عاضِدٌ تَفَرَّدَ بِهِ ابنُ السُّبكيُّ
عاضِدٌ تَفَرَّدَ بِهِ ابنُ السُّبكيُّ
ذكر ابن السبكي في جمع الجوامع ، ورفع الحاجب ، وتبعه شيخ الإسلام الأنصاري في غاية الوصول ، وابن الهمام في التحرير أن التابعي الكبير إذا عرف أنه لا يروى إلا عن عدل كابن المسيب ، وأبى سلمة بن عبد الرحمن – قبل مرسلة .
قال في جمع الجوامع : ” وهو مسند ” قال المحلى ” أي حكماً لأن إسقاط العدل كذكره ” .
وقال في رفع الحاجب : ” وأما إذا عرف أنه لا يروى إلا عن عدل فلا يتجه إلا قبوله ، وقد نص عليه في الرسالة ، ومرسلاته حينئذ مسانيد ، فلا وجه لردها .
وهو كمن قال : إذا قلت لكم :قام زيد ، فاعلموا أن عمراً أخبرنى ، ثم قال : قام زيد ، فهو ثابت مسند عن عمرو معنى بما مهده أولاً .
ولكن نقول : ينبغى أن يكون هذا فيمن عرف منه أن الذي يطوى ذكره ممن لا ريب في عدالته كالصحابي ، أو أنه رجل معروف في نفسه حيث طوي ذكره .
فلا يقال علينا : جاز أن يكون عدلاً عنده غير عدل عندنا .
ومن هذا القبيل سعيد بن المسيب على ما ذكره طائفة من أئمتنا ، ذكروا أنه لا يرسل إلا عن أبى هريرة ، وأبو هريرة صحابي ، عدل ، رضي ، فتكون مرسلات سعيد مسانيد .
وهذا في الغالب من حاله .
فإن الخطيب الحافظ أبا بكر وغيره من النقاد ذكروا له مراسيل لم توجد مسندة بحال من وجه يصح ، ونحن قدمنا مرسله في دية الذمي ، ورددناه بمثل هذا ” اهـ .
قلت : إن كان مراد ابن السبكي أن هذا المرسل يقبل إذا عرف من شرط الراوي أنه لا يروى إلا عن العدل الفلاني المعروف ، كأبي هريرة مثلاً ، فهو مقبول ، وفى هذه الحالة يكون ذكر الراوي وعدمه سواء ، ولا يفيدنا ذكره أية فائدة ، وليس له مثال واقعي .
وأما إذا كان مراده أن هذا المرسل يقبل إذا عرف ذلك لا من شرط الراوي بل من عادته، وهى أنه لا يروى إلا عن عدل دون تعيين ذلك العدل – فلا يتجه قبوله ، لأنه ربما كان الساقط عدلاً في نظره غير عدل في نظرنا ، فليذكر المروى عنه حتى نبحث في حاله ، وإلا ورد علينا ما أوردناه على الخصوم حيت قبلوا المرسل إذا كان المرسل من أئمة النقل .
وأول دليل على ذلك سعيد بن المسيب ، فمع جلالة قدره ، وعلو منزلته ، وصحة مراسيله ، وجدت له مراسيل لم تتصل بحال ، كمرسله في دية الذمي – كما قاله ابن السبكي نفسه – وقد ورد هذا المرسل لأنه لم يتصل بحال ، بل عارضه ابن المسيب نفسه في مرسل آخر له .
وما ذكره ابن السبكي عن بعض الأئمة أنهم عدوا ابن المسيب ممن لا يروى إلا عن عدل فلا يتجه إلا قبوله ؛ قد اختاره رأياً له في جمع الجوامع حيث قال : ” فإن كان لا يروى إلا عن عدل كابن المسيب قبل ، وهو مسند ” اهـ .
وهذا يرجع الاحتمال الثاني الذي فرضناه في معنى كلامه .
وهذا غير صحيح لما علمناه من أن الأئمة كالبيهقي والخطيب والنووي وغيرهم قد قالوا: إن مرسل ابن المسيب وغيره سواء لا يحتج به على انفراده وإنه قد وجدت لابن المسيب مراسيل لم تتصل بحال .
وثانياً : إن ابن المسيب لم يشترط على نفسه أنه لا يروى إلا عن العدل الفلاني حتى يكون مرسله بمثابة ما قاله ابن السبكي : إذا قلت لكم قام زيد فاعلموا أن عمراً أخبرني ، ثم قال : قام زيد ، وإلا فلتقبل جميع مراسيله ، وابن السبكي متفق معنا أن مراسيله جميعها لا تقبل بل يرد بعضها لعدم الاتصال.
وأما قول ابن السبكي : أن الشافعي نص على ذلك في الرسالة فهو غير صحيح . والشافعي لم ينص عليه ، ولماذا لم ينقل لنا ابن السبكي نص الرسالة ؟ والذي ذكره الشافعي في الرسالة ليس عاضداً للتابعي يقبل به مرسله ، بل هو شرط من شروط ثلاثة إذا توفرت في التابعي مع العاضد قبل مرسله :
1- أن يكون من الكبار .
2- أن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولا ولا مرغوباً عن الرواية عنه فيستدل بذلك على صحة مرسله .
3- أن يكون إذا شرك أحداً من الحفاظ في حديث لم يخالفه .
هذه هي الشروط الثلاثة التي شرطها الشافعي في الرسالة في التابعي حتى يقبل مرسله إذا اعتضد مع هذه الشروط بعاضد من العواضد الأربعة التي ذكرها .
وهكذا فهم علماء الحديث عن الشافعي رضي الله عنه . وإلا فالعواضد التي ذكرها الشافعي خمسة لا أربعة . وهذا غير صحيح . ونسبة هذا العاضد للشافعي ليست صحيحة بإجماع من فهم عن الشافعي كلامه ونقله ، وإنما هو عاضد تفرد به ابن السبكي رحمة الله .
وقد نص والده في تكملة المجموع على أن مرسل سعيد ليس بحجة وأنه يعتبر به فقط .
وأظن أن السبب الذي حمل ابن السبكي على هذا إنما هو الاضطراب الكبير الذي وقع في فهم كلام الشافعي في حجية مرسل سعيد والله أعلم ، وقد رأيت كيف أن ابن السبكي نفسه في رفع الحاجب يتهرب من كون ابن المسيب على هذه الصفة التي ذكرها ، ونسبه إلى بعض الأئمة من مذهبنا . وقال إن له مراسيل لم تتصل بحال .
والاحتمالين اللذين فرضتهما في كلامه إنما هما بالنسبة لكلامه في رفع الحاجب ، وإلا فكلامه في جمع الجوامع صريح في قبوله – خلافاً لجمهور الشافعية – ونسبة هذا العاضد للشافعي في رفع الحاجب ترجح أنه يختار فيه ما اختاره في جمع الجوامع والله أعلم .
وفى النهاية أن هذا العاضد الذي ذكره ابن السبكي لا يصح على الاحتمال الثاني الذي ذكرناه ، لأنه يرد عليه ما أورد على القابلين للمرسل ، وأن نسبة هذا العاضد للشافعي ليست صحيحة ، وأن مرسل ابن المسيب وغيره لا يحتج به على انفراده كما قاله أئمتنا والله أعلم .