الاستدلال
الاستدلال
والآن وبعد أن عرفنا المذاهب في المرسل وحررناها ، وعلمنا ما فيها ، وبينا ما اشتبه منها . يجب علينا أن نتعرض لذكر الأدلة التي استدل بها كل فريق ، والأجوبة التي أجيب بها عنها والاعتراضات التي وردت عليها ، وبعد ذلك نحرر مذهب الإمام الشافعي – رضي الله عنه – فنقول :
استدل المحتجون بالمرسل مطلقاً بالآتى :
1- إن الصحابة والتابعين أجمعوا على قبول المراسيل من العدل مطلقاً فإنهم قبلوا أخبار عبد الله بن عباس مع كثرة روايته ، وقد قيل إنه لم يسمع من رسول الله r سوى أربعة أحاديث لصغر سنه ، ومن أمثلته أنه لما روى عن رسول الله r ” إنما الربا في النسيئة ” روجع فيه فقال: أخبرني به أسامة بن زيد .
وأيضا ما روي عن البراء بن عازب أنه قال : ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن سمعنا بعضه ، وحدثنا أصحابنا ببعضه.
وأما التابعون فقد كان من عادتهم إرسال الأخبار ، ويدل على ذلك ما روى عن الأعمش أنه قال : قلت لإبراهيم النخعى : إذا حدثتنى فأسند ، فقال : إذا قلت لك حدثنى فلان عن عبد الله ، فهو الذي حدثنى ، وإذا قلت لك : حدثنى عبد الله فقد حدثنى جماعة عنه.
وأيضاً ما روى عن الحسن أنه روى حديثاً ، فلما روجع فيه قال : حدثنى به سبعون بدرياً .
ويدل على ذلك ما اشتهر من إرسال ابن المسيب ، والشعبى وغيرهما ، ولم يزل ذلك مشهوراً فيما بين الصاحبة والتابعين من غير نكير ، فكان إجماعاً .
قلنا : أما استدلالكم بإرسال الصحابة وأنه كان مقبولاً ، فهو حق ونحن لا ننازعكم فيه ، فمرسلهم حجة عندنا وعندكم ، خارج عن محل النزاع . وكون مرسل الصحابى مجمعاً على قبوله ، لا يعنى ذلك قبول مرسل التابعى ، لأن الصحابة فيهم مزية خاصة وهى إجماع الأمة على عدالتهم ، وأوجبت قبول مرسلهم ، ولم يحدث مثل هذا الإجماع من الأمة على عدالة التابعين وأتباعهم ، بل اتفقت الأمة على أنه كان فيهم من ليس بثقة – فلا دلالة.
وأما استدلالكم بأن التابعين كانوا يرسلون ، وأن إرسالهم شاع وذاع ولم ينكره أحد فكان بمثابة الإجماع – يلزم عليه أن يكون المخالف في رد المرسل خارقاً للإجماع ، واللازم باطل.
قالوا : هذا الإجماع استدلالي ، والاستدلالي لا يقدح .
قلنا : خرق الإجماع مطلقاً حرام ، سواء كان قطعاً أو استدلالياً .
وثانياً : من قال لكم إن من سميتموهم كانوا يرسلون؟ ولئن أتيتم بصورة فتلك قد عرف أنها مسندة من وجه ، وإذن فالحجة عليكم لا لكم – كما قال ابن السبكي – لأنهم إنما احتجوا بالمسند لا بالمرسل . فلا إجماع أصلاً .
قال ابن السبكي : “والذي نعرف ذكره قديماً للقائلين بالمراسيل ، دعواهم الإجماع على قبول مرسل الصحابي ، أما مرسل التابعي فلا نعرف عن إمام من أئمة النقل ممن يقبل المرسل دعوى الإجماع فيه “.
قلت : والذي يدل على عدم الإجماع أيضاً قول ابن سيرين : ” لا نأخذ بمراسيل الحسن وأبى العالية ، فإنهما لا يباليان عمن أخذا الحديث . فأين إجماع التابعين ؟!
قالوا : قال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة (ص5) : “وأما المرسل فقد كان يحتج به العلماء فيما مضى / مثل سفيان الثوري ، ومالك بن أنس ، والأوزاعي ، حتى جاء الشافعي فتكلم فيه …” اهـ .
قلنا : هذا مردود بكلام مسلم بن حجاج في صدر صحيحه (1/132) شرح النووي حيث قال : ” والمرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة ” اهـ .
فإن كان مراد أبى داود وقوع الإجماع على القبول قبل الشافعي – فهذا مردود بكلام مسلم ، وبما قدمنا ، وإن كان مراده الإخبار عن المذكورين وغيرهم بأنهم كانوا يعملون بالمرسل فنحن نقول به ، ولا دليل فيه لكم ، والمسألة اجتهادية.
قالوا: قال محمد بن جرير الطبري: ” إنكار المرسل بدعة حدثت بعد المائتين”
قلنا : قال ابن السبكي في رفع الحاجب عن ابن الحاجب : مراده – إن ثبت هذا عنه – حدث القول به لما احتيج إليه ، لأن أحدا قبل ذلك لم يكن يعمل بالمراسيل فلما تطاول العمل به؛ احتيج إلى إنكاره ، فكانت بدعة واجبة .
وهذا ككثير من الكلام في الصفات وأصول الديانات إنما احتاج الأئمة إلى إنكاره وقت وقوع قوم فيه ، وذلك بعد صدر الإسلام .
ويوضح هذا أن ابن جرير ؛ مع إمامته في الفقه والحديث ، كان من أجلاء الشافعية ، فيبعد عليه نسبة إمامه – الذي هو أدرى بمواقع الإجماع والاختلاف من أمثاله – إلى خرق الإجماع .
وأن أراد ابن جرير ؛ ما فهم من كلامه ، فهو محجوج بكلام مسلم بن حجاج الذي ذكرناه قبل قليل ، وبأن ابن مهدى وابن القطان قالا به قبل الشافعي .
2- قالوا إذا قال العدل الثقة : قال رسول الله r كذا ، مظهراً للجزم فالظاهر من حاله أنه لا يستجيز ذلك إلا وهو عالم أو ظان أن النبي r قاله ، ولو كان ظاناً أو شاكا بأن النبي r لم يقله لما استجاز في دينه النقل الجازم عنه ، لما فيه من الكذب والتدليس على المستمعين ، وذلك يستلزم تعديل من روى عنه ، وإلا لما كان عالماً ، ولا ظاناً بصدقه في خبره.
قلنا : لا نسلم ما ذكرتموه من أن قول الراوى ” قال رسول الله r ” تعديل للمروى عنه.
فإن العدل قد يروى عمن لو سئل عنه ؛ لتوقف فيه ، أو جرحه ، وقد رأيناهم رووا عمن إذا سئلوا عنه عدلوه مرة ، وجرحوه أخرى ، أو قالوا : لا ندرى.
وقد جرى لطوائف من الأئمة منهم الزهرى ، أرسل حديثاً ثم قيل له : من حدثك به؟ قال : رجل على باب عبد الملك بن مروان.
فالراوي عنه ساكت عن تعديله ، ولو كان السكوت عن الجرح تعديلاً لكان السكوت عن التعديل جرحاً ، ولوجب أن يكون الراوى إذا جرح من روى عنه مكذباً نفسه.
ولأن شهادة الفرع ليست تعديلاً للأصل ما لم يصرح به .
وافتراق الرواية والشهادة في بعض التعبدات ؛ لا يوجب فرقاً في هذا المعنى ، كما لم يوجب فرقاً في منع قبول رواية المجهول والمجروح .
وإذا لم يجز أن يقال : لا يشهد العدل إلا على شهادة عدل . لم يجز ذلك في الرواية .
ووجب فيها معرفة عين الشيخ والأصل الذي روى عنهما حتى ينظر في حالهما .
فإن قالوا : كلامكم هذا يرد في غير الأئمة ، أما الأئمة فلا يرون إلا عن عدل ، ولا يسكتون إلا عنهم .
قلنا : هذا جواب ساقط فإن الإمام قد يروى ويسكت عن غير العدل وقد ذكرنا ابن شهاب ، وهو من هو .
ولقد روى شعبة وسفيان عن جابر الجعفى ، مع ظهور أمره في الكذب ، وسكتوا في بعض الروايات عن جرحه ، بل قال ابن حزم : وقد وثق سفيان الثورى جابراً الجعفى ، وجابر من الكذب ، والفسق ، والشر ، والخروج عن الإسلام – بحيث قد عرف ، ولكن خفى أمره على سفيان ، فقال بما ظهر منه إليه .
وأيضاً فإن أكثر المراسيل عن الحسن ، والنخعي ، وعطاء ، ومكحول ، وابن المسيب ، والزهري ، ولقد أكثروا من الراوية عن المجاهيل .
ثم غاية الأمر أن نسلم لهم أن الأئمة لا يروون إلا عن عدل ، ونقول : رب عدل في اجتهاد الراوى منهم ؛ غير عدل في اجتهادنا ، وهذا لأن أسباب الجرح والتعديل مختلف فيها ، فليبح باسمه ، ليعلم أهو عدل عندنا أم لا .
وأما قولكم : إنه لو لم يكن ظاناً لعدالة المروى عنه ، أو عالما بها لما جاز له أن يجزم بالرواية عن النبي r ، لأنه والحالة هذه يكون مدلساً ملبساً – فهو غير صحيح أيضاً .
وقد بينا لكم إمكان الرواية عن الكاذب ، بما ذكرناه من أمر سفيان وشعبة وغيرهما ، والجزم بالرواية في هذه الحالة مع إمكان الكذب قادح في الرواية عن النبي r. ولا تتهم الراوى بالتدليس ، إذا التدليس إنما يحصل لو أوهم عدالته ، وهو لم يجر منه غير ترك ذكره ، وترك ذكره سكوت عنه لا يدل على شيء وإن دل على عدالته عنده فلم يلزم من عدالته عنده أن يكون عدلاً ، ولهذا قال علماؤنا : لو قبل المرسل لقبل مع الشك في عدالة الراوي .
فإن قيل : العنعنة كافية في الرواية مع أن قوله روى فلان عن فلان عن فلان ، يحتمل ما لم يسمعه فلان عن فلان ، بل بلغه بواسطة ، ومع الاحتمال يقبل ، ومثله في الشهادة لا يقبل.
قلنا : العنعنة جرت العادة بها في الكتبة ، فإنهم استثقلوا أن يكتبوا عند كل اسمٍ روى فلان عن فلان سماعاً منه ، فأوجزوا ، وإنما يقبل في الرواية ذلك ، إذا علم بصريح لفظه أو عادته أنه يريد به السماع فإن لم يرد السماع فهو متردد بين المسند والمرسل ، فلا يقبل.
ولئن سلمنا جدلاً أن الرواية تعديل ، فالتعديل المطلق لا يقبل ، ما لم يذكر السبب .
سلمنا أن مطلق التعديل كافٍ ، لكن ذلك يكون إذا عين المروى عنه ، ولم يعرف بفسق ،وأما إذا لم يعنيه فلعله اعتقده عدلا في نظره ، ولو عينه لعرفنا فيه فسقاً لم يطلع المعدل عليه.
ولهذا لم يقبل تعديل شاهد الفرع لشاهد الأصل مع عدم تعيينه .
سلمنا لكم أن ما ذكرتموه دالٌ على التعديل ، لكنه معارض بما يدل على عدم التعديل من أوجه :
الأول : أن الجهالة بعين الراوي أكد من الجهل بصفته ، وذلك لأن من جهلت ذاته فقد جهلت صفته ، ولا كذلك بالعكس ، ولو كان معلوم العين مجهول الصفة ، لم يكن خبره مقبولاً ، فإذا كان مجهول العين والصفة ، كان أولى بعدم القبول .
فإن قالوا : ما كل من جهلت عينه جهلت صفته ، وهذا قد علمت عدالته على الجملة بالرواية عنه .
قلنا : ذلك لا يجدي ، وردَّدنا قولنا بأنه لو عينه لكان من المحتمل أن نطلع على عيب ، ولأن من شرط قبول الرواية المعرفة بعدالة الراوي والمرسل لا تعرف عدالة الراوي له ، فلا يكون خبره مقبولاً لفوات الشرط .
الثانى : هو أن الخبر كالشهادة في اعتبار العدالة ، وقد ثبت أن الإرسال في الشهادة مانع من قبولها ، فكذلك في الخبر .
الثالث : أنه لو جاز العمل بالمراسيل ، لما كان لذكر أسماء الرواة ، والبحث عن عدالتهم معنى ، ولما كان للإسناد أية فائدة ، لكن التالي باطل ، فإن هذه الأمة قد خصها الله تعالى بالإسناد ، وهو من محاسنها ، ومازال سلف الأمة يتطلبونه ، ويركبون القفار في تحصيله ، ويسمون الأحاديث العارية عن الإسناد بتراء.
ولقد جعل إسحق بن أبى فروة يوما يرسل ويقول : قال رسول الله r ، وعنده الزهرى، فقال : قاتلك الله يا ابن أبى فروة ، ما أجرأك على الله ، إلا تسند حديثك .
قال حملة الشريعة : وترك الإسناد يذهب رواء الحديث وطلاوته وحلاوته . وقال عبد الله بن المبارك وغيره من العلماء : الإسناد يزين الحديث ,
وقال غيره : الإسناد الدين ، لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
قال ابن السبكي : وهذا الاعتراض من معتمدات اصحابنا ، وهو حسن . فإن قالوا : بل تكون للإسناد فائدة ، وهى في أئمة النقل معرفة تفاوت درجاتهم .
قلنا : لم يشرع الإسناد لهذا ، بل شرع ليتوثق به من كلام رسول الله r فإن قالوا : ذكره يرفع الخلاف الواقع في المرسل وهذه فائدة.
قلنا : فليذكروه ليرتفع الخلاف .
الرابع : أنه لو وجب العمل بالمراسيل في العصور الأولى ؛ لوجب العمل بها في عصرنا، فيما إذا قال إنسان عدل : قال رسول الله r . لكن التالي منتف ، فإن العدل في أيامنا لو قال : قال رسول الله r لما قبل منه ، حتى يذكر الإسناد إليه عليه الصلاة والسلام.
ولئن التزموه كما فعله الآمدى مطلقاً – حيث قال : ” فإنه مهما كان المرسل في زماننا عدلا ، ولم يكذبه الحفاظ فهم حجة ” – وابن الحاجب على تفصيل بين أئمة النقل وغيرهم ؛ فقد خالفوا الواقع ، وقضوا على مزية الإسناد ، وأثبتوا حديث رسول الله r بدون حجة ، فإن عدم معارضة الحفاظ ليس دليلاً على صحة المرسل .
وكم من مرسل ، أرسله العدول ، ولم يخالفه الحفاظ ، لم يعملوا به كما سنبين ذلك في القريب إن شاء الله ,
3- قالوا : إن المفتى إذا قال للمستفتى : قضى رسول الله r بكذا ، كان عليه أن يعمل به ، وإن لم يذكر له إسناداً ، فكذلك إذا قال : قال رسول الله r كذا .
قلنا : المفتى خاص ، وهذا عام ، لأن العمل بقول المفتى في المستفتى فقط ، ولا يتعداه إلى كل واحد ، بخلاف الرواية ، فإنها تشمل جميع الخلق .
لا يقال : فأصل شرعية الفتوى يقتضى شرعاً عاما ، لأنا نقول الرواية تشمل جميع المكلفين، والفتوى ليست حجة على المجتهدين ، فكانت عمومها أقل من الرواية .
فمن قاس الخبر المرسل على الفتوى ، فقد قاس مع الفارق ، وهو باطل .
قال القاضي في التقريب : لا أختار لك التمسك به ، إذ الفتوى ثبتت بقاطع ، أى وقياس الرواية عليها قصاراه إن صح ، وبطل الفارق ، أمارة الظن ، فلا يصح .
أما أولاً : فلأنه لا يكتفى بالظن في مسائل الأصول ,
وأما ثانياً : فلأن الفرع غير مساوٍ للأصل ، إذ هو مظنون ، والأصل مقطوع ، فلا ينهض القياس ,
4- قالوا : إذا أسند الرواية للراوى ، فإنما شهد عليه بأنه روى ذلك ، فإذا أرسل ؛ فإنما يشهد على رسول الله r أنه قال ذلك ، ومن علم أنه لا يستجيز الشهادة على غير رسول الله بالباطل ، مع قوله عليه السلام : ” من كذب علىّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ” .
قلنا : إذا ذكر الراوى ، وأسند إليه الحديث ، بحثنا عنه ، وتبينا حاله ، فإن كان من أهل القبول قبلنا حديثه ، وإلا فلا.
أما إذا لم يذكر الراوى ، فلا نحيل كون الحديث كذباً ، ولا نتهمه بتعمد الكذب ، لأن ذلك يكون لو علم أن الذي رواه كاذباً ، وسكت عنه ، أما إذا لم يعلمه ، فلا يقدح ذلك فيه وإن كان يقدح في الرواية لاحتمال الكذب ، ولقد علمنا ما حدث لسفيان الثورى مع جابر الجعفى ، فقد قبل عنه ، وهو كذاب لخفاء أمره عليه ، ولم نتهم سفيان بتعمد الكذب على رسول الله r ، وهذا قريب من دليلهم الثانى الذي ذكرناه آنفاً .
5- قال الذين غَلَوْا في المرسل وجعلوه أقوى من المسند كابن أبان وصاحب التنقيح ,
قال الحسن : كنت إذا اجتمع لى أربعة من الصحابة على حديث أرسلته إرسالاً .
وقال ابن سيرين : ما كنا نسند الحديث إلى أن وقعت الفتنة .
وقال الأعمش : قلت لإبراهيم إذا رويت لى حديثاً عن عبد الله فأسنده لى فقال : إذا قلت لك حدثنى فلان عن عبد الله فهو ذاك ، وإذا قلت لك قال عبد الله فهو غير واحد.
فمن أجل هذا علمنا أن المرسل أقوى من المسند .
قلنا : لم يشترطوا ذلك في كل مرسل لهم ، بل كانوا يرسلون الذي تحقق فيه ما قالوه وغيره ، ولذلك وجدنا لهم كثيراًَ من المراسيل التي لا تصح ، فلا نقبل المرسل .
وثانياًَ : لو كان المرسل أقوى من المسند أو مساوياً له ؛ لجاز نسخ الخبر به إذا عارضه ، لكن التالي باطل بالاتفاق منا ومنكم ، فبطل المقدم وهو كونه مساوياً أو أقوى ، وثبت نقيضه ، وهو ليس مساوياً ولا أقزى ، بل هو ضعيف لا يحتج به لما قدمناه .
6-احتج من قيد القبول المطلق بالقرون الثلاثة الأولى ، وقيده فيما بعدها بكونه من أئمة النقل – بقوله عليه الصلاة والسلام : ” خير القرون قرنى ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يفشو الكذب ” فشهد رسول الله r للقرون الثلاثة بالخيرية ، فكانت عدالتهم ثابته بتلك الشهادة ، وشهد على من بعدهم بالكذب ، فلا يقبل إلا إذا كان عدلا من أئمة النقل .
قلنا : فإن الحديث محمول على الغالب – ولا دلالة فيه لا على القبول ، ولا على التخصيص – وإلا فقد وجد في القرنين من هو متصف بالصفات المذمومة ووجد فيمن بعدهم من هو خير ، فإما أن يقبل الجميع ، أو يرد الجميع .
روى الشافعي عن عمه ، حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : إنى لأسمع الحديث استحسنه فما يمنعنى من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدى به وذلك أنى أسمعه من الرجل أثق به ، قد حدث عمن لا أثق به .
وهذا كما قال ابن عبد البر ، يدل على أن الزمان ، أى زمان الصحابة والتابعين ، كان يحدث فيه الثقة وغيره .
فلا دلالة في الحديث على قبول مرسلهم .
وأما قبولهم لمن بعد القرون الثلاثة بالشرط المذكور ، فقد علمت الرد عليه ضمن الرد على القابل مطلقاً ، وبه يرد على ابن الحاجب ، وابن الهمام حيث عمما الشرط في أهل القرون الثلاثة ومن بعدهم .
* * * *
أما الذين ردوا الحديث المرسل ؛ فقد احتجوا بما يلى :
1- بما ذكرناه من المعارضة والرد على القابلين له ، وفى ذلك كفاية لثبوت الرد وعدم القبول .
2- قال النووى في شرح المهذب (1/99) : ودليلنا في رد المرسل مطلقاً أنه إذا كانت رواية المجهول المسمى لا تقبل لجهالة حالة ، فرواية المرسل أولى ، لأن المروى عنه محذوف مجهول العين والحال .
3- قال ابن حجر في شرح النخبة (ص66) : ” وإنما ذكر – المرسل – في قسم المردود للجهل بحال المحذوف ؛ لأنه يحتمل أن يكون صحابياً ، ويحتمل أن يكون تابعياً ، وعلى الثانى يحتمل أن يكون ضعيفاً ، ويحتمل أن يكون ثقة ، وعلى الثانى يحتمل أن يكون حمل عن صحابى ، ويحتمل أن يكون حمل عن تابعى آخر ، وعلى الثانى فيعود الاحتمال السابق ويتعدد ، أما بالتجويز العقلى فإلى ما لا نهاية له ، وأما بالاستقراء فإلى ستة أو سبعة ، وهو أكثر ما وجد من رواية بعض التابعين عن بعض” اهـ .
4- روى في الحيلة عن مهدى عن ابن لهيعة ، أنه سمع شيخاً من الخوارج يقول بعدما تاب : ” إن هذه الأحاديث دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم ، إنا كنا إذا هوينا أمراً صيرناه حديثاً ” أ هـ .
قال القاسمى : ولذا قال شيخنا : أن هذه والله قاصمة الظهر للمحتجين بالمرسل ، إذ بدعة الخوارج كانت في صدر الإسلام ، والصحابة متوافرون ، ثم في عصر التابعين فمن بعدهم ، وهؤلاء كانوا إذا استحسنوا أمراً جعلوه حديثاً ، واشاعوه ، فربما سمع الرجل الشئ فحدث به ، ولم يذكر من حدثه به تحسيناً للظن ، فيحمله عنه غيره ، ومجيء الذي يحتج بالمقاطيع فيحتج به ، مع كون أصله ما ذكرت ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .
فهذه جملة الأدلة التي استدل بها أهل المذاهب ، وما عدا ذلك من الأدلة لم أذكره لأنه ضعيف لا يعول عليه ولم أرد تضييع الوقت به ، وإما لأنه يندرج تحت عموم دليل من الأدلة التي ذكرناها . وجملة أدلة الرادين للمرسل تقدمت في ردهم على القائلين به .
وختاماً لهذا البحث إليك ما قاله الإمام الترمذى في كتابه ” العلل” عن الحديث المرسل ، قال في (5/753) من السنن :
قال أبو عيسى : والحديث إذا كان مرسلاً فإنه لا يصح عند أكثر أهل الحديث قد ضعفه غير واحد منهم .
حدثنا علي بن حجر ، أخبرنا بقية بن الوليد ، عن عتبة بن أبى الحكم قال : سمع الزهرى إسحاق بن عبد الله بن أبى فروة يقول: قال رسول الله r ، قال رسول الله r ، فقال الزهري: قاتلك الله يا ابن أبي فروة، تجيئنا بأحاديث ليست لها خطم ولا أزمة .
حدثنا أبو بكر ، عن على بن عبد الله قال : قال يحيى بن سعيد : مرسلات مجاهد أحب إلىّ من مرسلات عطاء بن أبى رباح بكثير ، كان عطاء يأخذ كل ضرب ، قال على : قال يحيى : مرسلات سعيد بن جبير أحب إلىّ من مرسلات عطاء .
قلت ليحيى : مرسلات مجاهد أحب إليك من مرسلات طاووس؟ قال : ما أقربهما .
قال علي : وسعت يحيى بن سعيد يقول : مرسلات أبى إسحق عندى شبه لا شئ ، والأعمش ، والتيمى ، ويحيى بن أبى كثير ، ومرسلات ابن عيينة شبه الريح ، ثم قال : أي والله ، وسفيان بن سعيد.
قلت ليحيى: فمرسلات مالك ؟ قال : هى أحب إلىّ ثم قال يحيى ليس في القوم أحد أصح حديثاً من مالك .
حدثنا سوار بن عبد الله العنبرى قال : سمعت يحيى بن سعد القطان يقول : ما قال الحسن في حديثه قال رسول الله0 r إلا وجدنا له أصلاً ، إلا حديثاً أو حديثين .
قال أبو عيسى : ومن ضعف المرسل فإنه ضعف من قبل أن هؤلاء الأئمة حدثوا عن الثقات وغير الثقات ، فإذا روى أحدهم حديثاً وأرسله لعله أخذه عن غير ثقة .. قد تكلم الحسن البصري في معبد الجهني ثم روى عنه .
حدثنا بشر بن معاذ البصري ، حدثنا مرحوم بن عبد العزيز العطار ، حدثني أبى وعمى قالا : سمعنا الحسن يقول : إياكم ومعبد الجهني فإنه ضال مضل.
قال أبو عيسى : ويروى عن الشعبي / حدثنا الحارث الأعور ، وكان كذاباً وقد حدث عنه ، وأكثر الفرائض التي ترونها ، عن علي وغيره – هي عنه ، وقد قال الشعبي : الحارث الأعور علمني الفرائض ، وكان من أفرض الناس .
قال : وسمعت محمد بن بشار يقول : سمعت عبد الرحمن بن مهدى يقول ألا تعجبون من سفيان بن عينية ، لقد ترك لجابر الجعفى بقوله لما حكى عنه – أكثر من ألف حديث ، ثم هو يحدث عنه . قال محمد بن بشار : وترك عبد الرحمن بن مهدى حديث جابر الجعفى.
وقد احتج بعض أهل العلم بالمرسل أيضاً .
حدثنا أبو عبيدة بن أبى السفر الكوفي ، حدثنا سعيد بن عامر ، عن شعبة عن سليمان الأعمش قال : قلت لإبراهيم النخعي : أسند لي عن عبد الله بن مسعود ، فقال إبراهيم : إذا حدثتك عن رجل عن عبد الله ، فهو الذي سميت ، وإذا قلت : قال عبد الله ، فهو عن غير واحد عن عبد الله ” اهـ .
* * * *
والآن وبعد أن انتهينا من سرد أدلة المذاهب في قبول المرسل ورده ، وبعد أن تبين لنا أن المذهب الحق ، والقول الصدق ، الذي يجب أن يصار إليه ، ويعول عليه ، والذى عليه أئمة الحديث ، ونقاد الأثر ، هو القول برد المرسل – يجب علينا أن نبين مذهب سيد المنكرين للمراسيل الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه .