الإيمان بالغيب تكريم للعقل لا تعطيل له
وليس هذا من قبيل تعطيل العقل الإنسانى عن العمل ، وإنما هو تكريم للعقل الإنسانى عن أن يخوض فيما لا سبيل إلى الخوض به ، مما هو غائب عنه، غير خاضع لحواسه .
كما أن تكريم للعقل المؤمن عن الوقوع فى المتناقضات ، لأن العقل إذا كان قد آمن بالله ، وصفاته ، فإنه يؤمن بكلامه وخبره من باب أولى إذ المشكلة الأساسية فى الإيمان بالله ، أما أن يؤمن بالله وصفاته ، ثم يرد خبره أو ينكره ، فهذا تناقض تترفع عنه عقول العقلاء .
ولذلك حينما جاء المشركون إلى أبى بكر الصديق ، رضى الله عنه وأرضاه يخبرونه عما أتى به رسول الله r من خبر الإسراء إلى البيت المقدس ، والعروج إلى السماء ، وفى ظنهم أنهم جاءوه بمقاسمة الظهر التى سترده عن أتباع محمد r فميا جاء به إذ كان الإسراء والمعراج مما لا يمكن لعقل عاقل أن يقبله أو يفهمه إن قاس الأمر بالمقاييس المادية التى يحكم العقل من خلالها ، وهو ليس ضرباً من المحال فقط ، بل هو إلى جانب ذلك إرهاص من إرهاصات الجنون .
ولكن أبا بكر رضى الله عنه لم يفاجأ بهذا الخبر ، بل رأى أنه أهون من أن يلفت نظره ، أو يثير شكوكه ، وأن أبسط مبادئ المنطق توجب عليه تصديقه .
فقال لهم : أهو قال هذا ؟ قالوا : نعم ، فقال إنك كان قاله فقد صدق ..! لأنى صدقته فى الخبر الذى يأتيه من السماء ، وائتمنته عليه ، فالله الذى آمنت أنه يرسل إليه بالأخبار من السماء ، قادر على رفعه لكان متناقضاً .
فأفحمهم بهذا ، وهذا المنطق السليم فى الإيمان ، ولو أنه أخضع الأمر لموازين العقل المادية ، المجردة عن الإيمان بالله ، ورد هذا الخبر لغرابته ، لكان متناقضاً .
فحينما يطالب المؤمن بالتسليم لخبر الله ، والإيمان بالغيب ، لا يكون قد طولب بتعطيل عقله ، وإهدار ملكاته ، وإنما يكون قد أمر بالارتفاع إلى مستوى التفكير المنطقى السليم.