أثر الجهل فى المجتمع/تورع سلف الأمة عن الفتوى/انقلاب الموازين العلمية…
أثر الجهل في الأمة والمجتمع
إن كثيراً من الناس يؤتى من قبل جهله ، فيما يخيل إليه من أن هذا الجهل علم يتيه به على رؤوس البشر .
وهكذا يفعل الجهل بصاحبه ، يخيل له الحق باطلاً ، والباطل حقاً ، ويزخرف له الخطأ حتى يظهره في عينيه في أعلى درجات اليقين والصواب .
ولذلك تجد الجاهل حينما يتكلم يتكلم بغرور وأبهة واستعلاء ، يتيه على كل من يتكلم معه ، لما يوحيه إليه جهله ، مع أنه ربما كان في أصغر من يسمع منه من يربو عليه آلاف المرات في العلم والمعرفة .
كما يخيل إليه جهله أن الناس عالمهم وجاهلهم ينظر إليه نِظْرة الإعجاب لما يرى من دهشتهم التي بدت على وجوههم ، ولكن ليس إعجاباً مما يقول ، وإنما تعجباً منه كيف يهذي بما يقول .
وهكذا سارت الحياة قديماً وحديثاً ، وقد قال المتنبي :
وإني رأيت الضر أسهل منظراً وأهون من مرأى صغير به كبر
بينما تجد العالم كلما ازداد في العلم ثباتاً ، كلما ازداد بين الناس تواضعاً ، وكلما ازداد بينهم تواضعاً ، ازداد في أعينهم رفعة وبينهم وقاراً .
فيأبى الجهل إلاَّ أن يضع صاحبه بين الناس وإن ترفع بجهله عليهم ، واستسلمنا له ، وأخذنا نطبع أنفسنا لنحملها على قبوله والرضوخ له ، وكأننا نريد تكريسه في أمتنا .
فصرنا شيعاً وأحزاباً ، وكل حزب بما لديهم فرحون ، وضربت الأنانية أطنابها في مجتمعنا – الذي كان يعتبر أعظم المجتمعات الإنسانية في حضارته الاجتماعية وتكافله وتضامنه – وصار كل واحد منا لا يلوي إلاَّ على نفسه ،ولا يبحث إلا عن مصلحته .
وامتلأت قلوبنا بالأحقاد ، حتى صار الواحد منا يحمل من الحقد على الآخرين من أبناء دينه وعقيدته مالا يحمله على أعداء أمته من اليهود والصليبين ، لخلاف فكري ، أو اتجاه حزبي ، أو رغبة في الزعامة والقيادة .
وصرنا بدلاً من أن نلقن الناس مبادئ الحق التي سمونا وسنسمو بها ، صرنا نلقنُهم كيف يحترسون من زيد ، ويحقدون على عمرو ، ويتجنبون فلاناً ، ويطعنون بفلان .
وانقلبنا من أمة قائمة في الليل عابدة ، صائمة في النهار مجاهدة ، إلى أمة نائمة بالليل غافلة ، وعابثة في النهار هازلة، نمضي ليلنا في النقاش هناك كلام ساقط وهو” والجدل ، وفي أمور ربما فرغت أمتنا منها منذ قرون، بما نضيفه إليها من غيبة ونميمة ووقيعة في الآخرين … وننام عن صلاة الفجر التي تعتبر الفيصل بين النفاق والإيمان ، ثم نزعم أننا كنا نجاهد من أجل الدعوة .
إنه لشيء محزن أن نسمع عن بعض المساجد أنها لا تقام فيها صلاة الفجر لولا وجود المؤذن والإمام ، وعن معظم المساجد أنها لا يكتمل فيها صف واحد من الذين كانت تغص بهم في صلاة المغرب وهم يستعدون لقضاء سهرة الجهاد من أجل الدعوة …
وإذا كانت هذه حال من يرتاد المسجد في بعض الأوقات ، فما هي حال من لا يرتاده أبداً … أو لا يصلي … أو لا يعرف الصلاة … ؟
وزاد الأمر على هذا حينما أخذ يكفر بعضنا بعضاً ، ويفسق بعضنا بعضاً ، ويطرد بعضن، بعضنا الآخر من رحمة الله التي وسعت كل شيء إلاَّ أنها ضاقت عند أصحاب الجباه الضيقة عن أن تسع من خالف جهلهم …
وأما الطامة الكبرى فهي أننا عزفنا عن الدين الذي ندعو إليه ، ونقاتل من أجله ، بعزوفنا عن علومه ومعارفه … حتى صرنا متدينين ولكننا نجهل الدين الذي نتدين به ، ودعاة ولكننا لا نعرف الدعوة التي ندعو إليها ، وزاد الأمر على هذا فتجر أنا على الفتوى من غير علم وتخبطنا فيها حتى أحللنا كثيرا مما حرم الله وأحل ، ولم يسعنا هذا فانطلق بعض الناس كالذئاب الجائعة … ولكن لا لينهش أعداء أمته، بل لينهش عظماءها الذين شَرُفَت بهم الأرض، وانتشر بجهودهم الدين، فكنا أكبر معاول الهدم لما تبقى من آثار هذه الأمة العظيمة … فكفينا أعداءنا ما سعوا له من غاية وتسابقوا إليه من هدف .
وهكذا ينقلب الإنسان بجهله إلى أداة تدمير وإفساد ، بدلاً من أن يحقق الغاية التي من أجلها استخلف في الأرض وهي البناء والإرشاد .
* * *
تورع سلف الأمة عن الفتوى
لقد سئل الإمام مالك بن أنس عن أربعين مسألة في دين الله ، فقال في ست وثلاثين منها : لا أدري، قال له السائل : ماذا أقول لقومي إذا رجعت إليهم، وكأنه استكبر هذا القول من مالك … !
فقال له مالك : قل لهم : إن مالك بن أنس يقول : لا أدري …
وتوقف الإمام محمد بن إدريس الشافعي – وهو ناصر الحديث ، وواضع علم الأصول ، والجامع بين طريقتي أهل الرأي والأثر – توقف في سبع عشرة مسألة في الفقه ، فلم يرجح فيها شيئا ، لتزاحم الأدلة ، وتوارد الإحتمالات ، وقد عُد هذا من ورعه وتقواه ، فيما عُد من مناقبه .
ونهى الإمام الأجل أحمد بن حنبل – وهو أمير المؤمنين في الحديث ، يحفظ ألف ألف منه – نهى تلاميذه عن تدوين فقهه ، حتى لا يلزمهم رأيه فعسى أن يوجد فيهم من هو أفقه منه يستنبط كما استنبط ، ويفهم كما فهم .
وكانت المسألة تعرض على جمع من العلماء ، وكل منهم يحيلها على صاحبه حتى ترجع إلى الأول منهم ، يشفق كل واحد منهم من أن يتكلم بالفتوى في دين الله وهناك من هو أولى منه بها ، وخشية الخطأ فيها، على أنهم جميعاً كانوا حفاظاً للحديث ، أرباباً للفكر ، أئمة في علوم الشرع .
بل كانوا سراً من أسرار الله في هذا الدين العظيم ، بذلوا من أجله حياتهم ، واستنفدوا في سبيله طاقتهم ، فحفظه الله بهم، تحقيقاً لوعده ، وإمضاءً لأمره، ولولاهم لكنا اليوم في جهل كامل بديننا.
فجزاهم الله عنا أحسن الجزاء ، وأحسن إليهم ، إذ نقلوا إلينا هذا الدين أصولاً وفروعاً ، نصوصاً واستنباطاً ، دون أن يكون لهم من أجر سوى ما أمّلوه من رحمة ربهم ، ونعم الأجر والثواب .
* * *
انقلاب الموازين العلمية
ودالت دولة الفقه والفقهاء ، وزالت معالم العلم والعلماء ، وأقصي شرع الله عن واقع الحياة ، وغيرت مناهج التعليم في الأمة ، حتى صار الطالب يتخرج من الجامعة وهو لا يلم بلغة دينه وقومه ، ولا يعرف عن تاريخ أمته جزءاً مما يعرفه عن تاريخ عدوه ، وصار يعرف الكثير عن مشاهير الغرب والشرق ، ولكنه لا يعرف القليل عن مشاهير المسلمين ، الذين شرف الوجود بهم، وتعدت علومهم وآثارهم لكل أمم الأرض علاوة عن أمتهم حتى صاروا كالأساطير في أحاديث البشر ، وكانوا للعالم عبرة من العبر، وهكذا قلت المعرفة ، وفشا الجهل ، وظهر الغرور ، واتبع الهوى .
فغيرت المعايير ، وبدلت الموازين ، فَأْتمن الخائن ، وخُوِّنَ الأمين ، وسُئِلَ الجاهل، وتُرِكَ العالم ، يفتي الفقيه فلا تقبل فتواه ، ويتنطع الجاهل فيتسابق أمثاله في هواه … يَضِل ويُضِل .
* * *
ضابط المحدث والفقيه بين الأمس واليوم
لقد صار الإنسان يسمى محدث الديار، وعالم الأمة، وإمام الأئمة، ومجدد الدين، والفقيه الملهم ، إذا حفظ على الناس بضعة أحاديث من أحاديث الرسول r، يموه بها على الناس ، فيكسو الحقَّ ثوب الباطل ، والباطل ثوب الحق .
بينما كان الإنسان في عصور العلم الذهبية لا يسمى محدثاً – مع أنه قرأ البخاري، ومسلماً ، وسنن أبي داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، ومسند أحمد ، البيهقي – إلاَّ إذا ولج الجمل في سم الخياط ، كما قاله الإمام تاج الدين السبكي في كتابه ” معيد النعم ومبيد النقم ” .
قال : وإنما المحدث من عرف الأسانيد والعلل ، وأسماء الرجال ، والعالي والنازل، وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون ، وسمع الكتب الستة ، ومسند أحمد ، والبيهقي ، ومعجم الطبراني ، وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثية ، هذا أقل درجاته فإذا سمع ما ذكرناه ، وكتب الطباق ، ودار على الشيوخ ، وتكلم في العلل ، والوفيات ، والمسانيد ، كان في أول درجات المحدثين، ثم يزيد الله من يشاء ما شاء .ا هـ .
فإذا كان هذا حدَّ المحدث عند المتقدمين ، فما هو حد الحجة ، أو أمير المؤمنين في الحديث ، وماذا يقول أدعياء العصر حينما يجعلون من أنفسهم حكماً ” على ” و ” بين ” أولئك العظماء وضابط الفقيه كضابط المحدث إن لم يكن أشدَّ .
فما كان الناس في الماضي يطلقون كلمة الفقيه على كل عارف لمسائل الفقه ، حافظٍ لمتونه ، قادرٍ على البحث عن الفتوى، وإنما كانوا يطلقون الفقيه على من عرف طرق الاستنباط، وتمرس بها ، وعرف كيف يستعمل الأدلة ويرجح بينها ، وعرف الأشباه والنظائر والفروق والموانع ، وأتقن الفقه وقواعده وأصوله وعرف مواطن الخلاف والوفاق ، وتمرس بلغة العرب شعرِها ونثرها .
فإذا بلغ الإنسان هذا فإنه يكون قد وصل إلى أول درجات الفقه ، ثم يزيد الله بعد ذلك من يشاء ما يشاء .
وإذا كان هذا ضابط الفقيه،فما هو ضابط مجتهد الفتوى،أو مجتهد المذهب،أو المجتهد المطلق (1).
إنه للأمر الذي خفي عن الأذهان ، وغاب عن الواقع ، والذي يجب أن يعرفه أهل العصر للتمييز بين العالم والجاهل ، والحق والباطل .
ومن أراد فهم هذا فليسمع قول أمير المؤمنين في الحديث الإمام أحمد بن حنبل : (( كانت أقضيتنا بأيدي أصحاب أبي حنيفة ما تنزع ، حتى جاء الشافعي فنزعناها منهم ))، وقوله : ((لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث )) .
وقد لامه بعض أصحابه في تتبع مجالس الشافعي ، وتركه لمجلس شيخه ابن عيينة ، فقال له : إنك إن فاتك حديث بإسناد عالي أدركته بإسناد نازل ، ولكن إن فاتك عقل هذا أخشى أن لا تدرك عقلاً كعقله .
وأنا لا أريد بهذا الكلام أن أتكلم عن مناقب الإمام الشافعي ، فهو واحد من مجهدي هذه الأمة رضوان الله عليهم أجمعين، وإنما أريد أن يفهم بعض من دقَّ عليه الفهم الفرقَ بين المحدث والعالم الفقيه .
لقد نادي إمام الحرمين الجويني– رحمه الله – تلميذه حجة الإسلام الغَزاليَّ في يوم من الأيام حينما كان في طلبه للعلم عند إمام الحرمين، ناداه بقوله: يا فقيه، فتمعَّر وجه الغزالي ، وبدا عليه عدم الرضا ، كأنه تقالّ هذه الكلمة عليه ، وأدرك أستاذه هذا وأراد أن يعرفه بالواقع أنه مازال دون هذا اللقب ، وأنه إنما خلعه عليه تفاؤلاً منه لطالبه ، لما كان يرى فيه من أمارات النجابة ، وعلامات النبوغ ، فأخذ بيده ، وقاده إلى غرفة كبيرة ، وأمره بفتح بابها ، وإذا بها مملوءة بآلاف المجلدات ، فقال له : ما قيل لي يا فقيه حتى حفظت هذا كله .
أما اليوم ، فقد تبدلت المعايير وتغيرت المفاهيم ، وصار الإنسان – كما ذكرت – يسمى محدث الديار، وربما زيد له في الألقاب، وهو من أسوأ الناس حفظاً لحديث رسول الله r ،مع جهل مطبق بأبسط قواعد الاجتهاد والاستنباط .
* * *
نهاية ما وصل إليه أمر الجهل والتفيهق
لم يقف أمر التفيهق في التبديل والتغيير، والتحريف والتزوير عندما ذكرته مع الصور، ولو وقف عند هذا لهان، فإن من أسرار هذا الدين أن يفضح كل دَعِيّ فيه …
إلا أن الأمر تجاوز هذا، إذا أصبحنا نرى أناساً لا يجيدون القراءة ولا الكتابة، يخوضون في أحكام الشرع، ويأتون بالعجائب، محرفين لشرع الله، وهادمين لأسسه وقاعدته .
وليت الأمر وقف عند هذا أيضاً، إلاَّ أنه تجاوزه إلى تجهيل السلف، والطعن عليهم وقذفهم بما لا يليق، مما لا يقبله أقران السوء بعضهم في بعض .
تجد احدهم يفتي بما يخالف به كل الأمة، دون أن يشير إليها، وكأنه يترفع عن أن يذكر اسمه معها وقد ملأ الغرور يقينه بأن كل من في الأرض مِنْ حي أو ميت لا يسعه إلاَّ إتباعُه .
ولو أنه ذكر اسمهم معه، وقال: قالت الأمة كذا، وأقول أنا كذا، لشكرنا صنيعه، لأنه رضي لنفسه أن ينزل إلى صف أولئك الأئمة إلاَّ أنه لا يفعل، لأن سحاب الجهل قد غطى على عقله ، فلمع منه برق الغرور، وهطل وابل الهوى ، فخيل إليه أنه لا وزن إلاَّ لما يقول، فهو المصيب والأمة بأسرها مخطئة ولا داعي – فما يسول له جهله – لذكر خطأ الأمة بأسرها مع صوابه .
وأخيراً صار العلماء عقبة في طريق الدعوة كما ذكرت في المقدمة .
ولا ندري ماذا تحمل لنا الأيام القادمة في جعبتها إذا ما استمر الأمر على هذه الحالة من الفوضى العلمية في دين الله .
ولا يسعنا إلاَّ أن نقول ما أوصانا به الله عند نزول المصائب : ” إنا لله وإنا إليه راجعون ” .
روى البخاري ، ومسلم، عن النبي r أنه قال: (( يكون بين يدي الساعة أيام، يرفع فيها العلم ، وينزل فيها الجهل، ويكثر فيها الهرج، والهرج القتل )) .
وقد افتتح الإمام أبو القاسم بن عساكر كتابه (( تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري )) افتتحه بقول r : (( لن تقوم الساعة حتى يلعن آخر هذه الأمة أولها )) .
وإن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأول : “إذا لم تستح فاصنع ما شئت ” .
هم رجال ونحن رجال
في كثير من الحالات تفقد العبارات معانيها، وعند ذلك يصير الكلام يسمع ولا يفهم، وفقدان المعنى، قد يكون بسبب السامع، كمن ينشد شعراً بليغاً أمام عامي جاهل، فإنه لا يطرب له، ولا ينفعل معه، ومن ثم يعرض عنه، وربما كان الكلام الغث عنده أفضل من الكلام البليغ المعجز، أو الموزون المقفى، وفي هذه الحالة يفقد الكلام معناه، وقد يكون فقدان المعنى بسبب المتكلم ، كمن يستشهد بشعر عنترة أو عمرو في الملاحم ، ليدلل به على شجاعته وفروسيته ، وهو عند الناس ممن ترتعد فرائصه، وتخور قواه ، لأدنى هزة ، و أبسط سبب .
فليست العبرة أن يقول الإنسان الكلمة ، ولكن العبرة أن تقع الكلمة موقعها من المتكلم والسامع ، وإلاَّ فهي كما قال المتنبي :
ووضع الندى في موضع السيف بالعلي مضر كوضع السيف في موضع الندى
لقد كان الإمام الشافعي – رحمه الله – من كبار أئمة المسلمين في جميع جوانب العلوم الإسلامية ، دون مدافع أو منازع ، ولقد سما به علمه، حتى فاق أقرانه وأساتذته ومعاصريه والمتقدمين عليه ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
فلم يكن كغيره من العلماء عالماً لغة العرب على نحو ما يعلمه الناس من اللغة، بل كان حجة فيها ، فكان علماء العربية يجلسون إليه ويتنافسون في نقل كلامه، حتى قال عبد الملك بن هشام صاحب المغازي ، وإمام أهل عصره في اللغة والنحو : ” الشافعي حجة في اللغة ” وكان إذا شك شيء من اللغة بعث إلى الشافعي فسأله عنه .
وقال الإمام أبو عبيد : ” الشافعي ممن تؤخذ عنه اللغة ” .
وقال المازني : ” الشافعي عندنا حجة في النحو ” .
وكان الأصمعي على جلالة قدره ، وعلو منزلته في لغة العرب يقول :” صححت أشعار الهذليين على شاب من قريش بمكة ، يقال له : محمد بن إدريس”.
وقال الجاحظ : ” عجبت لهذا المطلبي كأن فاه ينظم دراً إلى در ” .
وقال صاحب القاموس في مادة ” نذر” والنذارة النذير ، في لغة الشافعي .
والى جانب اللغة ، كان إمام المحدثين في عصره وناصرهم ، ولذلك لقب في بغداد بـ ” ناصر الحديث ” .
وحتى قال محمد بن الحسن – رحمه الله – إذا تكلم أصحاب الحديث فبلسان الشافعي .
وقال الزعفراني : كان أصحاب الحديث رقوداً ، فأيقظهم الشافعي .
وقال احمد بن حنبل : ما أحد مس بيده محبرة ولا قلماً ، إلاَّ وللشافعي في رقبته منة .
وقال : ما أعلم أحدا أعظم منة على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي .
وقال: ما كان أصحاب الحديث يعرفون فقه الحديث حتى جاء الشافعي .
وقال لابنه : يا بني … الشافعي كالشمس للدنيا ، والعافية للناس ، فانظر ، هل ترى لهذين من سبيل ؟!
وأما بالنسبة لجمعه للسنة فتكفيه شهادة إمام الأئمة ابن خزيمة إذ قال:” ما أعلم سنة لرسول الله r إلاَّ وضمنها الشافعي كتابه الحجة ” .
وأما الفقه، فهو فيه إمام الدنيا وعالمها، أفتى في عصر أستاذه مالك وبإذنه ، وفي عصر أستاذه مسلم بن خالد الزنجي وبإذنه ، وناظر العلماء ، وأفحمهم، ونشر فقهه في كل مكان ذهب إليه وأملاه ودونه .
وأما علم الأصول ، فهو واضعه ومدونه ، وكل من كتب في أصول الفقه في الإسلام فهو عالة على الشافعي فيه ، وحسبه هذا من المناقب .
ولذلك لما قرأ ابن مهدي إمام المحدثين في عصره أن لما قرأ ” رسالة الشافعي ” في الأصول التزم بالدعاء له دبر كل صلاة حتى مات ، لشدة إعجابه بها ، وكثرة إفادته منها ، ودقة صنع الإمام فيها.
ولا أريد أن أستطرد في الكلام على علوم الشافعي ، فإني لم أسق هذا الكلام لبيان علومه ، فقد صنفت في ذلك المصنفات ، وإنما سقته ليعلم القارئ نبذة عن علوم الإمام الذي قال يوماً ما – وقد ناقش موضوع الاحتجاج بقول الصحابي وفتواه – قال:” نحن رجال وهم رجال، كيف آخذ بقول من لو حاججته لحججته” .
نعم … لقد قال الشافعي هذه الكلمة ، وهو الشافعي ، فلم يحتج بقول الصحابي على تفصيل وضوابط في هذه المسألة ، قال الشافعي هذه الكلمة وهو أهل لأن يقولها ، ولذلك ضج بها علماء عصره ، وهبوا لمناصرته فيها ، وكثير منهم من تبناها ، وصارت إلى يومنا هذا قاعدة عامة من قواعد الشافعي في مذهبه ، والشافعية من بعده .
لقد قال الشافعي هذه الكلمة فحملت معناها كاملاً ، ولكنها ومع الأسف قد ابتذلت في عصرنا هذا حتى فقدت معناها … حينما أصبحت شعاراً يردده الصبية والجهلة يريدون به أن يضعوا أنفسهم في مصاف أئمة المسلمين … والواحد منهم لا يعرف كيف يقرأ القرآن ، أو يفهم الحديث ، وأما علم اللغة أو الفقه أو الأصول فهذا شيء ما خطر له على بال ، فالفاعل عنده منصوب ، والمفعول به مرفوع ، والفعل مجرور ، وأصول الفقه بدعة ، والفقه ما يفهمه هو بهذه العقلية القاحلة ، فهو رجل والأئمة المجتهدون رضي الله عنهم رجال … ؟!
ليس العجيب في أن يتجرأ أحد الجهلة على مثل هذه الكلمة فالتاريخ مليء بمثل هذا، ولكن العجيب أن يصير الجهل شعاراً يتفاخر به الناس . . . ؟ ! ولذلك قال علي كرم الله وجهه ورضي عنه للخوارج حينما قالوا : لا حكم إلاَّ لله ، قال لهم : ((كلمة حق أريد بها باطل )) :
على أنها الأيام قد صرن كلها عجائب ، حتى ليس فيها عجائب
* * *
(1) أنظر كتابنا الاجتهاد وطبقات مجتهدي الشافعية .