جهود أهل السنة في الذود عن الدين والرد على المبتدعين
جهود أهل السنة في الذود عن الدين والرد على المبتدعين
نظرة عابرة إلى كتب التراجم والتواريخ والسير والعلوم الأخرى الشرعية وغيرها كفيلة بإقناع من تجرد للحقيقة وأزاح عن عينيه غشـاوة التقليد والتعصّب بفضل الأشاعرة والماتريدية.
فأوّل ما يلحظه المطّلع على كتب التراث هذا الجهد الهائل الجبّار الذي بذله أعلام المسلمين وأئمة الدين من الأشاعرة والماتريدية في نصرة الإسلام وتوطيد عقائده والذود عن حرماته وتحصين ثغوره، ونشر العلم في مشارق الأرض ومغاربها.
جهود هي عند المنصف غرّة في جبين الدهر، وإكليل غار على ناصية التاريخ.
وحريٌّ بنا في هذا البحث الذي أردنا به نصرة الحقّ وإظهار فضائل أهل الفضل أن ننوّه بهذه الجهود المباركة ونذكر طرفاً منها، ليطّلع القارئ على ما تقرُّ به عينه من تاريخ أمته المشرق والمشرّف.
من ذلك ما جاء في كتاب ” الفرق بين الفرق ” (ص / 283) للإمام الفذ الفرد عبد القاهر البغدادي قال رحمه الله تعالى:
(اعلم أنه لا خصلة من الخصال التي تُعدُّ في المفاخر لأهل الإسلام من المعارف والعلوم وأنواع الاجتهادات إلا ولأهل السنة والجماعة في ميدانها القدح المعلّى والسهم الأوفر.
فدونك أئمة أصول الدين وعلماء الكلام من أهل السنة، فأوّل متكلميهم من الصحابة عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه….. ثم عبد الله بن عمر….. وأول متكلمي أهل السنة من التابعين عمر بن عبد’العزيز وله رسالة بليغة في الردّ على القدرية.
ثم زيد بن عليّ زين العابدين…. ثم الحسن البصري…. ثم الشعبي…. ثم الزهري…. ومن بعد هذه الطبقة جعفر بن محمد الصادق…. وأوّل متكلميهم من الفقهاء وأرباب المذاهب أبو حنيفة والشافعي…. وكان أبو العباس بن سريج أبرع الجماعة في هذه العلوم…. ثم من بعدهم الإمام أبو الحسن الأشعري الذي صار شجاً في حلوق القدرية، ومن تلامذته المشهورين أبو الحسن الباهلي وأبو عبد الله بن مجاهد وهما اللذان أثمرا تلامذة هم إلى اليوم شموس الزمان وأئمة العصر كأبي بكر محمد بن الطيب ـ الباقـلانـي ـ وأبي إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفراييني، وابن فورك….. وكذلك أئمة الإرشاد والتصوّف كانوا على توالي القرون على هذا المنهج السديد في المعتقد، وكذلك جمهرة أهل النحو واللغة والأدب كانوا على معتقد أهل السنة….. وكذلك أئمة القراءة وحملة التفسير بالرواية من عهد الصحابة إلى عهد محمد بن جرير الطبري وأقرانه ومن بعدهم كانوا كلهم أهل السنة، وكذلك المفسرون بالدراية إلا بعض أفراد من أهل البدعة، وكذلك مشاهير علماء المغازي والسير والتواريخ ونقد الأخبار وحملة الرواية من أهل السنة والجماعة، فيظهر بذلك أن جماع الفضل في العلوم في أهل السنة والجماعة. حشرنا الله سبحانه في زمرتهم) اهـ.
وقال أيضاً – رحمه الله تعالى – (ص / 240):
(الفصل الأوّل من فصول هذا الباب في بيان أصناف أهل السنة.
صنف منهم: أحاطوا علماً بأبواب التوحيد… وسلكوا في هذا النوع من العلم طرق الصفاتية من المتكلمين الذين تبرءوا من التشبيه والتعطيل… وسائر أهل الأهواء الضالة.
والصنف الثاني منهم: أئمة الفقه من فريقي الرأي والحديث من الذين اعتقدوا في أصول الدين مذاهب الصفاتية في الله وفي صفاته الأزلية…
الصنف الثالث منهم: هم الذين أحاطوا علماً بطرق الأخبار والسنن المأثورة عن النبيّ ‘ وميزوا بين الصحيح والسقيم منها، وعرفوا أسباب الجرح والتعديل، ولم يخلطوا علمهم بذلك بشيء من بدع أهل الأهواء الضالة.
الصنف الرابع منهم: قوم أحاطوا علماً بأكثر أبواب الأدب والنحو والتصريف، وجَرَوْا على سمت أئمة اللغة كالخليل وأبي عمرو بن العلاء وسيبويه والفرّاء والأخفش والأصمعي والمازني وأبي عبيد وسائر أئمة النحو من الكوفيين والبصريين…. ومن مال منهم إلى شيء من الأهواء الضالة لم يكن من أهل السنة ولا كان قوله حجّة في اللغة والنحو.
الصنف الخامس منهم: هم الذين أحاطوا علماً بوجوه قراءات القرآن وبوجوه تفسير آيات القرآن وتأويلها على وفق مذاهب أهل السنة دون تأويلات أهل الأهواء الضالة.
الصنف السادس منهم: الزهاد الصوفية الذين أبصروا فأقصروا واختبروا فاعتبروا…. وجرى كلامهم في طريق العبارة والإشارة على سمت الحديث دون من يشتري لهو الحديث.
الصنف السابع منهم: قوم مرابطون في ثغور المسلمين في وجوه الكفرة يجاهدون أعداء المسلمين ويحمون حمى المسلمين…. ويظهرون في ثغورهم مذاهب أهل السنة والجماعة.
والصنف الثامن منهم: عامّة البلدان التي غلب فيها شعائر أهل السنة، دون عامّة البقاع التي ظهر فيها شعار أهل الأهواء الضالة، وإنما أردنا بهذا الصنف من العامّة، عامّة اعتقدوا تصويب علماء السنة والجماعة، ولم يعتقدوا شيئاً من بدع أهل الأهواء الضالة… فهؤلاء أصناف أهل السنة والجماعة، ومجموعهم أصحاب الدين القويم والصراط المستقيم) اهـ.
وقال الإمام الكبير أبو المظفر الإسفراييني – رحمه الله تعالى – (التبصير في الدين ص / 187): (أما العلوم:
فأوّلها: الرقيّ في مدارج الفضل والأدب الذي هو ترجمان جميع العلوم، ومعرض جميع الفوائد الفاخرة في الدنيا والآخرة، إذ لا سبيل إلى تفسير القرآن وأخبار الرسول ‘ إلا بمعرفة الأدب.
وجميع الأئمة في النحو واللغة من أهل البصرة والكوفة في دولة الإسلام كانوا من أهل السنة والجماعة وأصحاب الحديث والرأي…. وكذلك لم يكن في أئمة الأدب أحد إلا وله إنكارٌ على أهل البدعة شديد، وبعدٌ من بدعهم بعيد….
وثانيها: علم تفسير القرآن….
وثالثها: العلوم المتعلقة بأحاديث المصطفى ‘….
ورابعها: علوم الفقه ويختصّ بالتبحّر فيه أصحاب الحديث وأصحاب الرأي….
خامسها: علوم المغازي والسير والتواريخ… وليس لأهل البدعة من هو رأس في شيء من هذه العلوم فهي مختصّة بأهل السنة…
سادسها: علم التصوف والإشارات… ولم يكن قطّ لأحد من أهل البدعة فيه حظّ…
وسابعها: علم أصول الدين وإن لأهل السنة والجماعة التفرّد بأكثر من ألف تصنيف في أصول الدين…
وأما أنواع الاجتهادات الفعلية التي مدارها على أهل السنة والجماعة في بلاد الإسلام فمشهورة مذكورة…. ومن آثارهم الاجتهادية سدُّهم ثغور الإسلام والمرابطة بها في أطراف الأرض، مثل ثغور الروم وأرمينية، وانسداد جميعها ببركات أصحاب الحديث، وأما ثغور بلاد الترك فمشتركة بين أهل الحديث والرأي….
فبان لك بما ذكرناه من مساعي أهل السنة والجماعة في العلوم والاجتهادات أنهم أهل الاجتهاد والجهاد…) اهـ.
هذا هو شأن أهل السنة، وهذا هو قدْرهم، فما الذي ينقمه منهم خصومهم؟!
ولله درُّ الحـافظ ابن عساكر – رحمه الله تعالى – حيث يقول (تبيين كذب المفتري ص / 367): (فيا ليت شعري ماذا الذي تنفر منه القلوب عنهم – يعني الأشاعرة – أم ماذا ينقم أرباب البدع منهم؟!
أغزارة العلم، أم رجاحة الفهم، أم اعتقاد التوحيد والتنزيه، أم اجتناب القول بالتجسيم والتشبيه، أم القـول بإثبـات الصفـات، أم تقديس الـرب عن الأعضـاء والأدوات؟!) اهـ.
وحيث يقول أيضاً (ص / 410):
(وأكثر العلماء في جميع الأقطار عليه – يعني مذهب الأشاعرة – وأئمة الأمصار في سائر الأعصار يدعون إليه، ومنتحلوه هم الذين عليهم مدار الأحكام، وإليهم يرجع في معرفة الحلال والحرام، وهم الذين يُفتون الناس في صعاب المسائل، ويعتمد عليهم الخلق في إيضاح المشكلات والنوازل، وهل من الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية إلا موافق له أو منتسب إليه أو راضٍ بحميد سعيه في دين الله أو مُثنٍ بكثرة العلم عليه) اهـ.
وقال الإمام العلامة المرتضى الزبيدي – رحمه الله تعالى – (إتحاف السادة المتقين 2 / 102):
(اعلم أن أهل ملة الإسلام قد أطلقوا جميعاً القول بأن صانع العالم لا يشبه شيئاً من العالم، وأنه ليس له شبه ولا مثل ولا ضدّ، وأنه سبحانه موجود بلا تشبيه ولا تعطيل، ثم اختلفوا بعد ذلك فيما بينهم، فمنهم من اعتقد في التفصيل ما يوافق اعتقاده في الجملة، ولم ينقض أصول التوحيد على نفسه بشيء من فروعه، وهم المحققون من أهل السنة والجماعة أصحاب الحديث وأهل الرأي الذين تمسّكوا بأصول الدين في التوحيد والنبوّات ولم يخلطوا مذاهبهم بشيء من البدع والضلالات… وعلى ذلك أئمة الدين جميعهم في الفقه والحديث والاجتهاد في الفتيا والأحكام كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والأوزاعي والثوري وفقهاء المدينة وجميع أئمة الحرمين وأهل الظاهر وكل من يعتبر خلافه في الفقه.
وبه قال أئمة الصفاتية المثبتة من المتكلمين كعبد الله بن سعيد القطان والحارث بن أسد المحاسبي وعبد العزيز المكي والحسين بن الفضل البجلي وأبي العباس والقلانسي وأبي الحسن الأشعري ومن تبعهم من الموحدين الخارجين عن التشبيه والتعطيل، وإليه ذهب أيضاً أئمة التصوف، كأبي سليمان الداراني وأحمد بن أبي الحواري وسري السقطي وإبراهيم بن أدهم والفضيل بن عياض والجنيد ورُويم والنوري والخراز والخواص ومن جرى مجراهم، دون من انتسب إليهم وهم منه بريئون من الحلولية وغيرهم، وعلى ذلك درج من سلف من أئمة المسلمين في الحديث كالزهري وشعبة وقتادة وابن عيينة وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد ويحيي بن معين وعلي بن المدائني وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن يحيى التميمي وجميع الحفاظ لحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذين نُقل قولهم في الجرح والتعديل، والتمييز بين الصحيح والسقيم من الأخبار والآثار، وكذلك الأئمة الذين أخذت عنهم اللغة والنحو والقراءات وإعراب القرآن، كلهم كانوا على طريقة التوحيد من غير تشبيه ولا تعطيل…).
وذكر طائفة من أئمة اللغـة والأدب ثـم قال: (وكل من يصحّ اليوم الاحتجاج بقوله في اللغة والنحو والقراءات من أئمة الدين فإنهم كلهم منتسبون إلى ما انتسب إليه أهل السنة والجماعة في التوحيد وإثبات صفـات المـدح لمعبودهم – سبحانه – ونفي التشبيه عنه) اهـ.
وقد ذكرنا قوله قبلُ (الإتحاف 2 / 106):
(إذا أطلق أهل السنة والجماعة فالمراد بهم الأشاعرة والماتريدية).
فدلّ قوله الآنف (فإنهم كلهم منتسبون…) على أنه يعني الأشاعرة والماتريدية ومن وافقهم من طوائف أهل السنة والجماعة.
يتضح بهذا قدْر أهل السنة والجماعة الأشاعرة والماتريدية وأصحاب الحديث ومزيّتهم على من سواهم من أهل الأهواء والزيغ والبدع، ويظهر ما اختصّهم الله تعالى به من الفضل، واجتباهم له من حمل لواء الحق والهدى والإرشاد لعامة الورى.
* * * * *