الاعتراضات الواردة على مذهب الشافعي
الاعتراضات الواردة على مذهب الشافعي :
الآن وبعد أن بينا مذهب الشافعي ، وأنه يقبل المرسل إذا اعتضد وكان من مراسيل كبار التابعين ، لابد أن نذكر الاعتراضات التي وردت على هذه الشروط التي قبل بها الشافعي المرسل ونذكر الرد عليها .
وقد علمنا أن العاضد عند الشافعي هو :
1- مسند من وجه آخر .
2- إرسال رجل آخر يخالف الأول من الشيوخ .
3- موافقة قول بعض الصحابة .
4- موافقة قول عامة أهل العلم
هذه هى المرجحات التي ذكرها الإمام في الرسالة .
وقد ذكر الماوردي مرجحات أخرى وهى :
1- القياس .
2- فعل الصحابى .
3- أن ينتشر في الناس من غير دافع له .
4- أن يعمل به أهل العصر
5- أن لا يوجد دليل سواه .
نقل هذا السبكي عن الماوردي في تتمة المجموع ثم قال : وفى بعضها أو أكثرها مشاحة اهـ وسنذكرها ونجيب عنها إن شاء الله .
وهناك اعتراض من قبل القاضي على قول الشافعي رضي الله عنه : ” وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفت أحببنا أن نقبل مرسله ، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت بها ثبوتها بالمتصل ” اهـ .
ولنبدأ بالاعتراضات التي وجهها القاضي على العاضد الذي ذكره الشافعي لقبول المرسل فنقول :
قال القاضي : إذا أسند المرسل من وجه آخر فالعمل حينئذ بالمسند لا بالمرسل ويكون الشافعي قد قبل المسانيد لا المراسيل .
قال الإمام النووي في المجموع (1/102) والجواب : أن بالمسند يتبين صحة المرسل ، وأنه مما يحتج به ، فيكون في المسألة حديثان صحيحان ، حتى لو عارضهما حديث صحيح من طريق واحد ، وتعذر الجمع ، قدمناهما عليه والله أعلم اهـ.
وأجاب الإمام ابن السبكي في رفع الحاجب (1/ق291- ب)بقوله : قبول المرسل إذا اعتضد بمسند لا يعترض بما ذكره القاضي ، فإنه غير وارد ، لأن الاحتجاج إنما يكون بالمسند لو نهض بنفسه حجة ، ولعل الشافعي أراد بالمسند المنضم إلى المرسل مسندا لاينهض بنفسه حجة ، وإذا انضم إلى المرسل قام المرسل حجة ، وهذا ليس عملاً بالمسند بل بالمرسل إذا زالت التهمة عنه ، وهذا لأنه لم يرد المراسل بالتشهي ، بل للتهمة ، فإذا زالت وجب قبوله ، ولا يكون ذلك منه قبولا لشيء من المراسيل، لأن المرسل بقيد انضمامه غير المرسل من حيث هو ، والذى رده المرسل من حيث هو .
وقد اتفق العلماء قاطبة على أن الحجيج لو وقفوا يوم العاشر غلطا أجزأهم .
واستندوا إلى ما روى مرسلا أن النبي r قال : ” عرفة الذي يعرف الناس فيه “.
لأنه روى مسندا ” عرفة يوم يعرف الإمام ” ، وفى سنده محمد بن إسماعيل قاضى فارس، تفرد به عن سفيان . اهـ .
قلت : وهذه هي الصورة التي صور بها الرازي اعتضاد المرسل بمسند من وجه آخر ليكون الاحتجاج بالمجموع .
قال المحلى في شرح جمع الجوامع (2/170): لأنه يحصل من اجتماع الضعيفين قوة مفيدة للظن ، ومن الشائع ضعيفان يغلبان قويا اهـ ([3]) .
قال ابن السبكي : ولئن سلمنا أنه أراد بالمسند المنضم مسندا يحتج به ، فلم قلتم أن الاحتجاج إذ ذاك إنما هو بالمسند ؟ بل الإسناد يعرفنا أن الإرسال وقع عن عدل يحتج به، ويوجب لنا الاحتجاج كالمسند، للناظر الاحتجاج بما شاء منهما .
وهذا قبول للمرسل أيضا بشرائطه ، وليس هو من مذاهب القوم في شئ .
ويحتمل أن يقال : إن الشافعي لم يرد بالمسند أن يقع للحديث إسناد من وجه آخر ، وإنما مراده أن عدلاً يخبرنا باسم الذي أهمل المرسل ذكره ، فيصير كالمسند ، لمعرفتنا بالمتروك اسمه ، ولذلك قال كما نقله القاضي عنه : المرسل إذا أسنده حافظ مأمون ، أى أن الحافظ المأمون سمى لنا الرجل المتروك .
فإذاً الإسناد واحد ، ولنا تسميته مرسلاً باعتبار رواية المرسل ، ومسنداً باعتبار إسناد المسند ، فإذا قبلنا المسند الذي هو مرسل ، هذا غير ما تقدم فافهمه ، وهو مثل مرسل سعيد وأبى سلمة أن النبي r قال : ” الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة ” .
رواه الشافعي عن مالك عن سعيد وأبى سلمة ، واحتج به ، لأنه روى بهذا الإسناد مسنداً.
فروى أبو عاصم الضحاك ، أن مجلد الشيباني ، وابن أبى قتيلة ، وعبد المالك بن الماجشون ، عن مالك ، عن الزهري ، عن سعيد وأبى سلمة ، عن أبى هريرة عن النبي r أنه قاله .
وما هذا شأنه مرسل مسند باعتبارين اهـ.
قال القاضي : أليس قد قبلتم مراسيل ابن المسيب ، فما الفرق بينه وبين غيره ؟
قلنا: قد عرفناك الفرق قبل قليل، وقلنا إن مرسله ومرسل غيره في الاحتجاج سواء.
فإن قيل : أليس قد قال الشافعي : لا يحفظ أن ابن المسيب روى منقطعا إلا وجدنا ما يدل على تسديده فمن كان بمثل حاله قبلنا منقطعة ، فالشافعي يقبل مسند لا مرسله ؟
قلت : قال السبكي في تكملة المجموع (1/144) : وتأويله ممكن على بعد ، وليس كما يتوهمه الضعفاء من أنه تتبعها فوجدها مسندة ، فيكون الاحتجاج بالمسند ، فإن ذلك يوهم أن الإسناد حاصل عنده في هذا المرسل بعينه ، وليس كذلك ، بل لما كان حال صاحبها أنه لايروى إلا مسنداً عن ثقة ، حمل هذا على ما عرف من عادته فيحتج به لذلك اهـ .
قال ابن السبكي في رفع الحاجب : ولذلك ما ظهر فيه أنه على خلاف العادة كمرسله في دية الذمي لا نقبله .
قال القاضي على قول الشافعي : أو اعتضد بمرسل آخر ، قال : إذا اعتضد المرسل الضعيف بمرسل آخر ضعيف ، فقد انضم غير مقبول إلى مثله ، فلا يفيد .
قلت : قد أجاب ابن الحاجب عن هذا الاعتراض بقوله : ولا يرد فإن الظن قد يحصل أو يقوى بالانضمام اهـ .
وقد قدمنا قول المحلى : لأنه يحصل من اجتماع الضعيفين قوة مفيدة للظن ، ومن الشائع ضعيفان يغلبان قوياً اهـ .
واعترض القاضي قول الشافعي : ومنها أن يعضده مذهب العامة ، وهو ما أشار إليه بفتوى أكثر أهل العلم ، قال القاضي : فأقول له : إن عنيت بالعامة الأمة فكأنك شرطت الإجماع في قبول المرسل ، وإذا ثبت الإجماع استغنى عن المرسل ، أن أردت مذهب العوام ، فأنت أجل قدراً من ذلك ، إذ لا عبرة بخلافهم ولا وفاقهم ، وإن أردت معظم العلماء فمصير المعظم مع وجود الخلاف لايصير ما ليس بحجة حجة .
قال ابن السبكي في الإبهاج (2/225) قلت : الشافعي لم يرد الإجماع ، ولا قول العوام ، وإنما أراد أكثر أهل العلم ، ولاشك أن الظن يقوى عنده ، وإذا قوى الظن وجب العمل به اهـ .
وينفس هذا الجواب يجاب على اعتراض القاضي فيها إذا عضد المرسل قول الصحابى ، إذ قال قول الصحابي ليس بحجة فإذا انضم إلى ما ليس بحجة لايصيره حجة .
* * *
ولقد اعترض على الماوردي في العواضد الخمسة التي ذكرها بمثل ما اعترض على الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ، والجواب على تلك الاعتراضات مماثل للأجوبة السابقة . وأهم هذه الاعتراضات الاعتراض عليه بقوله : أو قياس ـ أي معاضدة قياس .
قال السبكي : وأما القياس ، فإن كان صحيحاً ، فهو حجة في نفسه غير مفتقر إلى المرسل ، ولا يصير المرسل به حجة ، كما لو اقترن بالقياس الصحيح قياس فاسد ، وإن كان ذلك القياس لا يجوز التمثيل به لو انفرد فقد انضم ما ليس بحجة .
والجواب على هذا ما أجبنا به على اعتراض القاضي فيها إذا اعتضد المرسل بالمسند .
ثم قال السبكي : وغاية ما يتخيل أن الشافعي لم يلاحظ في ذلك إلا قوة الظن ، فإن المرسل يثير ظناً ضعيفاً ، وليس كالقياس الفاسد وما لا يثير ظناً أصلاً، فإذا اقترن المرسل المفيد للظن بأمر مقو للظن جاز أن ينتهي إلى حد يتمسك به ، ثم ذلك الحد ليس مما يضبط بعبارة شاملة . بل هو موكول إلى نظر المجتهد .
وهاهنا تتفاوت رتب العلماء ، ويفارق المجتهدون من سواهم من الجامدين على أمور كلية يطردونها في كل ورد وصدر .
وإنما جمد على ذلك أكثر المتأخرين لبعدهم عن التكيف بفهم نفس الشريعة ، والتمييز بين مراتب الظنون ، وما يقتضى نفس الشارع في اعتباره و إلغائه ، وهذه رتبة عزيزة سبق إليها المتقدمون .
ولو حاول محاول ضبط ما يحصل من اجتماع تلك الأمور بالموازنة بينه وبين الظن المستفاد من قياس صحيح من أول درجات القياس أوخبر واحد فما ساواه لذلك اعتبر ، وما نقص عنه ألغى ـ لم يكن مبعداً ، لكنه ليس كمال المعنى المشار إليه ، بلهو غاية ما تحيط به العبارة لمن يبغى ضبط ذلك بقواعد كلية ، ويؤتى الله وراء ذلك لبعض عبارة ما يقصر عنه الوهم ومن جد وجد ، ومن ذاق اعتقد ، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .
قال ابنه معقباً عليه : وقد تضمن كلامه ما أشرنا إليه من تأييد العمل بالمرسل في هذا الموضع ، لانضمام ظن إلى ظن حصل بهما ظن متهيئا مثله في العمل بأوائل الأقيسة الصحيحة وخبر الواحد ، وإياه أراد الشافعي إن شاء الله .
وكذلك اعترض السبكي قول الماوردي : أولا يوجد دليل سواه .
قال السبكي : إن المرسل إذا لم يكن في نفسه دليلاً ، ولم يوجد دليل سواه ـ كانت المسألة لا دليل فيها أصلاً . ولا يجوز إثبات حكم بشيء لا يعتقده دليلاً ، لأنا لم نجد غيره .
وإن قيل : إنه هذه الحالة دليل ، وفى غيرها ليس بدليل ، فنقول : إنه في غير هذه الحالة إذا كان هناك دليل غيره ، فإما أن يكون موافقاً أو مخالفاً ، إن كان موافقاً فالحكم ثابت بلا إشكال ،ولا غرض في إسناده إلى المرسل مع ذلك الدليل وحده ، أو إليه مع المرسل .
وإن كان مخالفا ، فإما أن يكون راجحا عليه ، أو مرجوحاً .
فإن كان راجحاً قدم المرسل مع القول بأنه حجة ، وإن كان مرجوحاً لم يقدم عليه ، وحينئذ ينبغى لمن يعمل به عند عدم الدليل مطلقاً أن يعمل به لرجحانه ، وهو يصير إلى أن المرسل حجة ، والتفريع على خلافه .
ولا ينفع التعليل بأنه حجة ضعيفة في أن يدفع بأدنى معارض ، وإن كان مرجوحاً لأن ذلك بحيث جدلي لا طائل تحته اهـ .
قال ابن السبكي : قلت : قد يقال إذا لم يوجد دليل سواه فيكون فائدته أن لا يرد ، ولا يكون الحال كمالا دليل فيها أصلاً .
ويظهر فائدة ذلك فيما إذا روى شيئا على خلاف البراءة الأصلية ، فقد يقال : يجيب الانكفاف إلى استتام البحث ، ولا يحدث إثبات حكم ، ولكن الوقف هناك من باب الاحتياط .
وهذا كما قال إمام الحرمين في المجهول إذا روى خبراً – إنه يجب الإنكفاف ، ويبحث عن حاله.
وبهذا يندفع قول الشيخ الإمام – أي والده – : لا يجوز إثبات حكم بما لا يعتقده دليلا . فنقول : لا يثبت حكماً ، وإنما نكف عما كنا عاملين به إلى استتام البحث .
فإن أراد الماوردي وإمام الحرمين بالعمل بالمرسل إذا لم يوجد دليل غير هذا ، فلا بأس به ، وإلا فالحق ما قاله الشيخ الإمام اهـ .
ثم عقب ابن السبكي على قول أبيه فقال : وقوله في غير هذه الحالة أن الحكم ثابت ، ولا غرض في إسناده – صحيح ، ولكن اجتماع دليلين حسن .
وقوله في المخالف المرجوح ينبغى العمل بالمرسل حينئذ والتفريع على خلافه – قد يقال عليه : ليس التفريع على خلافه ، لأن الماوردي يدعى أن الشافعي يستثنى هذه المواضع من رد المراسيل . وأما كونه حجة ضعيفة على القول به ، فلابد من ذلك فإن الحجج متفاوتة .
فهذه جملة الاعتراضات والأجوبة عليها بالنسبة لما ذكره الشافعي للعاضد الذي يقبل به المراسل .
* * *
وهناك استشكال ذكره القاضي على قول الشافعي، في المواضع التي يقبل فيها المرسل حيث قال : أستحب قبولها ، ولا أستطيع أن أقول إن الحجة تثبت بها ثبوتها بالمتصل ,
قال القاضي : فقد نص بذلك على أن القبول عند تلك الشروط مستحب لا واجب .
قال السبكي في تقرير الاعتراض : لأنه لا تخيير في إثبات الأحكام ، بل إما أن يظهر موجبها فتجب ، أولا فتحرم ، فإن كان المرسل إذا اقترن بشيء من ذلك حجة ، وجب العمل به ، وإن لم يكن حجة حرم العمل به اهـ .
وأجاب عليه ابن السبكي بقوله : قلت : وهذا كلام ضعيف ، فلم يرد الشافعي بالاستحباب قسيم الوجوب .
ولا في الأدلة ما يكون الأخذ به مستحباً ، لأنه لا تخيير في إثبات الأحكام ، بل إما أن يظهر موجبها فيجب أو لا فيحرم .
فإن كان المرسل عن الاقتران بشئ من ذلك حجة ، وجب الأخذ به وإلا حرم ولا تعلق للاستحباب بما نحن فيه .
وإنما كان المرسل عند الاقتران بشئ من ذلك حجة ، وجب الأخذ به . وإلا حرم ولا تعلق للاستحباب بما نحن فيه .
وإنما مراده أن الحجة فيها ضعيفة . ليست كحجة المتصل . وإذا انتهضت الحجة وجب الأخذ لا محالة . لكن الحجج متفاوتة ، وينفعك ذلك عند التعارض ، فإذا عارضه متصل ؛ كان المتصل مقدماً عليه ” اهـ .
وقال الإمام السبكي في الجواب : ويحتمل أن يكون مراد الشافعي أنه لا يجب العمل به بمجرد اقترانه بمرسل آخر ، وقول صحابي ، أو فتياً الأكثر ، ولا يرد معها ، ويطلب دليل آخر مجرد ، كما لو لم يرد أصلاً ، بل يجب النظر في ذلك ، وفيما يعارضه أو يوافقه من بقية الأدلة، كالقياس ، وشبهه والعمل بما يترجح من الظن والله أعلم .