الأدلة على وجود الله / عالم الحيوان
عالم الحيوان
4 – عالم الحيوان
لقد قلبنا نظرنا في الفقرات الماضية بين السماء والأرض ، ورأينا من عجيب صنع الله في قضاء الكون ، من خلال السيارات التي تسبح فيه ، وفي الأرض من خلال تكوينها والتوازن المدهش في نظامها وفي نباتاتها ، لقد رأينا في ذلك كله مالا يدلنا على وجود الله فقط ، بل يفرض علينا الإيمان به ، لاستحالة وجود ذلك عن طريق الصدفة العمياء .
وفي هذه الحلقة سننظر في عالم الحيوان ، من خلال حياته وغرائزه وإلهاماته ، لنرى بديع صنع الله ، وبالغ قدرته في هذا العالم الواسع العجيب ، مما لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق قدرة قاصدة إلى هذه النتائج التي سنذكرها ، بما توحيه لهذه الحيوانات من الهامات تتجلى فيها هذه القدرة .
إن الحشرات المسماة (( بيكروفور )) تموت بعد أن تبيض مباشرة ، أي أنها لا ترى ذريتها ، وأولادها لا يرونها ، ولكن الشيء العجيب أن هذه الحيوانات قبل أن تبيض تعنى عناية خاصة بجمع جثث حيوانية تضعها بجانب البيض ، لتصبح غذاء لصغارها متى خرجت ، فكيف عرفت هذه الحشرات أن بيضها يحتوي على صغار ، وأن تلك الصغار ستخرج وهي بحاجة إلى غذاء ،وأن هذا الغذاء يجب أن يكون تلك الجثث الحيوانية التي جمعتها لها قبل موتها ؟ أنه الإلهام الإلهي .
ومن عجائب خلق الله وقدرته في الحيوان ، أن الحيوانات المسمات (( يومبيل )) من أكلة الحشائش ، ولكن صغارها تولد من أكلة الحيوانات ، ولذلك تعمد أمهاتها الى وضع بيوضها على أجساد الحيوانات ، حتى إذا خرجت صغارها وجدت ما تتغذى به ، فمن الذي عرف الأمهات وهي من أكلة الحشائش أن أولادها من أكلة الحيوان . . ؟
ومن المذهل في هذا الباب الحيوانات المسماة (( أوديتير )) أو (( سفكس)) فان صغار هذه الحيوانات متى ولدت احتاجت لأن تغتذي بأجساد حيوانات حية ، ولذلك نجد أن أمهاتها إذا باضت عمدت إلى اصطياد حيوانات تصلح غذاء لصغارها ولكنها يجب أن تبقى حية لأنها لو ماتت لما أغتذى بها الصغار ، من أجل هذا نراها عندما تصطاد هذه الحيوانات لا تقتلها ، وإنما تضربها ضربة فتية تذهب حركتها دون إماتتها ، ومن ثم تجمعها وهي على هذه الحالة من فقدان الحركة ، وتضعها بجانب صغارها ، فإذا خرج الصغار وجدوا أمامهم هذه الحيوانات الحية الصالحة لغذائهم ومن هذا القبيل الحيوان المسمى (( اكيلوكوب)) وهو من الحيوانات الطائرة التي نراها في الربيع ، هذه الحيوانات تعيش منفردة ، وتموت بعد أن تضع بيوضها مباشرة ، فلا ترى صغارها ، ولا الصغار يرونها ، وهذه الصغار عندما تفقس البيضة عنها تكون على حالة ديدان لا تستطيع حماية نفسها من أية عادية ، كما أنها لا تستطيع الحصول على غذائها ، ومع ذلك فحياتها تقتضي أن تعيش مدة سنة من الزمان في مسكن مقفل ، وهدوء تام ، وإلا هلكت .
ولذا نرى الأم عندما يحين وقت بيضها تعمد إلى قطعة من الخشب ، فتحفر فيها سردابا طويلا ، فإذا أتمته على ما ينبغي أخذت في جلب ذخيرة تكفي صغارها سنة ، وتلك الذخيرة هي طلع الأزهار – وبعض الأدران السكرية ، فتحشوها في قاع السرداب ، ثم تضع بيضه ، ثم تأتي بنشارة الخشب ، وتكون منها عجينة ، تجعلها سقفا على تلك البيضة ، ثم تأتي بذخيرة جديدة تضعها فوق ذلك السقف ، ثم تضع بيضة أخرى ، وهكذا ، فتبني بيتا مكونا من عدة طوابق ، ثم تترك الكل وتموت (1).
وهناك بعض الأنواع من العناكب المائية تعمل ما يحار فيه العقل الإنساني رغم ما أوتيه من طاقة ، إن هذا النوع من العنكبوت إذا أراد أن يلد صنع لنفسه عشا على شكل بالون من خيوط بيت العنكبوت ، ومن ثم تعمد هذه الأنثى إلى تعليق هذا البيت بشيء ما تحت الماء ، إلا انه لا يكون منفوخا بعد ، لأنه لو كان منفوخا لما استطاعت إنزاله إلى الماء ، ولذلك تبدأ بعد إنزاله إلى الماء وربطه – تعمل على نفخه بطريقة عجيبة ، وذلك بأنها تخرج إلى سطح الماء ، وتمسك وببراعة فائقة فقاعة هوائية في شعر تحت جسمها ن وتحملها إلى الماء ، ثم تطلقها تحت العش ، ثم تتكرر هذه العملية حتى ينتفخ العش ، وعندئذ تلد صغارها ، وتربيها ، وهي آمنة عليها من هبوب الرياح إن هذا النوع من العنكبوت يتقن عدة فنون من النسيج القابل للتماسك وسط الماء ، والدقة الهندسية والتركيب ، والملاحة الجوية (2) .
إن الإنسان ليعجب كل العجب عندما يرى هذه المشاهدات الناطقة أن ما يجري لا يمكن أن يكون عن طريق الصدفة ، وإنما هو عن طريق الإلهام الذي تتجلى به القدرة الإلهية في أدق مظاهرها
وإلا ، فمن الذي علم هذه الحيوانات هذه الطرق المتباينة من أجل تربية أولادها ، وكل منها يعمل في نطاق ما يصلح الصغار لا الكبار ، وفي نطاق ما يضمن لهم الدوام والاستمرار ، رغم أنه قد لا يكون ممن أدرك والديه أو أحدهما ؟
إنها آيات الله التي تتجلى لنا في كل شيء .
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَ ادَاللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ {البقرة/26}
الحذر عند الحيوانات :
إننا نعرف نظام الحراسة عند الإنسان ، ولاسيما عند الجيوش النظامية وفي حالات الخطر إلا أن هذا النظام لا يمتاز به الإنسان فحسب ، بل هو موجود عند كثير من الحيوانات الأخرى .
فالفيلة مثلا عندما تريد أن تشرب ، يخرج قائدها في الليل من الغابة ، ويمشي نحو الماء في خفة وهدوء ، بحيث لا يسمع صوت أقدامه على الأرض ، أو احتكاك جسمه بأوراق الأشجار ، ثم يقترب من الماء ، ويقف هناك مدة من الزمان مصغيا بأذنيه ليلتقط أخف الأصوات ، وبعد أن يطمئن إلى أنه لا يوجد أي خطر ، يرجع إلى أصحابه ليصطحب معه خمسة منهم ، ويضع كلا منهم في مكان خاص للحراسة والمراقبة ، فيفهم كل منهم مهمته ويقوم بها على أكمل وجه ، ثم يعود إلى الأدغال ثانية ، ويجمع حوله القطيع ، ويخرج به في حذر وصمت ، حتى يصل إلى الحراس ، وهناك يترك القطيع ، ويمشي وحده نحو الماء ، ويقف بقربه مدة وجيزة بحذر وصمت ، حتى إذا اطمأن إلى سلامة المكان تماما أعطى إشارة إلى القطيع الذي ينساب إلى الماء ويشرب حتى يروى ، ويعود مسرعا إلى الغابة ، وبعد ذلك يأتي دور الحراس ، فترد الماء فرادى ، وكلما شرب أحدها عاد إلى مكانه في الحراسة،وأخيرا ينزل القائد إلى الماء ويشرب ، ثم يجمع الحراس ويعود بهم إلى الغابة .
وإذا وقع في أثناء المغادرة حادث يثير الشك ، لجأت الفيلة إلى الفرار ، وإذا كان معها الصغار ، فإنها لا تذهل عنها لهول المفاجأة ولا تنساها ، ولذلك تحرص على وضع كل صغير منها بين فيلين كبيرين ، يدفعانه أثناء فرار القطيع ، ويحولان بينه وبين السقوط ؟ !
الهندسة عند الحيوانات :
قد يمضي الإنسان سنوات طويلة من حياته الدراسية حتى يتمكن من الحصول على شهادة في الهندسة تخوله بناء السدود ، ولم نر قط أن إنسانا ما في الحياة ولد من بطن أمه مهندسا بالفطرة ، فالعلم بالتعلم . . ؟
إلا أن القندس ” كلب الماء ” يولد من بطن مهندسا ؟ أنه لا يحب الماء إلا ساكنا ، ذا عمق معين ، فيبني بيته وسط الماء بعيدا عن الذئاب والحيوانات المفترسة . وإذا لم تتوافر في الماء الشروط الضرورية لمعيشته ، سعى بنفسه إلى تحقيقها ، فيبني سدا عبر النهر ليخفف من سرعته ، ويحجز أمامه كمية كبيرة من الماء ،ويتكون بذلك حوض عميق يقيم فيه مسكنه .
والمواد المطلوبة لبناء السد هي الأخشاب والحجارة والطين ، فيحصل على الأخشاب من الأشجار التي يقطعها من جذورها بأسنانه الحادة ،وبطريقة فنية مذهلة تؤدي إلى سقوطها في النهر ، وذلك بحفر ساقها حتى يصير على شكل مخروطين متقابلين ،فإذا سقطت في النهر عمد إلى جمع فروعها حول ساقها ،ثم وضع بينها كميات كبيرة من الحجارة والطين ، فتتماسك أجزاؤها وتصبح سدا يرفع مستوى الماء .
وإذا كان النهر واسعا لا تكفي شجرة واحدة للامتداد بين جانبه لجأ إلى حيلة أخرى ، وأقام السد كله من قطع خشبية يكدسها في الماء بعضها فوق بعض ، ويحصل على الخشب من الأشجار التي يقطعها ، بحيث يسقط على الأرض لا في الماء ، ويفصل عنها فروعها ، وينزع عنها قشرتها ، ثم يقطعها إلى أجزاء يتراوح طولها بين ثلاثة أقدام وستة ، حسب قدرته على نقلها إلى الماء ، وهو لا يحملها ، ولكنه يدحرجها بقدميه ، الأماميتين محافظا على اتزانه أثناء ذلك بتثبيت ذيله العريض على الأرض ، وتستدعي إقامة السد قطع عدد كبير من الأشجار ، وقد يكون موضعها
بعيدا عن الماء ،ويستلزم نقل أجزائها جهدا شاقا ، وفي مثل هذه الحالة يحفر ترعه صغيرة تخرج من النهر ، وتصل إلى مكان قريب من الشجرة ، ثم يدحرج القطع وهو سابح ، حتى يصل بها إلى موقع السد .
وبعد أن تتكدس أكوام الخشب في النهر من جانب إلى آخر ، يقويها بالطين والحجارة ، فينقل الطين من الشاطئ ، والحجارة من الغابة أو الصخور المجاورة ، وهو يحملها بين ذقنه وكفيه العريضتين ، بحيث يستطيع أن يحمل حجرا وزنه ستة أرطال .
ويثابر القندس على عمله حتى يكتمل بناء السد ، الذي قد يبلغ طوله أحيانا 400 متر ، هو في الغالب يبنيه مستقيما ، إلا إذا كانت سرعة الماء شديدة فإنه يجعله مقوسا ليقاوم قوة اندفاع الماء .
وهذا السد لا يمنع تسرب المياه من خلال فجواته الضيقة ، ولكنه يكون أشبه بمصفاة تحجز وراءها كميات هائلة من الماء ، بحيث يرتفع الماء إلى نسبة ملائمة لما يريده ، وتكون كمية الماء التي يجلبها التيار مساوية لكمية الماء التي تتسرب من الشقوق ، وبهذا يضمن القندس بقاء ارتفاع الماء ثابتا على النحو الذي يريده .
وهذا السد لا يقوم به قندس واحد ، وإنما يقوم به مجموعة من القنادس تتعاون تعاونا تاما من أجل بنائه ، وإقامة المساكن فيه .
ويبنى المسكن من نفس المواد التي تستخدم في إقامة السد ، ويختار له موقعا على السد نفسه ، أو فوق جزيرة في حوض الماء الناشئ من السد ،أو على حافة عالية من الشاطئ ، ويغطي سطحه الخارجي بالطين الذي يجمد ويتصلب وقت الشتاء ، وتكون حظيرة النوم فوق سطح الماء لتصل إليها أشعة الشمس ، ويتخللها الهواء ، أما المخزون فيكون تحت سطح الماء ، وفيه توضع مؤن الشتاء .
وإذا ضاق المخزن عن جميع الذخيرة ، عمد القندس إلى وضع بعض الأغصان تحت الماء ، وتثبيتها بالحجارة حتى لا تطفوا بعيدا عن السكن ، وفي الشتاء إذا تجمد سطح الماء الخارجي فإنه لا يجمد حول الأغصان لكونها في قاع الحوض بعيدة عن السطح ، ويستطيع القندس أن يغوص تحت الجليد ، ويصل إليها ويحمل جانبا منها ليشبع جوعه .(!)
فمن الذي علم القندس هذا الفن المعماري العظيم ، من الذي علمه أن يجعل السد مستقيما إذا كان دفع الماء ضعيفا ، ويجعله منحنيا إذا كان دفع الماء قويا ، ومن الذي علمه كيفية قطع الأشجار ، وحفر الترع لنقلها ، من الذي علمه أن يثبت غذاءه بعيدا عن سطح الماء حتى لا يتجمد حوله في الشتاء .
لا شك أنه إنما يعمل هذا بناء على إدراك وتصميم يعجز عنه الإنسان المفكر الناطق ، لاشك أن هذا أثر من آثار القدرة الإلهية في الهام الحيوانات مثل هذه الفنون .
الحيوانات المضيئة
هناك كثير من الأسماك ينبعث ضوء من أجزاء مختلفة من جسمها يهديها الطريق ، هنالك أحياء على شكل نجوم متلألئة بضوء أخضر ، وهناك ثعابين مائية يصدر عنها نور كهربائي أبيض .
وهناك سرطانات لها قرون استشعار تنبعث منها موجات ضوئية زرقاء وهذه المخلوقات تعيش على بعد 1200 م تحت سطح الماء ، حيث الظلام الدامس ، ولذلك كان لا بد من هذه الإضاءة لتعرف الطريق ، وإلا كانت الكارثة .
لقد وجد نوع من حيتان سليمان له صف من المصابيح الطبيعية ممتد على طول جسمه ، ونوع آخر من السمك الأسود له صفان من المصابيح الحمراء ، ومئات من البقع المضيئة .
وهناك أسماك كبيرة تتحرك كأنها كتل متوهجة .
وفي بعض الأحيان تتجمع في بعض الأماكن مئات الملايين من الأجسام الصغيرة المضيئة لتقلب قاع البحر إلى كتلة من الضياء ؟
وبعض الأسماك تستطيع أن تطفئ نورها إذا اقترب منها عدوها ؟
وهذا النور لا ينبعث فقط من حيوان البحر فهناك أنواع أخرى من حيوانات البر تبعث مثل هذا النور كالخفافس المضيئة ، والحشرة النارية ،والديدان (3)
المضيئة . كيف وجد هذا ؟ ومن الذي أوجده ، ولماذا لم تكن كل الأسماك مضيئة ، ومن الذي رتب هذه الأنوار على هذه الأشكال الهندسية ، ومن الذي علم
السمك أن يطفئ نوره إذا داهمه عدو أو خطر ؟ إنها آية الله الناطقة بقدرته ووحدانيته وعظمته .
هجرة الحيوانات
لقد عرف كثير من الحيوانات بالهجرة إلى موطن آخر ، فرار من البرد ، أو رغبة في الدفء ، أو لغاية أخرى سوى هذا ،ولاسيما الطيور ، ونحن لا نريد أن نتكلم عن هجرتها جماعات جماعات وفي وقت محدد من كل عام ، وكأنها جيش نظامي يأتمر بأمر قائد واحد يجمعه في وقت معين ، ويسيره باتجاه معين، ولا يعصى له أمرا طيلة سفره التي ربما بلغت آلاف الأميال ، وإنما نريد أن نتكلم عن بعض الغرائب في هجرة هذه الحيوانات .
فهناك طائر معروف ” بخطاف البحر ” ويسكن في المنطقة المتجمدة الشمالية ويربي صغاره فيها ، وعندما يأتي فصل الشتاء ، يبدأ هذا الطائر برحلة طويلة المدى ، يعبر فيها الكرة الأرضية طائر بجناحيه ،إلى أن يصل إلى المنطقة المتجمدة الجنوبية ليتمتع هناك بالصيف ، إلا أنه لا ينسى موطنه الأصلي ، فيدعوه الحنين للعودة إليه ثانية عندما يعتدل الجو ، فيرجع مسرعا ، بعد أن يقطع في هذه الرحلة حوالي عشرين ألف ميل وهو في هذه الرحلة لا يجد قائد يقوده ، ولا يملك وسائل الملاحة الجوية التي يستعين بها الإنسان لتحديد الاتجاه ، إلا أنه لا يضل أبدا طريقه ، لا في الذهاب ولا في العودة ،على أنه قد يكون معه في هذه الرحلة صغاره التي لم تتدرب بعد على الهجرة قبل اليوم ، ومع هذا فإن هذه الصغار لا تضل طريقها ، وتستطيع أن تجتازه وحدها دون حاجة إلى إرشاد الكبار من أبناء جنسها .
وأما اللقلق فإنه يطير شتاء من ألمانيا وهولندا والنمسا مسافة خمسة آلاف ميل حتى أواسط أفريقية ، ثم جنوبها حيث يجد الجراد ، وهو طعامه المفضل . فمن الذي ألهمه أن طعامه في ذلك المكان على بعد آلاف الأميال ؟
والأعجب من هذا كله ما حدث لأحد الصيادين ، حينما صوب بندقيته إلى أول فوج من الطيور القادمة إلى شواطئنا الدافئة فرارا من البرد الزاحف إلى شمال أوروبا ، فاصطاد ببغاء معمرا ، مكتوبا على طوق من النحاس حول ساقه ” ببغاء معمر ، اعتاد السفر لأمريكا ، ويعود منها كل عام . . وهو ضرير .” التوقيع مكتب هجرة الطيور بالنرويج (!) .
ألا تعجب أيها القارئ الكريم من هذا الخبر المثير ، ولاسيما إذا عرفت أن
الإنسان الضرير لا يستطيع أن يسير في الأرض التي عرفها وخبرها إلا بواسطة عصا وقائد ومرشد ؟ . . لا بد للإنسان أن يدهش لهذا الخبر الذي تتجلى فيه أعظم آيات القدرة في هجرة هذا الحيوان الأعجم الأعمى .
وليست الهجرة والعودة إلى الموطن الأصلي من خواص الطيور فقط ، بل هناك كثير من الحيوانات الأخرى تتصف بهذه الصفة.
فهذا سمك السلمون الصغير يمضي عدة سنوات في البحر ، ثم يعود إلى نهره الخاص به ، بل إنه يصعد جانب النهر الذي يصب عنده النهير الذي ولد فيه ، والأعجب من هذا كله أن هذه السمكة إذا نقلت إلى نهير آخر غير الذي ولدت فيه ، فإنها تدرك على الفور أنه ليس بجدولها ، ولذلك تشق طريقها خلاله ، ولو كان ضد التيار لتعود إلى نهرها الأصلي .
والأعجب من هذا ثعبان الماء ، الذي يسلك عكس مسلك سمك السلمون ، فإن هذا المخلوق العجيب إذا اكتمل نموه هاجر من مختلف البرك والأنهار ، وإذا كان في أوروبا قطع آلاف الأميال في المحيط قاصدا الأعماق السحيقة جنوبي برمودا ، وهناك تبيض ومن ثم تموت .
وأما صغارها فبعد خروجها من بيضها لا تملك أية وسيلة لتعرف بها أي شيء من تاريخها ، سوى أنها في مياه قفرة ، وعند ذلك تعود أدراجها ، وتجد طريقها إلى الشاطئ الذي جاءت منه أمهاتها ، ومن ثم إلى كل نهر أو بحيرة ، أو بركة صغيرة جاءت منه الأمهات ، ولذلك تظل كل المياه آهلة بثعابين البحار .
لقد قاومت هذه الثعابين الأمواج المتلاطمة ، والتيارات القوية العاتية، وثبتت للإمداد والعواصف ، حتى إذا اكتمل نموها ، دفعها قانون خفي إلى الرجوع حيث كانت .
ولم يحدث قط أن صيد ثعبان ماء أمريكي في مياه أوروبية ، أو ثعبان ماء أوروبي في المياه الأمريكية .
ولذلك نجد بطئا في نماء ثعبان الماء الأوروبي لمدة سنة أو أكثر ليعوض من زيادة مسافة الرحلة التي يقطعها ، بينما لا نجد هذا في الثعبان الأمريكي .
فمن أين نشأ هذا الحافز لتلك الحيوانات للهجرة من مواطنها ، ومن ثم للعودة إليها ، وكيف عرفت الطيور مواطنها الأصلية ، ورجعت تبني أعشاشها في نفس الأماكن التي كانت فيها ، وكيف عرف ثعبان البحر موطنه الأصلي الذي هاجرت منه أمه مع أنه لم يرها ، بل ماتت قبل خروجه إلى الحياة ، إنه لغز لا يملك الإنسان أمامه إلا أن يعترف بعجزه عنده ، ومن ثم لا يجد بدا من الاعتراف بقدرة خالق حكيم ذي قصد وتدبير، وراء هذه الظواهر المدهشة العجيبة التي يستحيل أن تصدر عن صدفة عمياء ، إلا أنها قوة الله و قدرته ..
] ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [{غافر/62}
(1) دائرة معارف وجدي 8 / 513 .
(2) العلم يدعو للايمان ص / 119 .
(!) دنيا الحشرات ص 105 -ـ 110 ، غريزة أم تقدير الهي ص / 84 .
(3) غريزة أم تقدير الهي ص / 42
(!) الأهرام 4 / 5 / 1971 عدد 30948 ص 11 غريزة أم تقدير الهي ص /17