شبهة مرور أبي الحسن الأشعري بثلاث مراحل والرد على المرحلتين الأولى والثانية
هل مات الإمام على عقيدة غير العقيدة التي كان عليها بعد توبته من الإعتزال ؟
يرى البعض أن الإمام أبا الحسن الأشعري رحمه الله تعالى قد مرّ في حياته بثلاث مراحل:
الأولى: مرحلة الاعتزال التي دامت إلى ما يقرب من سن الأربعين.
والثانية: مرحلة اتباعه لعبدالله بن سعيد بن كلاّب.
والثالثة: مرحلة رجوعه إلى عقيدة السلف وأهل السنة.
ويبنون على هذه الدعوى أن الأشاعرة اتبعوا الإمام الأشعري في مرحلته الثانية فقط وهي التي كان فيها متبعاً لعبدالله بن سعيد! إذ عندهم أن عبدالله بن سعيد بن كلاّب ليس من أهل السنة، وأن الأشاعرة متبعون له لا للإمام أبي الحسن لأن الإمام رجع عن عقيدة ابن كلاّب في مرحلته الثالثة، وألّف على عقيدة السلف كتابه الإبانة وبعض كتبه الأخرى.
هذا تقرير هذه الدعوى، وقبل الشروع في إثبات بطلانها تاريخياً وعلمياً نفصّل ما ورد فيها من قضايا، ثم نشرع في تفنيدها، لقد تضمنت هذه الدعوى ثلاث قضايا:
· الأولى: الإمام الأشعري مر بثلاث مراحل في حياته، الاعتزال ثم اتباعه لابن كلاّب ثم أخيراً رجوعه إلى منهج السنة والجماعة، وهذه هي القضية الرئيسية، وهي تتضمن القضيتين التاليتين.
· الثانية: عبد الله بن سعيد بن كلاّب ليس على منهج أهل السنة والجماعة.
· الثالثة: كتاب الإبانة يمثل المرحلة الأخيرة من حياة الإمام الأشعري([1]), وهي مرحلة العودة إلى طريق السلف الصالح.
وللرد على القضية الأولى: وهي مرور الإمام بثلاث مراحل أو ثلاث حالات في حياته نقول:
إن الإمام الأشعري رحمه الله تعالى عَلَمٌ من أعلام المسلمين يشار إليه بالبنان، وتعقد على كلماته الخناصر، فهو ليس بنكرة من الناس، ولا برجل مجهول يخفى على الناس أمره لا سيما في قضية مثل هذه التي نحن بصددها، فلو كان الأمر كما جاء في الدعوى، وأنه مر بثلاث مراحل في حياته فلا بد أن يكون المؤرخون قد ذكروا هذا وبينوه، ولكان ـ حتماً ـ قد اشتهر عنه وانتشر كما ذاع وانتشر أمر رجوعه عن الاعتزال إذ لم يَبْقَ أحد ممن ترجم له إلا وذكر قصة صعوده المنبر وتبرِّيه من الاعتزال، فهل ذكر أحد من المؤرخين شيئاً عن رجوع الإمام عن منهج عبدالله بن سعيد بن كلاّب؟.
عند الرجوع إلى كتب التاريخ لا نجد أي إشارة إلى هذا لا من قريب ولا من بعيد، بل نجد المؤرخين كلهم مطبقين على أن الإمام أبا الحسن بعد هجره للاعتزال والمعتزلة رجع إلى مذهب السلف الصالح، وصنف على طريقتهم كتبه اللاحقة الإبانة وغيرها من الكتب التي صنفها في نصرة مذهب أهل الحق.
قال الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى (تبيين كذب المفتري ص127):
(انتقل الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري رضي الله عنه من مذاهب المعتزلة إلى نصرة مذاهب أهل السنة والجماعة بالحجج العقلية، وصنَّف في ذلك الكتب..) اهـ.
وقال عنه ابن خلكان (وفيات الأعيان 3/284):
(هو صاحب الأصول والقائم بنصرة مذهب السنة… وكان أبو الحسن أولاً معتزلياً ثم تاب من القول بالعدل وخلق القرآن في المسجد الجامع بالبصرة يوم الجمعة) اهـ.
وفي سير أعلام النبلاء (15/89) قال عنه الذهبي:
(وبلغنا أن أبا الحسن تاب وصعد منبر البصرة، وقال: إني كنت أقول بخلق القرآن… وإني تائب معتقد الردّ على المعتزلة) اهـ.
وعند العلامة ابن خلدون رحمه الله (المقدمة ص853):
(إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري وناظر بعض مشيختهم ـ أي المعتزلة ـ في مسائل الصلاح والأصلح، فرفض طريقتهم وكان على رأي عبدالله بن سعيد بن كلاّب وأبي العباس القلانسي والحارث المحاسبي من أتباع السلف وعلى طريقة السنة) اهـ.
فأثبت أن الإمام بعد رجوعه عن الاعتزال كان على رأي عبدالله بن كلاّب والقلانسي والمحاسبي وهؤلاء كلهم على طريقة السلف والسنة.
وهكذا كل كتب التاريخ التي ترجمت للإمام أبي الحسن، مثل تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وطبقات الشافعية للسبكي وشذرات الذهب لابن العماد والكامل لابن الأثير وتبيين كذب المفتري لابن عساكروترتيب المدارك للقاضي عياض وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة وطبقات الشافعية للأسنوي والديباج المذهب لابن فرحون ومرآة الجنان لليافعي وغيرها، كلها مطبقة على أن الإمام أبا الحسن بعد توبته من الاعتزال رجع إلى مذهب السلف والسنة.
أضف إلى ذلك، أن رجوع الإمام المزعومَ هذا لو ثبت عنه لكان أولى الناس بمعرفته ونقله هم أصحابه وتلامذته، لأن أولى الناس بمعرفة الرجل هم خاصته وأصحابه وأتباعه الملازمون له، فهؤلاء هم أقرب الناس إليه وأعرفهم بأحواله وأقواله وآرائه، لا سيما في قضية مهمة مثل هذه القضية التي تتوفر الدواعي على نقلها، وتتحفز الأسماع على تلقفها، خاصة من إمام كبير مثل الإمام أبي الحسن، وعند الرجوع إلى أقوال أصحابه وأصحاب أصحابه أيضاً لا نجد أي إشارة تفيد ذلك، بل نجدهم متفقين على أن الإمام كان بعد هجره للاعتزال على منهج السلف والسنة الذي كان عليه المحاسبي وابن كلاب والقلانسي والكرابيسي وغيرهم، فهذه مؤلفات ناصر مذهب الأشعري القاضي أبي بكر الباقلاني رحمه الله تعالى كالإنصاف والتمهيد وغيرها، ومؤلفات ابن فورك ومؤلفات أبي بكر القفال الشاشي وأبي إسحق الشيرازي وأبي بكر البيهقي وغيرهم من أصحاب الإمام وأصحاب أصحابه وتلاميذهم ليس فيها أي ذكر أو إشارة لهذا الأمر الذي هو من الأهمية بمكان، فهل يعقل أن يرجع الإمام عن مذهبه ويهجره ثم لا يكون لهذه الحادثة المهمة أي ذكر عند أحد من أصحابه وتلاميذه وهو من هو جلالة وقدراً؟! أم تُراه قد رجع عن ذلك سرّاً وهو الذي حين قرر هجر مذهب المعتزلة اعتلى منبر المعتزلة نفسَه ليعلن ذلك على الملأ؟!
كلا، ليس الأمر كما جاء في هذه الدعوى، بل الحق الذي لا مرية فيه هو أن الإمام لم يمرّ في حياته إلا بمرحلتين، الاعتزال ثم الرجوع إلى طريق السلف، وليس لمن يقول بخلاف هذا الأمر من دليل ولا شبهة دليل.
ومن يقول بهذه الدعوى يعتمد في قوله هذا على أسلوب الإمام في تأليف كتاب الإبانة وبعض الرسائل الأخرى، فقد اتبع الإمام فيها طريق التفويض الذي هو طريق جمهور السلف، فبنوا على هذا الأسلوب مخالفة الإمام الأشعري لآراء ابن كُلاّب الذي يتهمونه بأنه لم يكن على طريق السلف.
تُرى هل ما في الإبانة التي هي على طريق جمهور السلف، وهي من أواخـر كتب الإمام أو هـي آخرها([2]), ما يناقض ما كان عليه عبدالله بن سعيد بن كلاّب؟ أو بتعبير آخر، هل كان ابن كلاّب على خلاف طريق السلف الذي ألَّف الإمام الأشعري الإبانة عليه؟
وهذا يجرُّنا إلى القضية الثانية.
الرد على القضية الثانية:
هل كان عبدالله بن سعيد بن كلاّب منحرفاً عن طريق السنة والسلف؟
نسلم أولاً أن الإمام الأشعري بعد تركه للاعتزال كان على طريق عبدالله بن سعيد بن كلاب، وهذا أمر يوافقنا عليه أصحاب الدعوى، ولكنهم يخالفوننا في أن طريق ابن كلاب وطريق السلف هما في حقيقة الأمر طريق واحد، لأن ابن كلاب كان من أئمة أهل السنة والجماعة السائرين على طريق السلف الصالح.
قال التاج السبكي في الطبقات (الطبقات 2 /300):
(وابن كلاّب على كل حال من أهل السنة…. ورأيت الإمام ضياء الدين الخطيب والد الإمام فخر الدين الرازي قد ذكر عبدالله بن سعيد في آخر كتابه “غاية المرام في علم الكلام ” فقال: ومن متكلمي أهل السنة في أيام المأمون عبدالله بن سعيد التميمي الذي دمّر المعتزلة في مجلس المأمون وفضحهم ببيانه) اهـ.
وقال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى (تبيين كذب المفتري ص405):
(قرأت بخطِّ علي بن بقاء الورّاق المحدث المصري رسالة كتب بها أبو محمد عبدالله بن أبي زيد القيرواني الفقيه المالكي- وكان مقدَّم أصحاب مالك رحمه الله بالمغرب في زمانه- إلى علي بن أحمد بن إسماعيل البغدادي المعتزلي جواباً عن رسالة كتب بها إلى المالكيين من أهل القيروان يظهر نصيحتهم بما يدخلهم به في أقاويل أهل الاعتزال، فذكر الرسالة بطولها في جزءٍ وهي معروفة، فمن جملة جواب ابن أبي زيد له أن قال: ونسبتَ ابن كلاّب إلى البدعة، ثم لم تحكِ عنه قولاً يعرف أنه بدعة فيوسم بهذا الاسم، وما علمنا من نسب إلى ابن كلاّب البدعة، والذي بلغنا أنه يتقلّد السنة ويتولّى الردَّ على الجهمية وغيرهم من أهل البدع يعني عبدالله بن سعيد بن كلاّب) اهـ.
وهذه شهادة عظيمة من الإمام ابن أبي زيد رحمه الله لابن كلاب أنه يتقلَّد السنة ويردُّ على المبتدعة، وأنه لم يعلم من نسب إليه البدعة.
وعلّق العلامة الكوثري رحمه الله تعالى في هامش الصفحة معرِّفاً بابن كلاب قال (المصدر السابق): (.. كان إمام متكلمة السنة في عهد أحمد، وممن يرافق الحارث بن أسد، ويشنع عليه بعض الضعفاء في أصول الدين..) ثم بيّن المسائل التي يشنع عليه بسببها وأن كلامه فيها ليس ببعيد عن الشرع والعقل.
وقال ابن قاضي شهبة (طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1 / 78):
(كان من كبار المتكلمين ومن أهل السنة، وبطريقته وطريقة الحارث المحاسبي اقتدى أبو الحسن الأشعري) اهـ.
وقال عنه جمال الدين الأسنوي (طبقات الشافعية للأسنوي 2 /178):
(كان من كبار المتكلمين ومن أهل السنة… ذكره العبادي في طبقة أبي بكر الصيرفي، قال: إنه من أصحابنا المتكلمين) اهـ.
وقال الإمام الحافظ الذهبي (سير أعلام النبلاء 11 /175):
(والرجل أقرب المتكلمين إلى السنة، بل هو في مناظريهم) اهـ.
علّق الشيخ شعيب الأرنؤوط على هذا الكلام قائلاً: (كان إمام أهل السنة في عصره، وإليه مرجعها، وقد وصفه إمام الحرمين في كتابه ” الإرشاد ” بأنه من أصحابنا) اهـ.
ولقد مر معنا قول العلامة ابن خلدون (المقدمة ص 853):
(إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري…. وكان على رأي عبدالله بن سعيد بن كلاّب وأبي العباس القلانسي والحارث المحاسبي من أتباع السلف وعلى طريقة السنة) اهـ.
فوصفه بأنه من أتباع السلف، وأن الإمام الأشعري كان على رأيه ورأي القلانسي والمحاسبي وهؤلاء من أتباع السلف وعلى طريق السنة.
وقال العلامة كمال الدين البياضي رحمه الله تعالى (إشارات المرام من عبارات الإمام ص23):
(لأن الماتريدي مفصّل لمذهب الإمام ـ يعني أبا حنيفة ـ وأصحابِه المظهرين قبل الأشعري لمذهب أهل السنة، فلم يخلُ زمان من القائمين بنصرة الدين وإظهاره.. وقد سبقه ـ يعني الأشعري ـ أيضاً في ذلك ـ يعني في نصرة مذهب أهل السنة ـ الإمام أبو محمد عبدالله بن سعيد القطان..) اهـ.
أي أن الإمام ابن كلاب كان قبل الإمام أبي الحسن في نصرة الدين وإظهار السنة.
وقال الحافظ ابن حجر في (لسان الميزان 3 /291) في ترجمته، بعد أن نقل قول ابن النديم: إنـه ـ يعني ابن كلاب ـ من الحشوية.
قال الحافظ:(يريد من يكون على طريق السلف في ترك التأويل للآيات والأحاديث المتعلقة بالصفات، ويقال لهم المفوضة) اهـ.
وقال الإمام الشهرستاني رحمه الله تعالى (الملل والنحل ص81):
(حتى انتهى الزمان إلى عبدالله بن سعيد الكلابي وأبي العباس القلانسي والحارث بن أسد المحاسبي وهؤلاء كانوا من جملة السلف، إلا أنهم باشروا علم الكلام وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية وبراهين أصولية، وصنَّف بعضهم ودرَّس بعضٌ، حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين أستاذه مناظرة في مسألة من مسائل الصلاح والأصلح، فتخاصما وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة، فأيَّد مقالتهم بمناهج كلامية، وصار ذلك مذهباً لأهل السنة والجماعة، وانتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية) اهـ.
بل نزيد على ما مرَّ ونقول: ليس الإمام الأشعري وحده الذي كان على طريق الإمام ابن كلاب، كلا، بل كان على نفس المعتقد أئمة كبار مثل الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى (الفتح 1/293):
(البخاري في جميع ما يورده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفن كأبي عبيدة والنضر بن شميل والفراء وغيرهم، وأما المباحث الفقهية فغالبها مستمدة له من الشافعي وأبي عبيـد وأمثالهـما، وأما المسائـل الكلامية فأكثرها من الكرابيـسي وابن كُـلاَّب ونحـوهما) اهـ.
هذه نصوص واضحة بينة في أن الإمام عبدالله بن سعيد بن كلاب كان على طريق السلف والسنة.
القرآن كلام الله غير مخلوق، واللفظ به مخلوق:
فإذا كان الأمر كذلك كما بيّن هؤلاء الأئمة، فما السبب في اتهام عبدالله بن سعيد بن كلاب بمخالفة طريق السلف؟
يقول ابن عبدالبر في بيان شيء من ذلك أثناء ترجمة الإمام الكرابيسي (الانتقاء ص165):
(وكانت بينه ـ يعني الكرابيسي ـ وبين أحمد بن حنبل صداقة وكيدة، فلمّا خالفه في القرآن عادت تلك الصداقة عداوة، فكان كلُّ واحد منهما يطعن على صاحبه، وذلك أن أحمد كان يقول: من قال القرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال القرآن كلام الله ولا يقول غير مخلوق ولا مخلوق فهو واقفي، ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع. وكان الكرابيسي وعبدالله بن كلاّب وأبو ثور وداود بن علي وطبقاتهم يقولون: إن القرآن الذي تكلم الله به صفة من صفاته لا يجوز عليه الخلق، وإن تلاوة التالي وكلامه بالقرآن كسب له وفعل له وذلك مخلوق وإنه حكاية عن كلام الله… وهجرت الحنبلية أصحاب أحمد بن حنبل حسيناً الكرابيسي وبدّعوه وطعنوا عليه وعلى كل من قال بقوله في ذلك) اهـ.
هذا هو سبب الطعن والتشنيع على عبدالله بن كلاّب ووصْـفِه بأنه لم يكن على طريق السنة والسلف، إلا أن هذا القول الذي بُـدّع بسببه لا يقتضي وصفه بالبدعة أو أنه على غير طريق السلف، لا سيما أن مسألة اللفظ بالقرآن كان يقول بها ثلة من أكابر أمة الإسلام مثل الذين ذكرهم ابن عبدالبر، وممن كان يقول بذلك أيضاً الإمام البخاري والإمام مسلم والحارث المحاسبي ومحمد بن نصر المـروزي وغيرهم، وما الفتنة التي حدثت بين البخاري وشيخه الذهلي إلا بسبب هذه المسألة، نعني مسألة اللفظ، ولقد صنّف الإمام البخاري في هذه المسألـة كتابـه ” خلق أفعال العباد ” لإثبات رأيه فيها والردّ على مخالفيه.
أما الإمام مسلم فقد كان يظهر القول باللفظ ولا يكتمه. (انظر سير أعلام النبلاء 12 /453 وما بعدها، 12/572).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في ترجمة الكرابيسي (طبقات الفقهاء الشافعيين 1/133):
(وأن أحمد بن حنبل كان تكلم فيه بسبب مسألة اللفظ، وكان هو أيضاً يتكلم في أحمد، فتجنَّب الناس الأخذ عنه لهذا السبب. قلت: الذي رأيت عنه أنه قال كلام الله غير مخلوق من كل الجهات إلا أن لفظي بالقرآن مخلوق، ومن لم يقلْ [ أي يعتقد ]: إن لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر. وهذا هو المنقول عن البخاري وداود بن على الظاهري، وكان الإمام أحمد يسدُّ في هذا البابَ لأجل حسم مادة القول بخلق القرآن) اهـ.
وممن كان يقول باللفظ أيضاً الإمام محمد بن جرير الطبري رحمه الله تعالى، وهي من المسائل التي نقم عليه بسببها بعض متعصبة الحنابلة، قال الحافظ ابن كثير رحمـه الله تعالى (المصدر السابق 1/226):
(كان قد وقع بينه – الطبري – وبين الحنابلة أظنه بسبب مسألة اللفظ، واتهم بالتشيع، وطلبوا عقد مناظرة بينهم وبينه، فجاء ابن جرير لذلك ولم يجئ منهم أحد، وقد بالغ الحنابلة في هذه المسألة وتعصبوا لها كثيراً، واعتقدوا أن القول بها يفضي إلى القول بخلق القرآن، وليس كما زعموا، فإن الحق لا يحتاط له بالباطل، والله أعلم) اهـ. (وانظر في محنة ابن جرير مع الحنابلة البداية والنهاية 11/145، الكامل لابن الأثير 7/8، السير 14/272 ـ 277، الوافي بالوفيات 2/284).
نعم، فإن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق وهو صفة من صفات ذاته العلية، إلا أنه لا يصحُّ أن يحتاط لهذا الحق بالباطل الذي هو إنكار حدوث وخلق ما قام بالمخلوق، ثم التشنيع على من يقول بذلك!
على أية حال الحق في هذه القضية مع الكرابيسي وابن كلاّب والبخاري ومسلم وأبي ثور وداود والمحاسبي والطبري وغيرهم ممن كان على طريقهم، أما الإمام أحمد رضي الله عنه – ومن قال بقوله – فكلامه محمول على سدّ باب الذريعة لكي لا يتوسل بالقول باللفظ إلى القول بخلق القـرآن.
قال الإمام الذهبي (السير 12/82، وانظر أيضاً السير 11/510):
(ولا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي وحرره في مسألة اللفظ وأنه مخلوق هو حق، لكن أباه الإمام أحمد لئلا يُتذرع به إلى القول بخلق القرآن فسدّ الباب) اهـ.
وقال أيضاً (ميزان الاعتدال 1/544): (وكان يقول ـ يعني الكرابيسي ـ القرآن كلام الله غير مخلوق، ولفظي به مخلوق، فإن عنى التلفظ فهذا جيد، فإن أفعالنا مخلوقة، وإن قصد الملفوظ بأنه مخلوق فهذا الذي أنكره أحمد والسلف وعدّوه تجهماً) اهـ.
ولا ريب أن مراد الكرابيسي وابن كلاّب والبخاري ومسلم وأبي ثور وداود ومن كان على قولهم لاريب أن مرادهم هو الأول، وعلى الجملة فإن القضية أهون من أن يُبـدَّع من أجلها.
وقال أيضا (السير 11/510) بعد أن نقل قول الحافظ أبي بكر الأعين: مشايخ خراسان ثلاثة: قتيبة، وعلي بن حجر، ومحمد بن مهران الرازي، ورجالها أربعة: عبدالله بن عبدالرحمن السمرقندي ومحمد بن إسماعيل البخاري قبل أن يظهر منه ما ظهر… الخ
قال الذهبي معلّقاً عليه: (والذي ظهر من محمد – يعني البخاري – أمرٌ خفيف من المسائل التي اختلف فيها الأئمة في القول في القرآن وتسمّى مسألة أفعال التالين، فجمهور الأئمة والسلف والخلف على أن القرآن كلام الله المنزل غير مخلوق وبهذا ندين الله) اهـ.
ولا يلزم من هجر الإمام أحمد لهؤلاء الأئمة أن يكونوا على غير طريق السلف، لا سيما أن الحق معهم فيما ذهبوا إليه كما قرَّرَه الإمام الذهبي.
وقال أيضا ( سير أعلام النبلاء 11/290 ):
( فقد كان هذا الإمام [ يعني أحمد ] لا يرى الخوض في هذا البحث خوفا من أن يُتذرّع به إلى القول بخلق القرآن، والكف عن هذا أولى. آمنا بالله تعالى وبملائكته وبكتبه ورسله وأقداره والبعث والعرض على الله يوم الدين. ولو بسط هذا السطر وحُرِّرَ وقُرِّرَ بأدلته لجاء في خمس مجلدات، بل ذلك موجود مشروح لمن رامه. والقرآن فيه شفاء ورحمة للمؤمنين. ومعلوم أن التلفظ شيء من كسب القارئ غير الملفوظ، والقراءة غير الشيء المقروء، والتلاوة وحسنها وتجويدها غير المتلو، وصوت القارئ من كسبه فهو يُحدث [ يعني يفعل، وليس الإحداث المرادف للخلق كما تقول المعتزلة ] التلفظ والصوت والحركة والنطق، وإخراج الكلمات من أدواته المخلوقة، ولم يحدث كلمات القرآن ولا ترتيبه ولا تأليفه ولا معانيه ).
ثم روى عن الحاكم بسنده إلى فوران صاحب أحمد أنه قال :
سألني الأثرم وأبو عبدالله المعيطي أن أطلب من أبي عبدالله [ يعني أحمد ] خلوة، فأسأله فيها عن أصحابنا الذين يفرقون بين اللفظ والمحكي. فسألته ، فقال : القرآن كيف تُصُرِّفَ في أقواله وأفعاله فغير مخلوق، فأما أفعالنا فمخلوقة. قلت [ القائل فوران ]: فاللفظية تعدُّهم يا أبا عبدالله في جملة الجهمية ؟ فقال : لا . الجهمية الذين قالوا: القرآن مخلوق اهـ.
وفي الأسماء والصفات للبيهقي ص266 عن عبدالله بن أحمد بن حنبل قال : سمعت أبي يقول: ( من قال لفظي بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فهو كافر ) علق الحافظ البيهقي قائلا : ( قلت : هذا تقييد حفظه عنه ابنه عبدالله وهو قوله: يريد به القرآن. فقد غفل عنه غيره ممن حكى عنه في اللفظ خلاف ما حكينا حتى نسب إليه ما تبرأ منه فيما ذكرنا ) اهـ.
وقال الإمام البخاري رحمه الله تعالى ( خلق أفعال العباد ص 43 ) :
( فأما ما احتج به الفريقان لمذهب أحمد ويدعيه كل لنفسه فليس بثابت كثير من أخبارهم، وربما لم يفهموا دقة مذهبه، بل المعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله غير مخلوق وما سواه مخلوق، وأنهم كرهوا البحث والتنقيب عن الأشياء الغامضة، وتجنبوا أهل الكلام والخوض والتنازع إلا فيما جاء به العلم وبيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ا.هـ
وإننا متيقنون بأنهم رحمهم الله تعالى لم يقولوا هذا القول دون أن تدعو لذلك حاجة، كلا، وحاشاهم أن يتكلموا بشيء سكت عنه الصحابة والتابعون، لكنهم لمَّا رأوا الناس تقحموا هذا الباب، وخاضوا في هذا الأمر، وحملوه على غير وجهه، اضطروا إلى الكلام فيه تبياناً للحق، وكفّاً للناس عن ذلك.
قال العلامة الكوثري رحمه الله تعالى (في تعليقه على تبيين كذب المفتري هامش(2) من الصفحة / 406):
(أما كلام أحمد في ابن كلاب وصاحبه [ يعني الحارث المحاسبي ] فلكراهته الخوض في الكلام وتورُّعِه منه، ولكن الحق أن الخوض فيه عند الحاجة متعيِّنٌ على خلاف ما يرتئيه أحمد) اهـ.
الخلاصة أن الأمر خفيف كما وصفه الحافظ الذهبي، وأن هذه المسألة مما اختلفت فيها أقوال الأئمة، وهم متفقون جميعاً على أن القرآن الذي هو صفة الرحمن وكلامه تعالى غيرمخلوق.
بهذا يتبين أن الإمام ابن كلاّب لم يكن وحده في هذا الأمر الذي ذهب إليه، بل كان على رأيه كبار أئمة الدين، وبهذا يُعلم أيضاً أنه لم يبتدع أو يخالف منهج السلف والسنة، بل هو من أكابر أهل السنة والجماعة السائرين على خطى السلف الصالح كما مرّ من أقوال العلماء فيه.
فإذا كان الأمر كذلك، فمن أين جاء القول بأن الإمام الأشعري قد ترك طريقته وآراءه؟!
وهذا السؤال يجرنا إلى الحديث عن القضية الثالثة.
([1]) نحن نقول هذا من باب التسليم الجدلي، وإلا فإن الذي رجحه المحققون من الباحثين أن كتاب اللمع ألَّفه الإمام الأشعري بعد الإبانة. انظرمقدمة كتاب اللمع للأستاذ حمودة غرابة.
وانظر قول العلامة الكوثري في تعليقه على السيف الصقيل (ص123 )، وفي تعليقه على تبيين كذب المفتري (ص392)، والمقدمة التي وضعنها الدكتورة فوقية حسين على كتاب الإبانة ص79-80 وما بعدها.
([2]) انظر الهامش ص18.