عقيدة أهل السنة والجماعة
عقيدة أهل السنة والجماعة
إن المطالع في كتب العقائد لأهل السنة يرى أنهم رحمهم الله قد اقتصروا على إثبات عشرين صفة لله تعالى، وخشية أن يسبق إلى ذهن المسلم أن أهل السنة نفوا ما سوى ذلك من الصفات نقول:
إن صفات الله تعالى من حيث الإيمان بها تنقسم إلى قسمين، قسم يجب الإيمان به ومعرفته إجمالا، وهو ما قامت عليه الأدلة النقلية والعقلية إجمالاً، وهو جميع الكمالات في نظر العقل مثل العدل والحب والرحمة والانتقام والمغفرة والحكمة وكل ما هو صفة كمال لله تعالى. وقسم يجب معرفته والإيمان به تفصيلاً، وهو ما قامت الأدلة النقلية والعقلية عليه تفصيلاً، وهي العشرون صفة التي يذكرها العلماء في كتبهم لأنها أمهات مهمات الصفات، وكل ما يرد من صفات أخرى فهو داخل في هذه الصفات (أركان الإيمان للشيخ وهبي غاوجي، أركان الإسلام له أيضا 1/41 بتصرف)
قال الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي حفظه الله (كبرى اليقينيات ص 108):
(يجب أن تعلم في كلمة جامعة مجملة أن الله عز وجل متصف بكل صفات الكمال ومنزه عن جميع صفات النقصان إذ إن ألوهيته تستلزم اتصافه بالكمال المطلق لزوماً بيناً بالمعنى الأخص.
ثم إن علينا بعد ذلك أن نقف على تفصيل أهم هذه الصفات، ونبين معناها وما تستلزمه من أمور ومعتقدات. وقد وصف الله تعالى نفسه في كتابه الكريم بصفات كثيرة مختلفة إلا أن جزئيات هذه الصفات كلها تلتقي ضمن عشرين صفة رئيسية ثبتت بدلالة الكتاب وبالبراهين القاطعة) اهـ.
وجاء في شرح جوهرة التوحيد (للشيخين الفاضلين عبد الكريم تتان ومحمد أديب الكيلاني 1/274):
(وقبل الكلام على ” وجوب الوجود ” نبين أنه يجب لله تعالى – على الإجمال – كل كمال، وينزه عن كل نقصان، ويجوز في حقه فعل كل ممكن وتركه، وعلى التفصيل يجب لله تعالى عشرون صفة قسمها العلماء – ابتغاء التعرف إليها على أنها أمهات ما يجب لله تعالى- إلى أربعة أقسام…..) اهـ.
وقال الإمام العلامة الهدهدي (شرح السنوسية الصغرى ص45، 46) عند قول المصنف (فممّا يجب لمولانا جل وعز عشرون صفة).
قال في شرح ذلك: (من بمعنى بعض فهي للتبعيض أي من بعض ما يجب، لأن صفات مولانا جل وعز الواجبة له لا تنحصر في هذه العشرين، إذ كمالاته لا نهاية لها، ولم يكلفنا الله إلا بمعرفة ما نصب لنا عليه دليلاً وهي هذه العشرون، وتفضل علينا بإسقاط التكليف بما لم ينصب لنا عليه دليلاً) اهـ.
وبالجملة، فأقوال ونصوص العلماء في ذلك كثيرة، وبما نقلناه كفاية لبيان المقصود، فإن أهل السنة الأشاعرة والماتريدية لم يكونوا معطلين للصفات ولا مشبهين لله تعالى بالمخلوقات، وإنما هم مثبتون لله تعالى كل ما ثبت نقلاً وعقلاً من الكمالات ومنزهون له سبحانه عن سمات النقص والآفات.
وإليك – وفقنا الله وإياك لهداه – مجمل عقيدة أهل السنة الأشاعرة لكي تعلم صفاء هذا العقـيدة وتمسكها بالمأثور عن رسول الله ‘ وعن صحابته رضوان الله عليهم:
( الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، ذي العرش المجيد والبطش الشديد، الهادي صفوة العبيد إلى المنهج الرشيد والمسلك السديد، المنعم عليهم بعد شهادة التوحيد بحراسة عقائدهم عن ظلمات التشكيك والترديد، السالك بهم إلى اتباع رسوله المصطفى واقتفاء صحبه الأكرمين المكرمين بالتأييد والتسديد، المتجلي لهم في ذاته وأفعاله بمحاسن أوصافه التي لا يدركها إلا من ألقي السمع وهو شهيد، المعرّفِ إياهم أنه في ذاته واحد لا شريك له فردٌ لا مثيل له صمد لا ضد له منفرد لا نِدّ له وأنه واحد قديم لا أول له، أزلي لا بداية له، مستمر الوجود لا آخر له، أبدي لا نهاية له قيوم لا انقطاع له، دائم لا انصرام له، لم يزل ولا يزال موصوفاً بنعوت الجلال، لا يقضى عليه بالانقضاء والانفصال بتصرم الآباد وانقراض الآجال، بل هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.
وأنه تعالى ليس بجسم مصور، ولا جوهر محدود مقدر، وأنه تعالى لا يماثل الأجسام ولا يقبل الانقسام، وأنه تعالى ليس بجوهر ولا تحله الجواهر، ولا بعرض ولا تحله الأعراض، بل لا يماثل موجوداً ولا يماثله موجود، ( ليس كمثله شـئ )ولا هو مثل شيء، وأنه لا يحده المقدار ولا تحويه الأقطار، ولا تحيط به الجهات ولا تكتنفه الأرضون والسموات.
وأنه تعالى مستو على عرشه على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده، استواءً منزهاً عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش والسماء، وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قرباً إلى العرش والسماء، كما لا تزيده بعداً عن الأرض والثرى، بل هو سبحانه رفيع الدرجات عن العرش والسماء كما أنه رفيع الدرجات عن الأرض والثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شيء شهيد، إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام،وأنه تعالى لا يحل في شي ولا يحل فيه شيء، تعالى عن أن يحويه مكان وتقدس عن أن يحده زمان، بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان، وهو الآن على ما عليه كان.
وأنه تعالى بائن عن خلقه بصفاته، ليس في ذاته سواه، ولا في سواه ذاته، وأنه مقدس عن التغير والانتقال، لاتحله الحوادث ولا تعتريه العوارض، بل لا يزال في نعوت جلاله منزهاً عن الزوال، وفي صفات كماله مستغنياً عن زيادة الاستكمال.
وأنه تعالى في ذاته معلوم الوجود بالعقول، مرئي الذات بالأبصار نعمة منه ولطفاً بالأبرار في دار القرار، وإتماماً منه للنعيم بالنظر إلى وجهه الكريم.
وأنه تعالى حي قادر جبار قاهر، لا يعتريه قصور ولا عجز ولا تأخذه سنة ولا نوم وأنه ذو الملك والملكوت والعزة والجبروت له السلطان والقهر والخلق والأمر، وأنه المنفرد بالخلق والاختراع المتوحد بالإيجاد والإبداع، خلق الخلق وأعمالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، لا يشذ عن قبضته مقدور، ولا يعزب عن قدرته تصاريف الأمور، لا تحصى مقدوراته ولا تتناهى معلوماته.
وأنه تعالى عالم بجميع المعلومات، محيط بما يجري من تخوم الأرضين إلى أعلى السمـاوات، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، مطلع على هواجس الضمائر وحركات الخواطر وخفيات السرائر بعلم أزلي قديم لم يزل موصوفاً به في أزل الآزال، لا بعلم متجدد حاصل في ذاته بالحلول والانتقال.
وأنه تعالى مريد للكائنات مدبر للحادثات، لا يجري في الملك قليل أو كثير صغير أو كبير خير أو شر نفع أو ضر إيمان أو كفر عرفان أو نكر فوز أو خسران زيادة أو نقصان طاعة أو عصيان إلا بقضائه وقدره وحكمته ومشيئته فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وأن إرادته قائمة بذاته في جملة صفاته، لم يزل موصوفاً بها، مريداً في أزله لوجود الأشياء في أوقاتها التي قدرها، فوجدت في أوقاتها كما أراده في أزله من غير تقدم ولا تأخر، بل وقعت على وفق علمه وإرادته من غير تبدل ولا تغير، دبّر الأمور لا بترتيب أفكار ولا تربص زمان، فلذلك لم يشغله شأن عن شأن.
وأنه تعالى سميع بصير، يسمع ويرى ولا يعزب عن سمعه مسموع وإن خفي ولا يغيب عن رؤيته مرئي وإن دق، ولا يحجب سمعه بُعد، ولا يدفع رؤيته ظلام، يرى من غير حدقة وأجفان، ويسمع من غير أصمِخةٍ وآذان، كما يعلم من غير قلب، ويبطش بغير جارحة، ويخلق بغير آلة، إذ لا تشبه صفاته صفات الخلق كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق.
وأنه تعالى متكلم آمرٌ ناهٍ واعدٌ متوعدٌ بكلام أزلي قديم قائم بذاته لا يشبه كلام الخلق، فليس بصوت يحدث من انسلال هواء أو اصطكاك أجرام، ولا بحرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان.
وأن القرآن والتوراة والإنجيل والزبور كتبه المنزلة على رسله عليهم السلام، وأن القرآن مقروء بالألسنة مكتوب في المصاحف محفوظ في القلوب، وأنه مع ذلك قديم قائم بذات الله تعالى لا يقبل الانفصال والافتراق بالانتقال إلى القلوب والأوراق.
وأن موسى ‘ سمع كلام الله تعالى بغير صوت ولا حرف، كما يرى الأبرار ذات الله تعالى في الآخرة من غير جوهر ولا عرض.
وإذا كانت له هذه الصفات كان حياً عالماً قادراً مريداً سميعاً بصيراً متكلماً بالحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام لا بمجرد الذات.
وأنه تعالى لا موجود سواه إلا وهو حادث بفعله وفائض من عدله على أحسن الوجوه وأكملها وأتمها وأعدلها، وأنه حكيم في أفعاله عادل في أقضيته لا يقاس عدله بعدل العباد، إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره، ولا يتصور الظلم من الله تعالى فإنه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً.
فكل ما سواه من إنس وجن وملك وشيطان وسماء وأرض وحيوان ونبات وجماد وجوهر وعرض ومدرك ومحسوس، حادث اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعاً وأنشأه إنشاءً بعد أن لم يكن شيئاً. إذ كان موجوداً وحده ولم يكن معه غيره فأحدث الخلق بعد ذلك إظهاراً لقدرته وتحقيقاً لما سبق من إرادته، ولما حقّ في الأزل من كلمته لا لافتقاره إليه وحاجته.
وأنه متفضل بالخلق والاختراع والتكليف لا عن وجوب، ومتطول بالإنعام والإصلاح لا عن لزوم، فله الفضل والإحسان والنعمة والامتنان، إذ كان قادراً على أن يَصُبَّ على عباده أنواع العذاب ويبتليهم بضروب الآلام والأوصاب، ولو فعل ذلك لكان منه عدلاً ولم يكن منه قبيحاً ولا ظلماً.
وأنه تعالى يثيب عباده المؤمنين على الطاعات بحكم الكرم والوعد لا بحكم الاستحقاق واللزوم له، إذ لا يجب عليه لأحد فعل ولا يتصور منه ظلم ولا يجب لأحد عليه حق.
وأن حقه في الطاعات وجب على الخلق بإيجابه على ألسنة أنبيائه عليهم السلام لا بمجرد العقل، ولكنه بعث الرسل وأظهر صدقهم بالمعجزات الظاهرة فبلغوا أمره ونهيه ووعده ووعيده فوجب على الخلق تصديقهم فيما جاءوا به.
وأنه تعالى بعث النبي الأمي القرشيّ محمداً صلى الله عليه وسلم برسالته إلى كافة العرب والعجم والجن والإنس فنسخ بشريعته الشرائع إلا ما قرره منها، وفضّله على سائر الأنبياء وجعله سيد البشر، وألزم الخلق تصديقه في جميع ما أخبر من أمور الدنيا والآخرة.
وأنه لا يقبل إيمان عبد حتى يؤمن بما أخبر به بعد الموت.
وأوله: سؤال منكر ونكير، وهما شخصان مهيبان هائلان يقعدان العبد في قبره سوياً ذا روح وجسد فيسألانه عن التوحيد والرسالة ويقولان له: من ربك وما دينك ومن نبيك، وهما فتّانا القبر.
وأن يؤمن بعذاب القبر ونعيمه وأنه حق وعدل على الجسم والروح على ما يشاء.
وأن يؤمن بالميزان ذي الكفتين واللسان، توزن به الأعمال بقدرة الله تعالى، وأن يؤمن بأن الصراط حق وهو جسر ممدود على متن جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة تزل عليه أقدام الكافرين بحكم الله تعالى، وتثبت عليه أقدام المؤمنين بفضل الله.
وأن يؤمن بالحوض المورود حوض نبينا محمد صلي الله عليه وسلم يشرب منه المؤمنون قبل دخول الجنة وبعد جواز الصراط، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً.
وأن يؤمن بالحساب وتفاوت الناس فيه إلى مناقش في الحساب وإلى مسامح فيه وإلى من يدخل الجنة بغير حساب وهم المقربون، فيسأل الله تعالى من شاء من الأنبياء عن تبليغ الرسالة، ومن شاء من الكفار عن تكذيب المرسلين. ويسأل المبتدعة عن السنة ويسأل المسلمين عن الأعمال.
وأن يؤمن بإخراج الموحدين من النار بعد الانتقام حتى لا يبقى في جهنم موحد بفضل الله تعالى، فلا يخلد في النار موحد.
وأن يؤمن بشفاعة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ثم سائر المؤمنين كل على حسب جاهه ومنزلته عند الله تعالى.
وأن يعتقد فضل الصحابة رضي الله عنهم وترتيبهم وأن أفضل الناس بعد النبي ‘: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم.
وأن يحسن الظن بجميع الصحابة ويثني عليهم كما أثنى الله عز وجل ورسوله ‘ عليهم أجمعين.
فكل ذلك مما وردت به الأخبار وشهدت به الآثار فمن اعتقد جميع ذلك موقناً به كان من أهل الحق وعصابة السنة وفارق رهط الضلال وحزب البدعة.
فنسأل الله كمال اليقين وحسن الثبات في الدين لنا ولكافة المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى)([1]).
قال الإمام العارف بالله الحبيب عبد الله بن علوي الحداد رضي الله تعالـى عنـه ونفعنـا بـه في هذه العقيدة حاثّاً على الأخذ والتمسك بها (رسالة المعاونة والمظاهرة ص/68):
(وينبغي لكل مؤمن أن يحصِّن معتقده بحفظ عقيدة من عقائد الأئمة المجمع على جلالتهم ورسوخهم في العلم، ولا أحسب مبتغي ذلك يصادف عقيدة جامعة واضحة بعيدة عن الشُّبه، سالمة من الأشياء الموهمة مثل عقيدة الإمام الغزالي رضي الله عنه التي أوردها في الفصل الأول من كتاب العقائد من الإحياء، فعليك بها) اهـ.
قال الإمام عبد القاهر البغدادي – رحمه الله تعالى – بعد أن فصّل هذه العقيدة (الفـرق بـين الفرق ص/ 20):
(فمن قال بهذه الجهة التي ذكرناها ولم يخلط إيمانه بشيء من بدع سائر أهل الأهواء فهو من جملة الفرقة الناجية إن ختم له بها) اهـ.
وقال الإمام أبو المظفر الاسفراييني – رحمه الله تعالى – (التبصير في الدين ص / 180):
(وأن تعلم أن كل من تديّن بهذا الدين الذي وصفناه من اعتقاد الفرقة الناجية فهو على الحق وعلى الصراط المستقيم، فمن بدعه فهو مبتدع، ومن ضلله فهو ضال ومن كفره فهو كافر، لأن من اعتقد أن الإيمان كفر وأن الهداية ضلالة وأن السنة بدعة كان اعتقاده كفراً وضلالةً وبدعةً) اهـ.
جعلنا الله تعالى من المتمسكين بهذه العقيدة العاملين بمقتضاها وختم لنا بها آمين.
([1]) من كتاب قواعد العقائد – لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى بتصرف يسير.