الباب الأول فى أركان الرَّضاع وشروطه/ الفصل الأول / أركان الرَّضاع
الباب الأول
في أركَان الِرَّضـــــاعِ وشرُوطهُ
وفيه فصلان، الفصل الأول : في أركان الرضاع ، والفصل الثاني: في شروطه.
الفصل الأول
في أركان الرضاع
للرضاع ثلاثة أركان، وهي :
1 – المرضع .
2 – اللبن.
3 – الرضيع.
الركن الأول في المرضع :
وضابطه: أن تكون امرأة، حية، محتملة للولادة، فهذه شروط ثلاثة لابد منها ليتحقق الرضاع وسنتكلم عنها بالتفصيل .
الشرط الأول: كونها امرأة، وبناء على ذلك لا يتعلق التحريم بلبن البهيمة، فلو شربه صغيران، لم تثبت بينهما أخوة، لأن الأخوة فرع الأمومة، ومنها ينتشر التحريم ن فإذا لم يثبت الأصل، لم يثبت الفرع.
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : ولو شربَ غلامٌ وجاريةٌ لبنَ بهيمةٍ ، من شاةٍ ، أو بقرةٍ ، أو ناقةٍ ، لم يكن هذا رضاعاً إنما هذا كالطعام والشراب . ولا يكون مُحَرماً بينَ من شربه إنما يُحَرِّمُ لبنُ الآدمياتِ ، لا البهائمِ ، قال الله تعالى : ] وأمهاتُكم اللاتي أرْضَعْنكم وأخواتُكُم من الرَّضاعَةِ [ وقال في الرضاعة : ] فإن أرْضَعْنَ لكُم فآتوهُنَّ أجورَهُنّ [ ( الطلاق : 6 )(1).
ويشترط ُ في المرأة أن تكون من بني آدمَ ، فلو كانتْ من الجِنِّ لا يثبت التحريم بلبنها على افتراض حدوثه ، لكونها من غيرِ جنسِ من يُنْكَحُ ، لأن الله قطع النَّسَبَ بين الجِنَّ والإنسِ في قوله : ] جَعَلَ لكم من أنفسكم أزواجاً [ ( النحل : 72 )(2).
لبن الرجل :
وبناء على ما ذكرناه من اشتراط كون المرضع امرأة ، لو ثارللرجل لبن ، فارتضعه صغير ، فإنه لا يحرم على الصحيح ، خلافاً للكرابيسي ، إلا أنه يكره للرجل أن ينكح صبية رضعت منه، كما يكره ذلك لفروعه.
قال الإمام الشافعي ، رحمه الله في ” الأم ” : ولا أحسَبُه ينزلُ للرجلِ لبنٌ ، فإن نزل له لبنٌ فأرضَعَ به مولودَةً ، كرِهْتُ له نكاحها ، ولوَلَدِهِ ، فإن نكحها لم أفْسَخْهُ ، لأن الله تعالى ذكر رَضاعَ الوالداتِ ، والوالداتُ إناثٌ ، والوالدونَ غيرُ الوالداتِ ، وذكر الوالدَ بأنَّ عليهِ مؤنه الرضاعِ ، فقالَ عز وجل : ] وعلى المولودِ له رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالَمَعْروفِ [ ( البقرة : 233 ) .
قال: فلم يَجُزْ أن يكونَ حكمُ الآباءِ حكمَ الأمهاتِ، ولا حكمُ الأمهاتِ حُكْمَ الآباء، وقد فَرَّقَ اللهُ عز وجل بين أحكامهم(3).
قال شيخ الإسلام زكريا : ولأنه ليس معداً للتغذية ، فلم يتعلق به التحريم ، كغيره من المائعات .
لبن الخنثى :
إذا ثار للخنثى لبن ، فإن هذا اللبن لا يدل على أنوثته ، ولا يقتضيها على المذهب، فلو ارتضعه صغير توقف في التحريم ، فإن بان أنثى حرم ، وإلا فلا(4 ) ، لأن هذا اللبن لم يخلق لغذاء الولد ، فأشبه سائر المائعات ،ولأن اللبن أثر الولادة ، وهي لا تتصور في الخنثى، إلا أنه يكره له نكاح من ارتضعت بلبنه(5) .
فإن مات قبل تبين حاله ، لم يثبت التحريم ، فللرضيع نكاح أم الخنثى ونحوها ، كما نقله الأذرعى عن المتولي وأقره(6) .
قال الإمام الشافعي ، رحمه الله : أصلُ ما أذْهبُ إليه في الخنثى أنهُ إذا كان الأغلبُ عليه أنهُ رجلٌ نكحَ امرأةً ولم ينزل ، فنكحهٌ رجلٌ ، فإذا نزل له لبنٌ ، فأرضعَ به صبياً ، لم يكن رضاعاً يُحَرِّمُ ، وهو مثلُ لبنِ الرجلِ ، لأني قد حكمتُ له بأنه رجلٌ ، وإذا كان الأغلبُ عليه أنهُ امرأةٌ ، فنزلَ له لبنٌ ، من نكاحٍ وغيرِ نكاحٍ ، فأرضعَ به صبياً ، حَرَّمَ ، كما تُحَرِّمُ المرأةُ إذا أرضعت .
قال : فإذا كان مُشْكلاً ، فلهُ أن ينكحَ بأيهما شاء ، فأيهما نكحَ به ، لم أجِزْ له غيره ، ولم أجْعَلْهُ ينكح بالآخر(7).
الشرط الثاني: كونها حية
الشرط الثاني من شروط المرضع كونها حية ، فلو ارتضع الرضيع من ميتة ، أو حلب لبنها وهي ميتة في سقاء ، ثم شربه ، لم يتعلق به تحريم ، كما لا يثبت حرمة المصاهرة بوطء الميتة(8)
ولأنه لو وصل لبن الحية إلى جوف الميتة، لم تثبت الحرمة، فكذلك الحال إن انفصل اللبن منها بعد موتها (9).
ولأنه منفصل عن جثة منفكة عن الحل والحرمة، فلا يثبت به التحريم، كلبن البهيمة.
وبهذا اندفع قول المخالفين في المسألة بأن اللبن لا يموت، فلا عبرة بظرفه، كلبن حية ففي سقاء نجس(10).
نعم يكره عندنا نكاح المرتضع من الميتة كراهة شديدة ، لقوة الخلاف في المسألة ، لأن الخروج من الخلاف مستحب وسواء في ذلك أرضع الخمس من الميتة أم رضع الخامسة فقط .
والمراد بالحياة في اشتراطنا كونها حية – المراد به الحياة المستقرة حال انفصال اللبن منها، خلافاً لمن انتهت إلى حركة المذبوح، فإنها لا تحرم، كالميتة.
قال الأذرعي : وأطلقوا في الوصايا أن من قطع بموته ، بأن بلغ الغرغرة ، أو أبينت حشوته ، ونحو ذلك ، أن حكمه حكم الموتى في جميع الأحكام ، وأنه لا حكم لقوله ولا لفعله ، وقضيته أن المرأة والطفل أذا بلغا أو أحدهما هذه الحالةَ – لم يتعلق بالإرضاع والإرضاع حكم(11).
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه في ” الأم “(12) : ولو أرضعت امرأةٌ صبياً أربعَ رَضَعات ، ثم حُلِبَ منها لبنٌ ، ثم ماتَتْ ، فأُوجِرَهُ صَبِيٌَ بعدَ موتها ، كان ابنَها ، كما يكونُ ابنَها لو أرْضعَتْهُ خمساً في الحياة .
قال : ولو رضعها الخامسةَ بعد موتها ، أو حُلِبَ له منها لبنٌ بعد موتها ، فأوجر ، لم يحرم ، لأنه لا يكونُ للميِّتِ فِعْلٌ له حُكْمٌ بحالٍ .
الحلب من النائمة :
ولو كانتْ نائمةً فَحُلِبَتْ ، فأُوجِرَهُ صبيٌّ ، حَرَّمَ لأن لبنَ الحَيَّةِ يَحلُ ، ولا يحلُّ لبنُ الميتَةِ ، وإن الحيةَ النائمةَ لها جِنايَةٌ ، بأن تَنْقَلِبَ على إنسانٍ ، أو تسقطَ عليه فتقتُلَهُ ، فيكونَ فيه العقلُ ، ولو سقطتْ ميتةً على إنسانٍ فقتلَتْهُ ، لم يكنْ لهُ عَقْلٌ ، لأنها لا جناية لها . ا هـ .
مذاهب العلماء في لبن الميتة :
قد ذكرنا أن مذهبنا عدم التحريم بلبن الميتة، على ما نص عليه الإمام الشافعي وأصحابه، لا خلاف بينهم في ذلك.
وذهب أبو حنيفة(13)، ومالك (14)، وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهو المعتمد عند الحنابلة(15) ، إلى أنه يحرم ، وهو اختيار الأوزاعي ، وابن القاسم ، وأبي ثور ، وابن المنذر(16)، ومنصور التميمي(17) .
وقد استدلوا بقول عمر: ” اللبنُ لا يموتُ “.
وحمله الشافعي على ما إذا حلب منها في حياتها ، ثم شربه الطفل بعد موتها ـ فإنه يحرم ، كالرضاع من الثدي ، ولا يبطل عمله بمفارقة الثدي(18).
واستدلوا بأن سبب التحريم اللبنُ، وهو موجود في الحياةِ وبعد المماتِ، ولا عبرةَ بظَرْفِهِ الميتِ، إلا أن هذا ليس بصحيح ، وذلك لأنه لو كان الأمر كذلك ، لوجب أن يؤثر لبن الحية أذا وصل إلى جوف الميتة ، وليس الأمر كذلك بالاتفاق ، فإذا لم تثبت الحرمة بوصول لبن الحية إلى جوف الميت ، لا تثبت بوصول لبن الميتة إلى جوف الحي ، لأنه منفصل عن جثة منفكة عن الحل والحرمة ، فلا يثبت به التحريم كلبن البهيمة .
الشرط الثالث: كونها محتملة للولادة
الشرط الثالث من شروط المرضع كونها محتملة للولادة ، وذلك ببلوغها تسع سنين قمرية تقريبية، فلو ظهر لصغيرة دون تسع سنين لبن ، لم يحرم ، وإن كانت بنت تسع سنين حرم ، وإن لم يحكم ببلوغها ، لأن احتمال البلوغ قائم ، والرضاع كالنسب ، فكفى فيه الاحتمال .
والسنين القمرية تقريبية ، لا تحديدية ، وهو الصحيح الذي نص عليه الأكثرون ، منهم الروياني ، والرافعي ، والنووي ، وشيخ الإسلام زكريا ، وابن حجر ، والشهاب الرملي ، وغيرهم .
وبناء على ذلك لو نزل اللبن قبل التسع بزمن لا يسع طهراً وحيضاً، حرم، كما هو الحال في الحيض، بخلاف ما إذا نزل قبل التسع بزمن يسع طهراً وحيضاً، وهو ستة عشر يوماً، فإنه لا يحرم، لأنها لا تحتمل الولادة، واللبن فرع الولد.
ونقل عن الماوردي أن التسع تحديديه ، وبناء على ذلك لا يثبت التحريم لو نزل اللبن قبل تمامها بيوم واحد ، كما نقله عنه الشهاب الرملي .
لبن البكر :
ما ذكرناه في الفقرة السابقة إنما هو في لبن الصغيرة التي لم تحتمل الولادة ، سواء أكانت بكراً أم ثيباً ، فإنه لا يحرم ، وأما إذا كانت المرضعة كبيرة ، تحتمل الولادة ، فإن لبنها يؤثر في التحريم ، سواء أكانت بكراً أم متزوجة ، على افتراض نزول اللبن للبكر ، وتثبت أمومتها للرضيع ، ولا أب له من الرضاع .
وقد نقل ابن المنذر الإجماع على هذا(19) .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : ولو أن بِكْراً لم تُمَسَّ بنكاحٍ ولا غيره ، أو ثيباً ، ولم يُعْلَمْ لواحِدَةٍ منهما حَمْلٌ ، نَزَلَ لهما لَبَن ، فحُلِبَ ، فخرجَ لبَنٌ ، فأرضعتا به مولوداً خمسَ رضعاتٍ ، كان ابنَ كلِّ واحدةٍ منهما ، ولا أبَ له ، وكان في غير معنى وَلَدِ الزنا ، وإن كانَتْ له أمٌ ولا أبَ لهُ ، لأن لبنه الذي أُرْضِعَ به لم ينزلْ من جِماعٍ (20)
الركن الثاني في اللبن :
الركن الثاني من أركان الرضاع هو اللبن الذي به يتحقق الرضاع والتحريم، والأصل فيه أن يكون على هيئته حال انفصاله عن الثدي،دون تغير، إلا أن هذا ليس شرطاً في التحريم، فلو تغير اللبن بحموضة أو غيرها، مما سنذكره في الفروع القادمة حرم أيضاًَ.
تغير طعم اللبن أو تركيبه :
وتغير اللبن بحموضة، أو انعقاد، أو إغلاء، أو صار جبناً، أو إقطاً, أو زبداً، أ, مخيضاً، وأطعم الصبي منه، حرم، لوصول اللبن إلى الجوف، وحصول التغذية، وفي حالة صيرورته زبداً، لا يشترط للتحريم أن يأكله مع اللبن الذي نزع منه، بل لو كان أكل الزبد وحده، أو اللبن وحده، أدى إلى التحريم، كما صرح به ابن حجر(21)، والشربيني (22)، والرملي (23) ،وغيرهم .
ولكن ما هو القدر الذي يجب أكله من الجبن ، أو الزبد ، أو القشطة ، أو غيرها من الأمور التي تنتج عن اللبن حتى يقع التحريم ؟
قال البلقيني : لم يذكروا في الجبن ونحوه القدر الذي يثبت به التحريم ، والقياس أنه يعتبر أن يأكل من ذلك قدراً لو كان لبناً أمكن أن يرضع منه خمس رضعات ، وأن يكون التفريق موجوداً في الابتداء والانتهاء ، ولا يضر في أكله الشبع من ذلك المأكول ، والمعتبر ما ذكره في اللبن(24).
قال الإمام الشافعي في ” الأم ” : ولو جُبِّنَ لهُ اللَّبَنُ ، فأُطْعِمَ جُبْنا، كان كالرضاع(25) .
وبهذا قال أحمد، وقال أبو حنيفة لا يحرم به، لزوال الاسم، ولنا: أنه واصل من الخلق ، يحصل به إنبات اللحم وإنشاز العظم(26).
شرب الدم أو القيح من الثدي :
وبناء على ما ذكرناه في الفرع السابق من أن التغير في اللبن لا يؤثر ،هل يضطرد هذا حتى لو استحال الحليب لدم يمتصه الرضيع من الثدي ؟
قال البلقيني : صرح صاحب (( الاستقصاء ))(27) بأنه لو امتص من ثديها دماً أو قيحاً فلا تحريم .
قال : ولو امتص ماء ، ففي (( الإيضاح ))(28) إن قال عدلان من أهل الطب هو لبن تغير لونه ثبت التحريم ، وإلا فلا (29) .
اللبن المنزوع منه الجبن :
وهو المسمى على ألسنة العامة بالمصل ، لأنه يشبه المصل الحقيقي، وهو ماء الأقط بعد غليانه وعصره ، على أحد تفاسيره في الربا ن كما قاله ابن حجر ، هل يحرم شربه ،كما يحرم اللبن المنزوع منه الزبد أم لا ؟
قال ابن حجر في (( التحفة )): إنه لا يحرم، قال: ويوجه بأنه انسلخ عنه اسم اللبن وصفاته بالكلية، بخلاف المنزوع منه الزبد، لبقائهما فيه(30) ، وقال الشبراملسي : وسواء أكانت فيه دسومة أم لا (31) .
أكل السمن :
مر معنا أن الزبد يحرم ، كما يحرم الجبن وغيره ، ووجه ببقاء اللبن فيه ، كما قال القليوبي ، قال : بخلاف السمن الخالي عن اللبن ، والمصلُ كذلك ،إلا أن الشرواني قال بعد الكلام على الزبد : والسمن من باب أولى ، ونقله عن ابن قاسم على المنهج وأقره .
الثرد في اللبن والعجن به :
لوثرد في اللبن طعام – من خبز وغيره – وأكله الطفل ، ثبت التحريم ، لوصول اللبن إلى الجوف، وقال النووي: ولو عجن به دقيق، وخُبِزَ ، تعلقت به الحرمة على الصحيح .
قال ابن حجر : لكن قيده الصيمري بما إذا لم يقلَّ وتقوى النار ، بحيث لم يبق له عين ، وإلا فلا تحريم(32) .
خلط اللبن بمائع :
إذا اختلط اللبن بغيره ، جامداً كان أو مائعاً ، دواء كان أو غيره ، طاهراً حلالاً كان كالماء ولبن الشاة ، أم حراماً كالخمر – فله حالان .
أحدهما: أن يكون اللبن غالباً.
والثاني: أن يكونا للبن مغلوباً.
الحالة الأولى:
أن يكون اللبن غالباً على الخليط، فإذا شرب منه الصبي خمس مرات تعلق به التحريم، قولاً واحداً (33). لكن بشرط أن يكون اللبن المختلط قد انفصل في خمس دفعات ، على ما اختاره الرملي ، والشربيني ، وشيخ الإسلام زكريا والزيادي ، وابن قاسم ، خلافاً لابن حجر ، الذي لم يشترط التعدد في الانفصال في حالة الاختلاط ، وقد نسبه ابن قاسم للتعسف (34).
الحالة الثانية:
أن يكون اللبن مغلوباً، وفي هذه الحالة قولان، أظهرهما : أنه يتعلق به التحريم ، لوصول اللبن إلى الجوف ، وذلك هو المعتبر ولهذا يؤثر كثير اللبن وقليله .
قال النووي: ويفارق الخمر المستهلكة في غيرها، إذ لا يتعلق بها الحد، لأن الحد منوط بالشدة المزيلة للعقل.
ويفارق النجاسة في الماء الكثير، لأنها في الماء تجنيب للإستقذار، وهو مندفع بالكثرة ،ويفارق المحرم إذا أكل طعاماً استهلك فيه الطيب، إذ هو ممنوع من التطيب، وليس هذا بتطيب.
وتأثير اللبن المغلوب في التحريم إنما هو على الجملة، وذلك لأن له تفصيلاً دقيقاُ لا بد منه، وهو أنه إما أن يشرب كل الخليط ، وإما أن يشرب بعضه، وإن شرب بعضه، إما أن نتأكد من وصول اللبن إلى هذا البعض وانتشاره فيه، وإما أن لا نتأكد من ذلك، فإن شرب جميع المخلوط تعلق التحريم به على ما ذكرناه قطعاً، وإن شرب بعضه، فإما أن نتحقق وصول اللبن إلى المشروب، أولا، فإن تحققنا وصول اللبن إلى المشروب، بأن انتشر في الخليط، ووصل إلى كل أجزائه، أو كان الباقي من المخلوط أقل من قدر اللبن، ثبت التحريم هنا قطعاً أيضاً.
وأما إن لم نتحقق وصول اللبن ، كأن وقعت قطرة في جب ماء ، وشرب بعضه فالأصح أنه لا يتعلق به تحريم ، على ما قاله ابن سريج ، وأبو إسحق ، والماوردي ، لأنا لم نتحقق وصول اللبن إلى الجوف .
ويجب أن يتحقق كون اللبن المختلط قدراً يمكن أن يسقى منه خمس رضعات لو انفرد عن الخليط في الأصح ، على ما اختاره السرخسي وأقره النووي وغيره، كما يجب أن يراعى كونه قد انفصل في خمس دفعات كما ذكرنا على اختيار أكثر الأصحاب، خلافاً لابن حجر.
قال الإمام الشافعي: وإن خُلط للمولودِ لَبَنٌ في طعامٍ فيطعمه، كانَ اللبنُ الأغلبَ أو الطعامُ ، إذا وصلَ اللبنُ إلى جوفِهِ ، وسواءٌ شِيْبَ لهُ اللبنُ بماءٍ كثيرٍ أو قليلٍ – إذا وصلَ إلى جَوْفِهِ فهو كله رَضاعٌ (35) .
ضابط اللبن الغالب :
عرفنا تفصيل المذهب في اللبن الغالب والمغلوب، وبقي علينا أن نعرف الضابط في كون اللبن مغلوباً.
قال النووي رحمه الله ،والصحيح الذي قطع به الأكثرون أن الاعتبار بصفات اللبن، الطعم، واللون، والرائحة .
فإن ظهر منها شيء في المخلوط فاللبن غالب، وإلا فمغلوب.
قال : ونقل أبو الحسن العبادي في ” الرقم ” تفريعاً على هذا عند الحليمي ما يفهم منه أنه لو زايلته الأوصاف الثلاثة اعتبر قدر اللبن بماله لون قوي يستولي على الخليط ،فإن كان ذلك القدر منه يظهر في الخليط، ثبت التحريم، وإلا فلا.
قال الحليمي : وهذا شيء استنبطته أنا ، وكان في قلبي منه شيء ، فعرضته على القفال الشاشي ، وابنه القاسم ، فارتضياه ، فسكنت ، ثم وجدته لابن سريج ، فسكن قلبي إليه كل السكون .
وهذا نظير ما مر معنا في المياه إذا خالطها فاقد الأوصاف، فإنه يقدر مخالفاً وسطاً، إن كان طاهراً، ومخالفاً شديداً، إن كان نجساً.
قال ابن حجر : ولو زايلت اللبن المخالط لغيره أوصافه ، اعتبر بما له لون قوي يستولي على الخليط كما قاله جمع متقدمون ، ويظهر اعتبار أقوى ما يناسب لون اللبن ، أو طعمه ، أو ريحه ، أخذاً مما مر أول الطهارة ، في التغير التقديري بالأشد ، فاقتصارهم هنا على اللون كأنه مثال(36).
مذاهب العلماء في اللبن المختلط :
عرفنا أن مذهبنا هو التحريم في اللبن المخلوط بغيره، غالباً كان اللبن أو مغلوباً، على التفصيل الذي ذكرناه في المغلوب، وإليه ذهب الإمام أحمد.
وذهب الإمام أبو ثور إلى أنه إذا كان الطعام هو الغالب، لا عين للبن فيه ولا طعم، فإنه لا يحرم (37) ، وهو اختيار صاحبي أبي حنيفة (38)، وإن كان اللبن هو الغالب حرم .
وقال أصحاب الرأي : إذا مست النار اللبن حتى أنضجت الطعام ، وتغير ، فليس ذلك برضاع (39).
وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا شيب اللبن بالماء أو المائع فكان اللبن مغلوباً مستهلكاً، لم يحرم، وإن كان غالباً حرم، فإن شيب اللبن بالطعام، فإنه لا يحرم بحال، سواء أكان غالباُ أم مغلوباً.
وقال المالكية: يحرم اللبن المشوب ما لم يكن مستهلكاً فيما اختلط فيه، فإن اختلط اللبن فيما يستهلك فيه من طبخ، أو دواء ن أو غيره، فإنه لا يحرم، وهذا عند جمهور أصحابه، ولم يوجد لمالك نص فيه (40) .
قطرة اللبن في الفم أو الجب :
لو وقعت قطرة لبن في فم الصبي، واختلطت بريقه، ثم وصلت جوفه، فالمذهب التحريم (41).
قال ابن حجر:ولا أثر لغلبة الريق لقطرة اللبن، إلحاقاً له برطوبة المعدة (42).
قال صاحب ” التهذيب ” وغيره: ولو لم يحصل في جوفه إلا خمس قطرات، في كل رضعه قطرة ، حرم (43).
قال ابن حجر: فلو وقعت قطرة في جب ماء، عد شربه جميعه رضعه واحدة.
اختلاط لبن المرأة بلبن أخرى :
إذا اختلط لبن امرأة بلبن امرأة أخرى، وشربه الصغير، فإن كانا سواء، فلا خلاف في تعليق التحريم بهما، وإن غلب احدهما على الآخر، فلا خلاف أيضا في تعلق التحريم به، وأما المغلوب فالأصح تعلق التحريم به، كما قال النووي، بناء على ما ذكرناه في اختلاط اللبن بمائع في الفرع السابق.
خروج اللبن من غير طريقه المعتاد :
لو خرج اللبن من غير طريقه المعتاد ، فهل يؤثر مطلقاً ، أو فيه نحو تفصيل الغسل ، من خروج المني من ذلك .
قال ابن قاسم: فيه نظر، ولعل القياس الثاني.
قال: وكذا الخلاف لو خرج من ثدي زائد (44) .
قال الشرواني : وقياس تفصيل خروج المني من ذلك أنه لو خرج مستحكماً بأن لم يُحلْ خروجه على مرض ، حَرَّمَ وإلا فلا، وليس من ذلك ما لو انخرق ثديها وخرج منه اللبن ، فلا يقال فيه هذا التفصيل ، بل الأقرب التحريم ، قياساً على ما لو انكسر صلبه فخرج منيه ، حيث قالوا بوجوب الغسل ، ومثله في التحريم ما لواستؤصل ثديها ، وخرج اللبن من أصله(45)
(1) الأم 5 / 26 .
(2) التحفة 8 / 284 ؛ والشهاب الرملي على شرح الروض 3 / 415 ؛ والنهاية
7 / 172 .
(3) الأم 5 / 36 . وأنظر الروضة 9 / 4 ؛ والتحفة 8 / 284 .
(4) الروضة 9 / 3
(5) شرح الروض 3 / 416 .
(6) المغني 3 / 414 .
(7) الأم 5 / 36 .
(8) الروضة 9 / 3 .
(9) شرح الروض 4 / 316 .
(10) التحفة 8 / 285 .
(11) الشهاب على الروض 3 / 415 .
(12) 5 / 31 .
(13) ابن عابدين 3 / 218 .
(14) الكافي 2 / 540 .
(15) المغني لابن قدامه 8 / 175 .
(16) الإشراف 4 / 117 .
(17) حاج ابراهيم على الأنوار 2 / 334 .
(18) حاج ابراهيم 2 / 334 .
(19) الإشراف 4 / 115 .
(20) الأم 5 / 30 .
(21) التحفة 8/285
(22) المغني 3/415
(23) النهاية 7/173
(24) شرح الروض 3 / 416 .
(25) الأم 5 / 29 .
(26) المغني لابن قدامه 8 / 174 .
(27) هو عثمان بن عيسى بن درباس ، شرح به مهذب الشيرازي ( ط . الشافعية
لابن السبكي 8 / 337 ) .
(28) لعله للصيمري صاحب (( الإيضاح في المذهب )) ( ط . ابن السبكي 3 / 339 )
أو للجاجرمي صاحب (( ايضاح الوجيز )) ( ط . ابن السبكي 8 / 44 ) .
(29) الشهاب الرملي على شرح الروض 3 / 416 .
(30) التحفة 8 / 285 .
(31) النهاية 7 / 174 .
(32) فتح الجواد 2 / 218 .
(33) الروضة 9 / 5 .
(34) التحفة 8 / 287 وانظر الشرواني وابن قاسم عليها ، وانظر الجمل على المنهج
4 / 477 – 478 وحواشي شرح البهجة 4 / 373 – 74 – 75 .
(35) الأم 5 / 29 .
(36) التحفة 8 / 286 .
(37) الإشراف 4 / 116 والمغني لابن قدامه 8 / 175 .
(38) الهدايا 3 / 452 .
(39) الإشراف 4 / 116 ؛ المغني 8 / 175 .
(40) الإفصاح 2 / 180 .
(41) الروضة 9 / 6 .
(42) فتح الجواد 2 / 218 .
(43) الأنوار 2 / 334 .
(44) ابن قاسم على التحفة 8 / 284 .
(45) الشرواني على التحفة 8 / 285 عن العشماوي ، وانظر الجمل على المنهج
4 / 477 .