المذاهب في حجية المرسل
المذاهب في حُجيَّةِ المُرسَل
والآن وبعد أن عرفت مجمل العبارات في تعريف المرسل اصطلاحاً – فلا عليك إلا أن تعرف آراء الأئمة في قبوله ورده ، فأقول :
1- ذهب الأئمة الثلاثة مالك ، وأبو حنيفه ، وأحمد في أشهر الروايتين عنهم ، وجماهير المعتزلة كأبى هاشم ، وتبعهم الإمام الأمدى في الأحكام ومنتهى السول إلى قبول مرسل العدل مطلقاً ، سواء أكان من أئمة النقل أم لا ، وسواء أكان في القرون الثلاثة الأولى أم بعدها ، وغالى بعض القائلين به حتى قدمه على المسند كصاحب التنقيح وغيره ، تبعاً لابن أبان.
2- ذهب الإمام الشافعي – رضي الله عنه – وأحمد في أحد قوليه ، والظاهرية ، وجمهور الأئمة من حفاظ الحديث ونقاد الأثر – كما قاله الخطيب بل كلهم – كما قال ابن عبد البر في التمهيد – والقاضي أبو بكر ، وأبو زرعة الرازى ، وأبو حاتم ، وابنه عبد الرحمن ، ويحيى بن سعيد القطان – علماً بأن وفاته قبل وفاة الشافعي – واختاره الإمام الرازى وأتباعه ، ذهبوا إلى أنه غير مقبول مطلقاً .
إلا أن الإمام الشافعي – رضي الله عنه – قبله – وستعرف مدى قبوله له عند تحرير مذهبه – بشروط سنذكرها.
فمذهبه – رضي الله عنه – رده من حيث هو مطلقاً .
3- ذهب عيسى بن أبان إلى أن مرسل العدل في القرون الثلاثة الأولى حجة مطلقاً ، وأما من بعدهم فلا يقبل إلا إذا كان من أئمة النقل.
والمقصود بأئمة النقل من كانت له أهليه الجرح والتعديل.
4- ذهب أبو بكر الرازى ، واختاره ، واختاره السرخسى في أصوله – إلى أن مرسل من كان من القرون الثلاثة حجة ما لم يعرف منه الرواية مطلقاً عمن ليس بعدلٍ ثقةٍ ، ومرسل من كان بعدهم ، لا يكون حجة ، إلا من اشتهر بأنه لا يروى إلا عمن هو عدل ثقة .
5- ذهب الإمام ابن الحاجب في المختصر والمنتهى ، وتبعه ابن الهمام في التحرير – إلى أن مرسل العدل يقبل مطلقاً إن كان من أئمة النقل ، سواء أكان من أهل القرون الثلاثة الأولى ، أم لا ، وأما إذا لم يكن من أهل النقل فلا يقبل مرسله سواء أهل القرون الثلاثة الأولى ومن بعدهم.
وقبل الخوض في الاستدلال لهذه المذاهب ورد الضعيف منها لابد من التنبيه لأمور مهمه يجدر بالباحث الاضطلاع عليها.
الأول :
قال الإمام ابن السبكي في الإبهاج (2/223) ورفع الحاجب عن ابن الحاجب ([1]) (1/ق 287 – أ) :
” إن مذهب ابن الحاجب هو عين مذهب ابن أبان ، خلافاً لما توهمه بعض الشارحين ، وإلا فيلزم أن يكون اختار مذهباً لم يسبق إليه”.
ثم علل ذلك بقوله : ” وكأن عيسى بن أبان اعتقد أن التابعين وتابعيهم كلهم من أئمة النقل، وإلا فيلزم أن يقبل التابعين وتابعييهم مطلقاً ، ورد من عداهم إن لم يكن من أئمة النقل ، وليس الأمر كذلك كما اعتقد” أ هـ.
قلت : بل الأمر كذلك .
ومذهب ابن الحاجب غير مذهب ابن أبان ، من حيث شرط كون الراوى من أئمة النقل في القرون الثلاثة ، فابن الحاجب يشترط ذلك ، وابن أبان لا يشترطه فيهم بل يقبله من عدلهم مطلقاً، وإليك الدليل على ذلك .
قال السرخسى في أصوله (1/360) : ” فأما مراسيل القرن الثانى والثالث حجة في قول علمائنا رحمهم الله ” اهـ.
فلم يذكر في ذلك مخالفاً ، ولم يشترط فيهم أن يكونوا من أئمة النقل ولم يعتقد فيهم كلهم أنهم كذلك .
ثم قال في (1/363) : ” فأما مراسيل من بعد القرون الثلاثة فقد كان أبو الحسن الكرخى – رحمه الله لا يفرق بين مراسيل أهل الإعصار ، وكان يقول : من تقبل روايته مسنداً تقبل روايته مرسلاً ، للمعنى الذي ذكرنا.
وكان عيسى بن أبان – رحمه الله – يقول : من اشتهر في الناس بحمل العلم منه . تقبل روايته مرسلاً ومسنداً ، ومن لم يشتهر بحمل الناس العلم منه مطلقاً وإنما اشتهر بالرواية عنه فإن مسنده حجة ، ومرسله يكون موقوفاً إلى أن يعرض على من اشتهر بحمل العلم منه ” اهـ.
وهذا أكبر دليل على تفرقة ابن أبان بين أهل القرون الثلاثة الأولى ومن بعدهم ، والسرخسى أدرى بقول ابن أبان .
وهذا خلاف مذهب ابن الحاجب الذي لا يفرق بينهم في اشتراط كونهم من أئمة النقل .
وثانياً قال ابن الهمام في التحرير (3/102 تيسير التحرير) : “وابن أبان يقبل في القرون الثلاثة، وفيما بعدها ؛ إذا كان المرسل من أئمة النقل ، وروى الحفاظ مرسله كما رووا مسنده ، والحق اشتراط كونه من أئمة النقل مطلقاً” اهـ.
قال شارحه : أى في القرون الثلاثة وما بعدها.
فابن الهمام اختار مذهب ابن الحاجب ، وهو كونه من أئمة النقل مطلقاً في القرون الثلاثة وما بعدها ، بعد أن ذكر مذهب ابن ابان ، ولو كان هو عين مذهب ابن أبان لما ميز بينهما.
وكذلك فعل صاحب المنار ، والتوضيح وإن لم يشرح بابن أبان ، والأسنوى وفى نهاية السول ، وغيرهم ممن سرد المذاهب في المرسل ولا داعى للإطالة بذكرهم .
وثالثاً: ما الذي يمنع أن يختار ابن الحاجب مذهباً لم يسبق إليه ، وقد فعل مثل ذلك في غير هذا المكان ، ويفعله كل إمام في كل زمان .
فالحق – والله أعلم – أن مذهب ابن الحاجب مذهباً لم يسبق إليه ، وهو خلاف مذهب ابن أبان ، خلافاً لما ذهب إليه ابن السبكي رضي الله عنه وأرضاه .
الثانى :
ذكر الأمدى في كتابيه الإحكام (2/112) ، ومنتهى السول (1/90) أن القاضي أبا بكر وافق الشافعي رضي الله عنه قبول المرسل بالشروط التي اشترطها الشافعي لقبوله .
فقال بعد أن ذكر شروط الشافعي لقبول المرسل : “ووافقه على ذلك أصحابه ، والقاضي أبو بكر” اهـ .
وهذا أيضاً غير صواب :
فإن القاضي ممن يردون المرسل مطلقاً ، ولايقبلونه بحال ، ولقد اعترض على الشافعي في شروطه الأربعة التي ذكرها في الرسالة لقبول المرسل ، وسنذكرها عند تحرير مذهب الشافعي إن شاء الله ونذكر الرد عليها .
ولقد قال ابن السبكي في الإبهاج (2/223) : ” والشافعي رضي الله عنه صدر القائلين برد المراسيل إلا أنه نقل عنه أنه قبل بعضها في أماكن ، قال القاضي رحمه الله : ونحن لا نقبل المراسيل مطلقاً ولا في الأماكن التي قبلها فيها الشافعي ، حسماً للباب” اهـ.
فإن كان مراد الأمدي أن القاضي وافق الشافعي على أصل الرد للمرسل من حيث هو ؛ فهذا صحيح .
وإن كان مراده أن القاضي وافقه على القبول بالشروط التي ذكرها ، فهذا غير صحيح ، لأن القاضي سيعترض عليه في هذه الشروط ويختار الرد مطلقاً .
الثالث :
قال الشوكانى في إرشاد الفحول (ص 64) بعد أن ذكر اصطلاح المحدثين ، واصطلاح الأصوليين : “وإطلاق المرسل على هذا وإن كان اصطلاحاً ولا مشاحة فيه ، ولكن محل الخلاف هو المرسل باصطلاح أهل الحديث ” اهـ .
فزعم أن الخلاف فقط في السند الذي سقط منه الصحابى ، وهو الحديث الذي يرويه التابعى عن النبي r .
وهذا غير صحيح أيضاً :
فليس الخلاف محصوراً في المرسل باصطلاح المحدثين فقط ، بل في المرسل باصطلاحهم واصطلاح الفقهاء والأصوليين . فيدخل فيه المنقطع والمعضل . كما أشرنا إلى ذلك آنفاً .
قال السرخسى في أصوله (1/363) : ” فأما مراسيل القرن الثانى والثالث حجة في قول علمائنا رحمهم الله”.
وقال في (1/363) : “فأما مراسيل من بعد القرون الثلاثة فقد كان أبو الحسن الكرخى رحمه الله لا يفرق بين مراسيل أهل الإعصار ، وكان يقول : من تقبل روايته مسنداً تقبل روايته مرسلاً ، للمعنى الذي ذكرتا ، وكان عيسى بن أبان يقول : من اشتهر في الناس بحمل العلم منه تقبل روايته مرسلاً ومسنداً وإنما يعنى به محمد بن الحسن رحمه الله وأمثاله من المشهورين بالعلم ” ا هـ. ، وقال ابن نجيم في فتح الغفار شرح المنار (2/96): “فيقبل مثل إرسال محمد بن الحسن وأمثاله” اهـ.
وقال الآمدى في الإحكام (2/118) : “فإنه مهما كان المرسل للخبر في زماننا عدلاً ولم يكذبه الحفاظ ، فهو حجة”.
فهذا وأمثاله في كافة كتب الأصول صريح فيما قلناه ، ومحمد بن الحسن ليس من التابعين ومع ذلك فقد صرحوا بقبول مرسله ، فكيف ينحصر الخلاف في اصطلاح المحدثين ، وهو مرسل التابعى فقط … ؟!
فالحق أن الخلاف فيه وفى غيره سواء والله أعلم ، وسترى من خلال الأدلة مزيد وضوح لكون الخلاف غير محصور في التابعى .
ولعل الشوكانى اغتر فيما ذهب إليه بقبول البقاعى الذي حكاه الأجهوري حيث قال : ” احتجاج مالك وغيره بالمرسل إنما هو على القول الأول فيه ، وهو مرفوع التابعى ” ا هـ .
الرابع :
نقل الغزالي في المنخول (ص 274) عن القاضي أنه قال : ” والمختار عندى : أن الإمام العدل إذ قال : قال رسول الله r أو أخبرنى الثقة ، قبل.
فأما الفقهاء والمتوسعون في كلامهم قد يقولون ذلك لا عن تثبت ؛ فلا يقبل.
ومنهم من قال هذا هو منقول عن الحسن البصري والشافعي رضي الله عنهما .
ولا يقبل في زماننا هذا وقد كثر الرواة ، وطال البحث ، وتشعبت الطرق فلابد من ذكر اسم الرجل ” اهـ.
ثم قال الغزالي : ” والأمر على ما ذكره القاضي إلا في هذا الأخير ، فإنا لو صادفنا في زماننا متثبتاً في نقل الأحاديث مثل مالك – رضي الله عنه – قبلنا قوله : قال رسول الله r ولا يختلف ذلك باختلاف الإعصار ” اهـ.
وفى هذا الذي نقلناه عن الغزالي شيئان :
الأول :
أنه نسب إلى القاضي القول بقبول المرسل إذا كان المرسل عدلا ، أو أخبر أم المروي عنه ثقة. وهذا غير معروف عن القاضي أبداً .
بل المعروف عنه أن يرد المراسيل مطلقاً حتى مراسيل الصحابة . إذا احتمل سماعهم من التابعى .
والغزالي نفسه ذكر ذلك في المستصفى (1/107) فقال : المرسل مقبول عند مالك وأبى حنيفة والجماهير ، ومردود عند الشافعي والقاضي – وهو المختار – إلخ … ” اهـ.
وكذلك ذكر الأمدى على ما بينا ، وذكر ابن السبكي عنه في الإبهاج (2/223) أنه قال : ونحن لا نقبل المراسيل مطلقاً ولا في الأماكن التي قبلها فيها الشافعي حسماً للباب اهـ.
وحسبنا دليلاً على بطلان هذا النقل أن الغزالي نفسه ذكر نقيضه في المستصفى ولا حاجة إلى دليل بعد ذلك .
ولو كان هذا المنقول عن القاضي حقاً ؛ لكان مذهباً جديداً في المسألة لم يقل به أحد ، ولنقل عنه ، إلا أن أحداً من الأصوليين لم ينقله عنه ، بل أجمعوا على نقل خلافه عن القاضي.
وقول الغزالي : ومنهم من قال : هذا هو منقول عن الحسن البصري ، هو الصواب والله أعلم أن ترددنا بين الإمامين البصري والقاضي في نسبة هذا القول إلى واحد منهما ، وإلا فلا نعلم مذهباً للحسن بخصوصه.
وأما نسبة هذا القول للشافعي فهى نسبة غير صحيحة وسنبين هذا عند تحرير مذهب الشافعي فليرجع إليه.
والشئ الثانى :
أن الغزالي هنا يتبنى هذا القول الذي نسبه القاضي وهو أنه يقبل مرسل العدل ويزيد عليه أن يطرد ذلك في كل العصور.
وهذا عجيب من الغزالي ، وهو شافعي ، ومدون لآراء إمام الحرمين .
وقد أعرض عنه في المستصفى وذكر أن المرسل لا تقوم به حجة ، وإن كان ظاهر كلامه يشير إلى قوة مذهب الخصم حيث قال : “المرسل مقبول عند مالك وأبى حنيفة والجماهير”أهـ. مع أن الجماهير على خلاف هذا ؛ إلا إن كان مراده بالجماهير جماهير الفقهاء فقط.
ثم قال : ” ومردود عند الشافعي والقاضي – وهو المختار – وصورته أن يقول التابعى … إلخ ” أهـ.
وعلى كل فالرأي الذي استقر عليه الغزالي هو أن المرسل ليس بحجة ولا يعنينا بعد ذلك كونه قبله في بداية حياته العلمية .