طريق الاستدلال على وجود الله
طريق الاستدلال على وجود الله
لقد عرفنا في الفقرات السابقة بطلان دعوى فلاسفة الإلحاد في تناقض العلم مع الدين ، بل عرفنا أن الدين أكبر دعامة للعلم ، والعلم أكبر شاهد على الدين .
كما عرفنا أن العقل الحديث لا يحصر معارفه في المشاهدات والمجربات ، وإنما يقبل ما كان ناتجا عن استنباط واستنتاج مع وجود القرائن ،ويعطى النتائج التي يصل إليها عن هذا الطريق نفس القوة التي يعطيها للحقيقة العلمية التي لم يصل إليها عن طريق التجربة المباشرة أو المشاهدة
وبناء على ذلك ، فإننا سوف نسير على هذا المنهاج ، لا نعدوه ، لنثبت بنفس الأسلوب الذي استعمله فلاسفة الإلحاد ، لنثبت بنفس الأسلوب وجود الله ، وصدق الدين وضرورته .
وسوف يكون بحثنا ونظرنا في الآيات الكونية التي نظر فيها العلم الحديث وعرفها ، فإننا سوف نعتمد اعتمادا كبيرا على مباحثه ، ومشاهداته ، وتجاربه ونظرياته لنخلص منها إلى الإيمان بالله ، كما خلص إليه المخلصون من العلماء في الشرق والغرب على السواء .
فان ديننا الحنيف لم يفرض علينا الإيمان عن طريق الإكراه ، ولم يرض لنا في أمور العقيدة التقليد .. بل أمرنا بالنظر في ملكوت السموات والأرض ، لنصل من خلال هذا النظر إلى الإيمان بالله .
إذ كـل مـن قـلد في الـتـوحيـد إيمانه لـم يـخـل مـن تـرديـد
ففيـه بعض القـوم يحـكي الخلفـا وبـعضـهم حـقـق فـيـه الكشفـا
فـقـال : أن يجـزم بـقـول الغـير كـفـى وإلا لم يـلزم في الـضـير
قال تعالى في كتابه الكريم : ]لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [ {البقرة/256}ينهى عن الإكراه في الدين ، لأنه يجب أن يكون قائما على القناعة والرضا وإلا فالإيمان به إيمان كاذب لا ينفع صاحبه .
وقال ينعي على المقلدين لآبائهم ،ويذمهم عليه ] بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ {الزخرف/22}
وقال يحثنا على النظر :] قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ [{يونس/101}
وقال : ]سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [{فصلت/53}
وقال : وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ { 20} وَفِي أَنفُس
ِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ {الذاريات/21}
ولو ذهبنا نستقصي الآيات التي تلفت نظر الخلق إلى آيات الخالق في الأرض والسماء لاحتجنا إلى حلقات متعددة ، ويكفينا هذا القليل الذي ذكرناه عن ذاك الكثير المعروف الذي لم نذكره .
وقانون الاستنتاج والاستنباط هذا الذي اعتمده فلاسفة الغرب لنفي الإلوهية ، والذي سنعتمد عليه تماما كما اعتمدوا من أجل إثبات الإلوهية ، هو قانون قديم عرفه الإنسان منذ القدم . .
فها هو إبراهيم عليه السلام يقلب نظره في ملكوت السموات والأرض ليقيم الحجة على قومه في وجوب الإيمان بالخالق الذي لا يحول ولا يزول ، يقص الله علينا قصته في القرآن فيقول :] وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ {75} فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ { 76} فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ { 77} فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ { 78} إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {الأنعام/79}
فها هو عليه السلام يستدل بزوال هذه الكائنات وعدم استمرار ظهورها ، على أنها ليست آلهة ، وإلا لما زالت ، فلما زالت كان لا بد لها من مزيل ألا وهو الله ، ليقيم الحجة على قومه ، كما قال تعالى :
]وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [ {الأنعام/83}
وهاهو القرآن يلفت نظر المشركين إلى آيات الله في الكون ليستدلوا من خلالها على وجود الله فيقول :] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [{البقرة/164}
وها هو الأعرابي يستدل بفطرته السليمة على وجود الله ، وبنفس القانون الذي اعتمده العقل الحديث فيقول : (( البعرة تدل على البعير ، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، ألا تدل على اللطيف الخبير)) .
ولذلك سننتقل في الحلقات القادمة إن شاء الله إلى النظر في ملكوت السموات والأرض ، فننظر في الفضاء ، والأرض والنبات ، والحيوان ، والإنسان ، ومن خلال الحقائق العلمية التي اكتشفها العقل الحديث ، لتثبت بما لا يدع مجالا للشك وبنفس أسلوب العقل الحديث وجود الله ووحدانيته .
فـفـي كـل شـيء لـه آيـة تـدل عـلى أنـه الـواحـد
الأدلة على وجود الله
1- من الفضاء
ذكرنا في الفقرات الماضية أن كل ما في الكون يدل على وجود الله ، سواء أكان في السماء أم في الأرض، وسواء أكان من الجماد، أم النبات، أم الحيوان ،أم الإنسان .
وسنبدأ بالعالم الفضاء لنرى بعض ما فيه من الآيات الكثيرة الدالة على وجود الله .
يقول علماء الفلك :
إن عدد نجوم السماء يساوي عدد ذرات الرمال الموجودة على سواحل البحار في الدنيا كلها،وهذه النجوم منها ما هو أصغر من حجم الأرض ،ومنها ما هو بحجمها، ومنها ما هو أكبر منها حجما، بحيث يمكن أن يستوعب ملايين الكواكب الني هي بحجم الأرض ومنها ما تكون الأرض بالنسبة له كذرة رمل في صحراء ، وهذا الكون الذي تسير فيه هذه النجوم فسيح جدا ، لم يستطع الإنسان أن يتصوره حتى الآن حتى أن العقل ليكاد يتوهم أنه لا نهاية له ، ومع ذلك فهو بناء على نظرية اينشتاين دائم التوسع والتمدد بحيث يتضاعف حجمه خلال مدة تقدر ب 1300.000.000 سنة ضوئية تقريبا ، وهذه الكواكب التي تزينه تسير فيه بحركة دقيقة منتظمة ، وبسرعة خارقة، بعضها يسير وحده ، وبعضها يسير مثنى مثنى ، ومنها ما يتحرك بشكل مجموعات ، وأقرب حركة منا هي حركة القمر ، الذي يبعد عنا بمقدار 240.000 ميل وهو يدور حول الأرض ، خلال مدة تسعة وعشرين يوما ونصف يوم ، وتبعد الأرض عن الشمس بمقدار 93.000.000 ميلا ، وهي تدور حول محورها بسرعة ألف ميل في الساعة ، في دائرة محيطها 190.000.000 ميلا وتستكمل هذه الدائرة مرة واحدة في السنة .
وكذلك توجد تسعة كواكب مع الأرض ، وكلها تدور حول الشمس بسرعة فائقة ن وأبعد هذه الكواكب يدور في محيطها 7500 مليون ميلا ، ويدور حول هذه الكواكب واحد وثلاثون قمرا حول الشمس ، ويوجد سوى هذا حلقة من ثلاثين ألفا من النجميات ، وشهب لا حصر لها ، وكل هذه الكواكب ، والنجميات ، والمذنبات تدور حول هذا الكوكب العظيم ، وهو الشمس ، التي يبلغ قطرها 865 ألف ميل وهي أكبر من الأرض ب 1.200.000 مرة ، والشمس وما يجري حولها يشكل المجموعة الشمسية .
وهذه المجموعة بأسرها على هذا النظام البديع الذي وصفناه ليست واقفة في مكان ما ، وإنما هي تسير بسرعة 600 ألف ميل في الساعة الواحدة .
وهذه المجموعة واحدة من آلاف المجموعات ، والتي تكون بأسرها ما نسميه بالمجرة ، فالمجرة الواحدة تحتوي على آلاف المجموعات التي تشبه المجموعة الشمسية .
وهذه المجرة ليست واقفة أيضا وإنما تدور بكل مجاميعها ، تدور حول محورها بحيث تكمل دورة واحدة في 200 مئتي مليون سنة ضوئية .
وأما عدد المجرات في السماء فهو كبير جدا ، وكما ذكرت قبل قليل لا يقع تحت الحصر ، ولكن العلماء قدروا عددها تقريبا بـ 500 مليون مضروبا بـ500 ألف مليار ، وفي كل مجرة مائة مليار من النجوم تقريبا ، وهذه كلها أقيسة رياضية تقريبية وإلا فالكون أكبر من هذا بكثير .
وكل هذه المجرات تسير بنظام محكم دقيق ، لا يتطرق إليه الخلل ، بحيث يستطيع الإنسان الفلكي أن يعطينا جدولا لآلاف السنين عن حركتها ، وأماكن وجودها ، وبدقة متناهية ، ومع هذه الحركة ، والدوران الذي تتصف به كل السيرات ،والمجرات ، نجد أن هذه المجاميع تتباعد عن حاشية المجرة وبسرعة فائقة .
فالمجموعة الشمسية وهي تدور حول الشمس ، تدور أيضا على حاشية المجرة ، وبنفس الوقت تتباعد عن هذه الحاشية بمقدار اثني عشر ميلا كل ثانية، ويتبعها في هذه العملية جميع النجوم الداخلية فيها.
وليس هذا شأن مجموعتنا الشمسية فقط ،وإنما هو شأن جميع المجاميع التي تدخل في حيز المجرة كل مجموعة حسب نظامها ،وهذه الحركة بأسرها خاضعة لنظام مدهش دقيق وعجيب ، يمكن أن نتصوره حينما نعلم أن كواكب مجرة ما، قد اختلطت بكواكب مجرة أخرى أثناء سباحتها في الفضاء ، إلا أنه سرعان ما تخرج كل مجرة بكواكبها ، دون أن يختلط كوكب منها بكواكب المجرة الأخرى ، ودون أن يصطدما ، بل أن تصادم ذبابتين في غرفة طولها عشرة أمتار وعرضها عشرة أمتار وارتفاعها عشرة أمتار أقرب من تصادم كوكبين في السماء ، على كثرة عدد الكواكب ، وسرعة سيرها ، وكبر حجمها .
أو يجوز لعاقل بعد أن يعرف هذا ، أن يقول : إن كل هذه الدقة ، وكل هذا الإحكام والإتقان ، قد وجد عن طريق الصدفة ، وليس عن طريق القدرة الإلهية الحكيمة المتقنة ، اللهم لا ، إنها آياتك في السماء . .
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ ]آل عمران/190[
الاتفاق العجيب في نظام الحركة في الكون
ذكرنا في الفقرة الماضية أن القمر يدور حول الأرض ، وأن الأرض تدور حول الشمس ، وأن الشمس مع كل كواكبها ، ومذنباتها ، ونجيماتها تدور حول محور المجرة ، وأن المجرة تدور في هذا الفضاء ، في نظام محكم دقيق وبديع .
ولكن ما هو شكل هذا الدوران ، وما هو اتجاهه ؟ .
يقول علماء الفلك : إن القمر يدور الأرض دورة بيضوية الشكل ، وبعكس عقارب الساعة ، أي من اليمين إلى اليسار.
كما أن الأرض تدور حول الشمس دورة بيضوية الشكل ، كدورة القمر، وبعكس عقارب الساعة أيضا .
والمجموعة الشمسية تدور في فلك المجرة ، دورة بيضوية ، وبعكس عقارب الساعة ، ولا داعي للاستقصاء ، فكل الحركة في السماء على هذا الشكل ، وبهذا الاتجاه . .
إن هذا النظام العجيب الدقيق في الشكل والاتجاه والذي نجده في المجموعة الشمسية في الفضاء ، إننا لنجد نظيره في الأرض ، وفي كل ذرة من ذرات عناصرها .
فالذرة ، وهي أصغر جزء في العنصر لا يقبل التجزئة ، هذه الذرة لا يمكن أن يشاهدها الإنسان ، حتى ولو استعمل منظار يكبر الجسم ملايين المرات، فهي إذن متناهية في الصغر .
إلا أنهاْ ومع صغرها هذا ، والذي يكاد يجعلها عدما ، إنها مع صغرها تحتوي على نفس النظام الذي وجدناه في الشمس ، وفي الحركة والاتجاه ،فالذرة تتكون من اليكترونات وبروتون والإليكترون وهو الجزيء السلبي في الذرة ، يدور حول البروتون الذي يشكل الجزء الإيجابي فيها ، وبسرعة فائقة جدا ، بحيث لا يمكن تصور وجوده في مكان محدد في محيطه لسرعة دورانه ، وإنما يتخيل موجودا على طول مداره في وقت واحد ، لأنه يدور حول مداره بلايين المرات في الثانية الواحدة ، وهذا الدوران بيضوي الشكل وبعكس عقارب الساعة .
إذن فنظام الحركة الموجودة في المجموعة الشمسية شكلا واتجاها يوجد بعينه في ذرات هذا الكون في الأرض ، والسماء ، وفي الجماد والنبات ، والحيوان ، والإنسان .
إن أي عاقل في هذا الكون ، ينظر إليه بعين الإنصاف ،لا بد له أن يوقن ، أن موجود هذا القانون وشكل الحركة واتجاهها إنما هو موجود واحد ، وألا لاستحال وجود هذا التشابه بين نظام الحركة في السماء ، ونظام الحركة في كل ذرة من ذرات الأرض ، بل الكون .
إن العقل المنصف لمضطر للإيمان بالله من خلال هذه المشاهدة العجيبة المدهشة .
فإذا جاز لدارون والدارونيين أن يستنبطوا من الشبه الموجود بين الحصان والكلب ،أو بين الإنسان والقرد ، من حيث الخلق ، إذا جاز لهم أن يستنبطوا من هذا التشابه أن الجد الأعلى لهذه الحيوانات واحد ، أفلا يجوز للإنسان المؤمن أن يستنبط من هذا التشابه اليقيني المحكم الدقيق بين الحركة في الذرة والحركة في المجموعة الشمسية ، أفلا يجوز له أن يستنبط من هذا التشابه أن الخالق لهما واحد ،بل اللهم أنا لنشهد على أن خالق هذه الكائنات واحد ،لهذا التشابه الذي يستحيل أن ينتج عن طريق الصدف ، بل لابد أن تكون وراءه قدرة حكيمة ومبدعة ، بل زاد الأمر على هذا ليزداد المؤمن يقينا ، فعندما أمر المؤمنون بالطواف حول البيت ، أمروا بالطواف بعكس عقارب الساعة ، وبدورة بيضوية ،بسبب حجر إسماعيل الذي يجعل البيت مستطيلا ، وكأن الله أراد الإنسان المؤمن في حركته الظاهرية أن يكون متطابقا مع حركة الكون ، في أصغر ذرة إلى أكبر جرم سماوي ، لئلا يكون الإنسان شاذا في حركته العبادية ، التي يخضع فيها خضوع الشمس والقمر والنجوم والكواكب وليدل المؤمن على أن هذا الأمر إنما هو من عند الله خالق الحركة في السماء والأرض .
وصدق الله إذ يقول : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ][ فصلت/52}