رأى إمام الحرمين في المرسل
رأى إمام الحرمين في المرسل
بالنسبة للشافعي
نقل ابن السبكي في رفع الحاجب عن إمام الحرمين أنه قال : ” الذي لاح لى أن الشافعي لا يرد المراسيل ولكن يبقى فيها مزيد تأكيد يغلب الظن ، قال : وقد عثرت من كلامه على أنه إذا لم يجد إلا المرسل مع الاقتران بالتعديل على الإجمال عمل به ، قال : فكان إضرابه عن المراسيل في حكم تقديم المسانيد عليها ” اهـ .
قال ابن السبكي : قلت : وهذا لا نعرفه عن الشافعي ، والثابت عنه رد المراسيل رأساً ، وإنما هو شئ ضعيف ذكره الماوردي ” اهـ .
ثم قال ابن السبكي : ولقد تباهى ابن السمعانى في التغليط على إمام الحرمين وقال : أجمع كل من نقل عن الشافعي من العراقيين والخراسانيين أن أصله رد المراسيل ، وأنها لا تقبل بنفسها بحال اهـ .
شبهة لابن المنذر
زعم ابن المنذر أن الشافعي يأخذ بمرسل لا يثبت فقال : ” وأخذ الشافعي رحمه الله بمرسل لا يثبت ” اهـ من تكملة المجموع.
ودليله حديث النهى عن بيع الحيوان باللحم ، حيث روى عن سعيد ين المسيب مرسلاً ، فقبله الشافعي وعمل به ولم يثبت .
وكذلك قال ابن عبد البر : لا أعلم حديث النهى عن بيع الحيوان باللحم يتصل عن النبي r من وجه ثابت وأحسن أسانيده مرسل ابن المسيب .
قال الإمام السبكي في الجواب : وكأنهما لم يطلعا على حديث سمرة اهـ.
وحديث سمرة هو ما رواه الحاكم ، عن الحسن ، عن سمرة ، أن النبي r نهى أن تباع الشاة باللحم .
قال الحاكم : رواته عن آخرهم أئمة حفاظ ثقات .
فراوية الحسن هذه هى العضد للمرسل الذي قبله الشافعي وعمل به وبهذا يتبين وهم ابن المنذر في أن الشافعي يأخذ بمرسل لا يثبت ، والصواب أن الشافعي رضي الله عنه لا يأخذ بمرسل لا يثبت أبداً .
وكل ما في الحديث أنه وقع خلاف في سماع الحسن من سمرة .
قال البيهقى بعد أن روى الحديث : هذا إسناد صحيح ، ومن أثبت سماع الحسن عن سمرة عده موصولاً ، ومن لم يثبته فهو مرسل جيد انضم إلى مرسل سعيد .
وأما رواية الحسن عن سمرة فقد قال الترمذي في باب ” ما جاء في كراهية بيع الحيوان بالحيوان نسيئة ” : وسماع الحسن من سمرة صحيح ، وهكذا قال على ابن المديني وغيره .
وقال في باب ” ما جاء في احتلاب المواشي بغير إذن أصحابها ” : وقال على بن المديني : سماع الحسن من سمرة صحيح ، وقد تكلم بعض أهل الحديث في رواية الحسن عن سمرة وقالوا : إنما يحدث عن صحيفة سمرة .
وقال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب : وأما رواية الحسن عن سمرة بن جندب ففى صحيح البخاري سماعاً منه لحديث العقيقة ، وقد روى عن نسخة كبيرة غالبها في السنن الأربعة ، وعند على بن المدينى أن كلها سماع وكذا حكى الترمذى عن البخارى ، وقال يحيى القطان وآخرون : هى كتاب ، وذلك لا يقتضى الانقطاع .
وفى مسند أحمد ، حدثنا هشيم ، عن حميد الطويل ، قال : جاء رجل إلى الحسن فقال : إن عبداً له أبق ، وأنه نذر إن يقدر عليه أن يقطع يده ن فقال الحسن : حدثنا سمرة ، قال : قلما خطبنا رسول الله r خطبته إلا أمرنا فيها بالصدقة ونهى عن المثلة .
وهذا يقتضى سماعه منه لغير حديث العقيقة .
وقال أبو داود عقب حديث سليمان بن سمرة عن أبيه في الصلاة : دلت هذه الصحيفة على ان الحسن سمع من سمرة .
قال الحافظ ابن حجر : ” ولم يظهر لى وجه الدلالة بعد ” اهـ كلام ابن حجر .
قال الحاكم احتج البخارى بالحسن عن سمرة ، وله شاهد مرسل في الموطأ اهـ.
وخير الكلام ما قاله البيهقى : من أثبت سماع الحسن من سمرة فهو متصل ومن لا فهو مرسل جيد انصم لمرسل سعيد .
وبهذا يتضح أن مرسل سعيد ثابت من غير وجه ، لا كما قال ابن المنذر وابن عبد البر.
فائدة :
ربما رأى بعض الاس في كتب الشافعي الاحتجاج بحديث مرسل . فيحسب أن هذا الحديث مدخول على الشافعي لأنه لا يحتج بالمرسل ، أو يظن أن الشافعي يناقض نفسه فيقبل المرسل .
وهذا غير صحيح .
فإن الشافعي رضي الله عنه قد يذكر الحديث في كتبه ولا يذكر إسناده ، لا لأنه حديث مرسل ، بل لأنه لا يريد الإطالة بذكر الإسناد ، وإلا فهو لا يقبل المرسل بحال كما مر معنا ذكره.
وقد نبه الشافعي رضي الله عنه إلى هذه الدقيقة في رسالته حيث قال فقرة 1110 بعد أن ذكر حديث الرجل الذي قبل امرأته وهو صائم قال : ” وقد سمعت من يصل هذا الحديث ، ولا يحضرنى ذكر من وصله ” اهـ .
وقال في فقرة 1184 : ” وكل حديث كتبته منقطعاً . فقد سمعته متصلاً ، أو مشهوراً عن من روى عنه بنقل عامة من أهل العلم يعرفونه عن عامة ، ولكنى كرهت وضع حديث لا أتقنه حفظاً ، وغاب عنى بعض كتبى ، وتحققت بما يعرفه أهل العلم مما حفظت ، فاختصرت خوف طول الكتاب ، فأتيت ببعض ما فيه الكفاية ، دون تقصى العلم في كل أموره ” اهـ.
فكل حديث شاهدناه في كتب الشافعي مرسلاً ؛ فهو متصل كما ذكرنا من قول الشافعي ، ولذلك يحتج به الشافعي ؛ فلا هو مدخول ، ولا هو تناقض . والله أعلم .
فكل حديث شاهدناه في كتب الشافعي مرسلاً ؛ فهو متصل كما ذكرنا من قول الشافعي ، ولذلك يحتج به الشافعي ؛ فلا هو مدخول ، ولا هو تناقض ، والله أعلم .
وبهذا يرد على ما نقله الغزالي في المنخول عن القاضي حيث قال : تبينت أن مذهب الشافعي رضي الله عنه قبول المراسيل ، فإنه قال في المختصر : أخبرني الثقة ، وهو بعينه ، وقد أورده لينقل عنه ويعتمد عليه ، ويعتقد معتمد مذهبه (المنخول ص 276 بتحقيقنا).
هل يقبل الحديث إذا أرسله الراوى مرة وأسنده أخرى ؟ :
أولاً وقبل الكلام على هذا السؤال يجب أن نعلم أن الحديث إذا أرسله راوٍ وأسنده آخر قبل المسند بالاتفاق .
قال ابن السبكي : ” وهذا مما تكاد الفطر الزكية أن تدعي فيه القطع ” .
قال : لكن القاضي في مختصر التقريب نقل عن بعض الغلاة في رد المراسيل أنه قال : لا يجب العمل به ، وهذا مما ذكره القاضي ، ساقط من القول ” اهـ .
أما السؤال الذي نحن فيه فجوابه : أن الإمام الرازى وأتباعه قد جزموا بأن هذا الحديث مقبول لوجود شرطه ، وعليه قال الإمام الشافعي : لا أقبل شيئاً من حديثه إلا إذا قال فيه حدثنى ، أو سمعت ، دون غيرهما من الألفاظ الموهمة .
وقال بعض المحدثين لا يقبل إلا إذا قال سمعت خاصة.
والسبب في عدم قبولهم له : أن المحدث إذا أهمل اسم الرواة دل على علمه بضعفهم ، إذا لو علم عدالتهم لصرح بهم ، ولا شك أن تركه للرواي مع علمه بضعفه خيانة وغش ، فإنه إيقاع في العمل بما ليس بصحيح وإذا كان خائناً لم تقبل روايته مطلقاً .
والجواب على ذلك أن ترك الراوي قد يكون لنسيان اسمه أو لإيثار الاختصار.
والمذهب الراجح هو مذهب الرازي الذي يجزم بالقبول . و أنه لا يقبل – على القول بالقبول – إلا بالشرط الذي ذكره الشافعي رضي الله عنه. والله أعلم .