اهـ.
وقال الشيخ وهبي غاوجي حفظه الله (نظرة علمية في نسبة كتاب الإبانة جميعه… ص20):
(ولا بأس أن نقول: لو كان الإمام الأشعري رحمه الله تعالى نسب حقاً إلى الإمام ـ يعني أبا حنيفة ـ القول بخلق القرآن لما كان للإمام الأشعري تلك المكانة العالية عند الحنفية أتباع الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى. فلا تلتفت أيها القارئ إلى تلك النقول المبتورة مبتدأً والباطلة سنداً، وأحسن الظن بالإمام الأشعري كما تحسن الظن بإمام الأئمة الفقهاء وسائر الأئمة رضوان الله تعالى عليهم. وتذكر أنه أُدخِل الكثيرُ من الأباطيل على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، رُكّبت لها أسانيد باطلة، لكلمات باطلة. كذلك ولا تنس أنه حُشِر في كتب كثير من العلماء كلماتٌ وعبارات وحذف منها كلمـات وعبارات حتى في حيـاة أصحابها) اهـ.
ومن هذه الأمثلة أيضاً ما جاء في الطبعة المتداولة عند ذكر الاستواء ص69 (إن قال قائل: ما تقولون في الاستواء؟ قيل له نقول: إن الله عز وجل مستوٍ على عرشه كما قال : ( الرحمن على العرش استوى )
وفي طبعة الدكتورة فوقية ص105 (.. نقول إن الله عز وجل استوى على عرشه استواءً يليق به من غير حلول ولا استقرار..)
فالعبارة الأخيرة محذوفة من الطبعة المتداولة!!
وفي ص73 من الإبانة المتداولة (فكل ذلك يدل على أنه تعالى في السماء مستوٍ على عرشـه، والسماء بإجماع الناس ليست الأرض، فدل على أن الله تعالى منفرد بوحدانيته مستوٍ على عرشه) اهـ.
وفي طبعة الدكتورة فوقية ص113 (فدل على أنه تعالى منفرد بوحدانيته مستوٍ على عرشه استواءً منزهاً عن الحلول والاتحاد) اهـ.
إلى غير ذلك من عشرات الأمثلة الدالَّة دلالة قاطعة على تحريف الكتاب، والقاضية بعدم جواز اعتبار معظمه ممثلاً لعقيدة الإمام الأشعري إلا في ما وافق قول الكافة من أهل العلم والنقل عنه.
فإذا ثبت ـ كما مرَّ معنا ـ تاريخيّاً أن الإمام بعد رجوعه عن الاعتزال كان على منهج السلف وأهل السنة، وإذا ثبت أيضاً أن الإمام ابن كلاب كان من أئمة السلف وعلى نهـج السنة، وإذا ثبت أيضاً أن كتاب الإبانة الذي بنيت عليه هذه الدعوى من أساسها هو في حقيقة الأمر مؤلف على طريقة ابن كلاب التي هي ذاتها طريقة السلف، إذا ثبت ذلك ثبت بناءً عليه أن الإمام لم يمرَّ بثلاث مراحل في حياته، وإنما هما مرحلتان مرحلة الاعتزال في بداية حياته ثم مرحلة عودته ورجوعه إلى طريق السلف.
ولا نعلم لمن يقول بهذه الدعوى دليلاً على ما ذهب إليه إلا الاعتماد على أسلوب الإبانة وبعض الرسائل الأخرى والطريقة التي كتبت عليها، لأن الإمام قد سلك في الإبانة طريق التفويض، وهي طريقة جمهور السلف، وهي في حقيقتها لا تنافي بينها وبين طريق التأويل بشرطه، والأشاعرة يعتقدون كل ما في الإبانة ـ نعني الإبانة الصحيحة التي كتبها الإمام وليست الإبانة المحرفة ـ ويعقدون عليه خناصرهم، إذ كلٌّ من التفويض والتأويل حق لا اعتراض عليه، وكلا الطريقين مأثور عن الصحابة والسلف كما سيأتي بيانه، وكلا الطريقين متفقان على التنزيه بعد إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، وكلاهما متفقان على استبعاد الظاهر وما يعهده الخلق من عالمهم.
قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى (التبيين ص388):
(بل هم ـ يعني الأشاعرة ـ يعتقدون ما فيها ـ أي الإبانة ـ أسدّ اعتقاد، ويعتمدون عليها أشدّ اعتماد، فإنهم بحمد الله ليسوا معتزلة ولا نفاة لصفات الله معطلة، لكنهم يثبتون له سبحانه ما أثبته لنفسه من الصفات، ويصفونه بما اتصف به في محكم الآيات، وبما وصفه به نبيّه صلى الله عليه وسلم في صحيح الروايات، وينزهونه عن سمات النقص والآفات) اهـ.
وهذا الذي قاله الحافظ ابن عساكر منطبق على كتاب الإبانة الذي ألفه الإمام، أما ما يوجد اليوم في أيدي الناس منها فلا ثقة به ولا يصح أن يمثل ـ في الغالب ـ اعتقاد الإمام أو الأشاعرة كما أثبتنا ذلك، إلا فيما وافق قول الكافة.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى (تبيين كذب المفتري ص389):
(ولم يزل كتاب الإبانة مُستصوباً عند أهل الديانة، وسمعت الشيخ أبا بكر أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن بشار البوشنجي المعروف بالخسروجـردي الفقيه الزاهد يحكي عن بعض شيوخه أن الإمام أبا عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني النيسابوري ما كان يخرج إلى مجلس درسه إلا وبيده كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري، ويظهر الإعجاب به، ويقول: ماذا الذي يُنكر على من هذا الكتاب شرح مذهبه([2]). فهذا قول الإمام أبي عثمان وهو من أعيان أهل الأثر بخراسان.) اهـ.
فانظر إلى قدر كتاب الإبانة وصاحبه عند أعلام الأمة، فهذا شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني رحمه الله تعالى وهو من هو جلالة وعلماً وزهداً([3]) يثني هذا الثناء العاطر على الإمام أبي الحسن وكتابه الإبانة، ومنه تعلم أن شيخ الإسلام أبا عثمان الصابوني أيضاً كان على طريق الإمام الأشعري، كيف لا وقد تولّى تربيته وتهذيبه الإمام أبو الطيب سهل بن أبي سهل الصعلوكي، وهو ـ أبو الطيب ـ من طبقة أصحاب أصحاب الإمام الأشعري، أي من الطبقة الثانية، وكان يحضر مجالس أبي عثمان أئمةُ الوقت كالأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني والأستاذ الإمام أبي بكر بن فورك وسائر الأئمة، وهؤلاء من أعلام أمة الإسلام من السادة الأشاعرة، وثناؤهم عليه وثناؤه عليهم يدلّ على أنهم على طريق واحد رحمهم الله تعالى ورضي عنهم. (انظر ترجمة شيخ الإسلام الصابوني في تاريخ مدينة دمشق 9/3، سير أعلام النبلاء 18/40، الطبقات الكبرى للتاج السبكي 4/271).
بعد كل ما مرَّ، وبعد كل هذه الأدلة، هل يصح وفقاً للمنهج العلمي للبحث أن تهمل جميع هذه البراهين التاريخية والعقلية والعلمية، ثم يؤخذ بكلام استنباطي لا يرقى إلى مستوى الظن، وليس له ما يؤيده من النقل والعقل؟!
ولو بالغنا واعتبرنا ما اعتمدت عليه هذه الدعوى دليلاً لما أمكن الأخذ به علمياً لأن الدليــل متى ما تطرق إليه الاحتمال كساه ثوب الإجمال وسقط به الاستدلال، كما هو مقرر في علم الأصول، هذا إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال مجرد تطرق، فكيف يكون الحال إذا قارب هذا الاحتمال حدَّ اليقين كما مرَّ من أدلـة تحريف الإبانة؟!
بيد أننا سنبالغ في الافتراض ونقول: هَبْ – جدلاً – أن كتاب الإبانة المتداول غير محرَّفٍ، وأنه ثابت النسبة إلى الإمام الأشعري، وأنه قد رجع فعلاً عن ما كان يعتقده من التـنـزيـه
فهل يلزم الأمة أن تتابعه في هذا الأمر؟!
إن من يعتقد ذلك يسيء الظن بعقول أكثر من عشرة قرون من العلماء والأئمة، وينسبهم إلى التقليد الأعمى في العقائد، ويغيب عنه أن الأمة نُسِبت إلى الإمام الأشعري من حيث كونه وقف حاملاً لواء السنة على طريق السلف في وجه أصحاب البدع والأهواء، لا لأنهم قلّدوه في ما ذهب إليه، فمتى ما رجع عن اعتقاده رجعوا ! كلا.
فهم في الحقيقة منتسبون إلى رسول الله ‘ والسلف الصالح، وما الإمام الأشعري رحمه الله وغيره من أئمة أهل السنة إلا أدلاّء على الطريق ، ومن يروج لمثل هذه الدعاوى يريد أن يقول بلسان حال هذه الدعوى وأمثالها أن هذا الذي رجع عنه هؤلاء الأكابر لو كان حقاًّ ما رجعوا عنه! فالحق عنده يعرف بمن قال به وتبناه وليس بما اعتضد به من أدلة وبراهين! وهل أُتِيَ من أتِيَ إلا من قبل هذا الأمر الذي هو تعظيم الكبراء إلى الحدِّ الذي أعمى أعينهم عن الأخطاء، فاتبعوهم مقلدين لهم في أخطائهم معتقدين أنها هي الحق الذي لا يأتيه الباطل ولا يتطرق إليه.
ولله درُّ الإمام ابن الجوزي ما أصدق عبارته فقد أصاب المحزّ وطبّق المفصل حيث قال (صيد الخاطر ص187):
(قد قال أحمد بن حنبل رحمة الله عليه: من ضيق علم الرجل أن يقلد في دينه الرجال. فلا ينبغي أن تسمع من مُعَظَّمٍ في النفوس شيئاً في الأصول فتقلده فيه، ولو سمعت عن أحدهم ما لا يوافق الأصول الصحيحة، فقل: هذا من الراوي، لأنه قد ثبت عن ذلك الإمام أنه لا يقول بشيء من رأيه. فلو قدَّرنا صحته عنه فإنه لا يُقَلَّد في الأصول، ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما. فهذا أصلٌ يجب البناء عليه، فلا يهولنَّك ذكرُ معظَّمٍ في النفوس) اهـ.
لقد أطنبنا في مناقشة هذه القضية، وما كنا لنفعل ذلك لولا أن تمسك بها البعض واعتبرها أمراً مسلَّماً ثم ذهب يبني عليها ويؤسس، فاقتضى الأمر التفصيل، وإلا فإن القضية أهون من ذلك بكثير، إذ كان يكفينا مؤنة النقاش القول المأثور (البينة على من ادعى) ولا بينة ثمَّ ولا قرينة.
ومهما عظُمَ قدرُ القائل بهذه الدعوى فإنه لن يغير من شأن الحقيقة شيئاً، لأن أي دعوى إنما هي تبعٌ للبراهين والأدلة التي تثبتها فتكون حقيقة أو تنفيها فتكون خطأً ووهماً يجب الرجوع عنه، وكلٌّ يؤخذ منه ويردُّ عليه إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، والحق أحق وأثمن ما يطلبه المسلم.
وإذ علمت هذا ـ وفقنا الله تعالى وإياك ـ فَدعْ عنك من قال إذ الحق لا يعرف بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله، وعليك بما قيل إن كان حقاً، وإلاّ فالرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل.
* * * * *
([1]) قيدنا هذا الرفض بأنه من بعض الحنابلة، لأنه لم تزل طائفة كبيرة من الحنابلة يوالون الإمام الأشعري ويحبونه وينتسبون إليه، قال الحافظ ابن عساكـر في ” التبيين ” ص389 أثناء ردّه على الأهوازي الذي استشهد بالقصة من أجل إثبات رفض الحنابلة للإمام الأشعري ولكتابه الإبانة، ما نصّه: (فلو كان الأمر كما قال لنقلوه عن أشياخهم وأظهروه، ولم أزل أسمع ممن يوثق به أنه ـ الإمام ـ كان صديقاً للتميميين سلف أبي محمد رزق الله بن عبدالوهاب ابن عبدالعزيز بن الحارث، وكانوا له مكرمين، وقد ظهر أثر بركة تلك الصحبة على أعقابهم، حتى نسب إلى مذهبه أبو الخطاب الكلوذاني من أصحابهم، وهذا تلميذ أبي الخطاب أحمد الحربي يخبر بصحة ما ذكرته وينبي، وكذلك كان بينهم وبين صاحبه أبي عبدالله بن مجاهد وصاحب صاحبه أبي بكر بن الطيب ـ الباقلاني ـ من المواصلة والمؤاكلة ما يدلّ على الاختلاق من الأهوازي..) اهـ. وانظر أيضاً ص163 من نفس الكتاب.
(2) وهذا المذهب هو ما كان عليه ابن كلاب لأن الإبانة مؤلفة على طريقته، وعليه. يمكن أن نعتبر ثناء شيخ الإسلام الصابوني هذا على الإبانة وأبي الحسن ثناءً على ابن كلاب – ضمناً – لينضم إلى أقوال الأئمة السابقة في الثناء عليه وتزكيته.
([3]) قال عنه التاج السبكي: الملقب بشيخ الإسلام، لقبه أهل السنة في بلاد خراسان، فلا يعنون عند إطلاقهم هذه اللفظة غيرَه.