أركان القياس ، الأصل وحكمه ، الفرع ، العلة ، ضوابط العلة ، أقسام العلة، شروط العلة
الباب الثاني
في أركان القياس
وفيه فصول :
الفصل الأول: في الأصل وحكمه
الفصل الثاني: في الفرع
الفصل الثالث: في العلة
وفيه ثلاثة مباحث :
المبحث الأول: في شروط العلة وضوابطها
المبحث الثاني: في مسالكها.
المبحث الثالث : في قوادحها .
مقــدمة
سنتكلم في هذا الباب على أركان القياس، وهي الأمور التي لا بد منها لكل قياس حتى يتحقق وجوده، وهي: الأصل، والفرع، وحكم الأصل والعلة.
فالأصل: هو الصورة المقيس عليها ، والتي نص الشارع على حكمها .
والفـرع: هو الصورة المقيسة التي نبحث لها عن حكم إذ لم تندرج تحت نص شرعي.
وحكم الأصل: هو خطاب الله تعالى الوارد على الأصل، والثابت بالمصادر التشريعية من الكتاب، والسنة، والإجماع.
والعـلة : هي الوصف الجامع بين الأصل والفرع بوجوده فيهما، والتي بواسطتها سَنُعَدِّي الحكم من الأصل إلى الفرع .
ومثال ذلك الخمر، والبيرة.
فالخمر أصل ورد فيه الحكم الشرعي بالتحريم في قوله تعالى: ] إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [ وهذا الحكم الشرعي هو حكم الأصل .
وهل تدخل البيرة وهي الفرع الذي نبحث عن حكمه في هذا الحكم مباشرة أم لا ؟
إذا بحثنا عن معنى الخمر وجدنا أنها ما اتخذ من عصير العنب ، قبل أن يتزبَّب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد .
فما اتخذ من غير العنب لا يسمى خمراً بناء على هذا ولا يندرج تحت النص الشرعي المحرِّم للخمر.
فلا بد من مصدر تشريعي آخر سوى النصوص الشرعية، نعرف منه حكم البيرة مثلاً، ألا وهو القياس.
فإذا بحثنا عن علة تحريم الخمر وجدنا أنها الإسكار، فإذا وجدنا نفس العلة في البيرة عدَّينا حكم التحريم من الأصل وهو الخمر إليها، فالخمر أصل، وحكمه التحريم وعلته الإسكار والبيرة فرع .
ولكل ركن من هذه الأركان شروط وضوابط وأوصاف يعرف بها ، مما سنحاول أن نعرفه في الفصول القادمة إن شاء الله .
الفصـل الأول
في الأصل وحُـكمهِ
الأصل في اللغة: ما يبنى عليه غيره.
وأما في الاصطلاح فله معان كثيرة، قد ذكرت أهمها عند الكلام على تعريف أصول الفقه، كالدليل، والراجح، والقاعدة المستمرة، والمراد به هنا : محل الحكم المقيس عليه .
وإنما دمجت الكلام في هذا الفصل بين الأصل وحكمه لشدة التلازم والترابط بينهما، ومن أفرد الأصل بفصل مستقل، كالرازي والبيضاوي مثلاً، ذكر له شروطاً معظمها منصب على حكمه لا عليه من حيث هو، وعندما عكس ابن السبكي الموضوع، وأفرد حكم الأصل بالبحث ذكر أحكاماً متعلقة بالأصل فقط كاشتراط كونه غير فرع ، ولذلك رأيت أن أدمجها معاً في فصل واحد ، لأن الكلام على الأصل لا بد وأن يكون متصلاً بالكلام على حكمه .
ولا بد للأصل وحكمه من شروط يجب أن تتوفر ليصح القياس عليهما، وهذه الشروط هي:(257)
1- أن يكون الحكم شرعيا:
يشترط في حكم الأصل حتى يصح القياس عليه أن يكون شرعياً، إن كان القياس في الشرعيات، بأن أردنا أن نلحق به أمراً شرعي، وأما إذا أردنا أن نلحق به أمراً عقلياً أو لغوياً، فلا يشترط ذلك، على القول بجواز القياس في العقليات واللغويات.
2- أن لا يكون فرعاً لغيره:
يشترط في الأصل أن لا يكون فرعاً لغيره، والمراد به أن لا يكون حكمه ثابتاً بالقياس بل بالنص أو الإجماع، فإن كان حكم الأصل ثابتاً بالقياس، لم يجز أن يقاس عليه.
وذلك لأنه إن كانت العلة واحدة فالقياس إنما هو الأصل الأول، ويصير ذكر الأصل الثاني لغواً لا فائدة فيه، وذلك كقياس الذرة على الأرز في الربا بجامع الطعم، ثم يقاس الأرز على البر بنفس العلة، وهي الطعم المذكور.
وإن كانت العلة مختلفة، بأن استنبط من الأصل الثاني علة غير العلة التي قيس بها على الأصل الأول، لم ينعقد القياس، لعدم الجامع بين الأصل الأول والفرع الثاني.
وذلك كقياس الأرز على البر في الربا بجامع الطعم ، ثم تستنبط من الأرز علة جديدة وهي عدم انقطاع الماء عنه، ويقاس عليه بهذه العلة الجديدة نبات النيلوفر مثلاً .
وإنما منعنا هذا لأننا في هذه الحالة نرد الفرع وهو النيلوفر إلى الأصل ، وهو البر، بغير علة جامعة بينهما .
3- أن لا يكون متعبداً فيه بالقطع:
يشترط في حكم الأصل أن لا يكون متعبداً فيه بالقطع بأن يكون المكلف مكلفاً باعتقاده اعتقاداً جازماً، لأنه إن كان كذلك كان المقيس عليه أيضاً يطلب فيه القطع والقياس لا يفيد إلا الظن غالباً .
4- أن يكون جارياً على سنن القياس:
يشترط في حكم الأصل أن يكون جارياً على سنن القياس وطريقته ، وذلك بأن يكون مشتملاً عل معنى يوجب تعديته من الأصل إلى الفرع ، فإن لم يكن كذلك ، بأن خرج على سنن القياس، فلم يشتمل على المعنى المذكور، لا يقاس على محله، وهو الأصل، لخصوصيته في هذه الحالة، وذلك كشهادة خزيمة رضي الله عنه .
وحاصلها أن النبي r – ابتاع فرساً من أعرابي ، فجحده البيع ، وقال : هلم شهيداً يشهد علي ، فشهد عليه خزيمة بن ثابت ، فقال له النبي r: “ما حملك على هذا ولم تكن حاضراً معنا؟ فقال: صدقتك فيما جئت به، وعلمت أنك لا تقول إلا حقاً فقال- r -:” من شهد له خزيمة، أو شهد عليه فحسبه”.
فقبول شهادة خزيمة، وجعلها قائمة مقام شهادة رجلين لعلة لا يمكن أن توجد في غيره وهي تصديقه وعلمه بأنه – r – لا يقول إلا حقاً، وسبقه إلى فهم حل الشهادة بالإسناد إلى ذلك ، ولذلك لا يجوز أن يقاس عليه غيره .
5- أن لا يشمل حكم الأصل الفرع :
يشترط في دليل حكم الأصل أن لا يكون شاملاً للفرع، لأنه إن كان شاملاً له فلا حاجة إلى القياس حينئذٍ، للاستغناء عليه بالنص.
وذلك كما لو استدل على ربوية البر بحديث مسلم ” الطعام بالطعام مثلاً بمثل ” ثم قيس عليه الأرز بجامع الطعم ،وذلك لأن الطعام يتناول الأرز والبر على السواء، ولا مزية لجعل البر المشمول بالنص أصلاً للأرز المشمول به أيضاً ، ولذلك استغنينا بالنص عن القياس .
6- أن تكون علة الحكم معينة :
يشترط في حكم الأصل أن يكون معللاً بعلة معينة غير مبهمة، لتتميز عن غيرها، فيرد الفرع إليها، إذ لو أبهمت لما تمكنا من ذلك، كما لو قيل: تجب الزكاة في الحلي قياساً على وجوبها في المضروب بالعلة الموجبة للحكم فيه، لأنه لا يوجد فيه تعيين للعلة التي علل بها الأصل، مما يمنع من إجراء القياس، وإلحاق الفرع بالأصل.
7- أن لا يتأخر حكم الأصل عن الفرع:
يشترط في الأصل أن لا يتأخر حكمه عن حكم الفرع، وذلك إذا لم يكن للفرع دليل سوى القياس.
لأنه لو تأخر حكم الأصل عن الفرع في هذه الحالة لكان حكم الفرع ثابتاً من غير دليل وهذا شيء باطل، لأنه يفضي إلى التكليف بما لا يطاق.
وأما إذا كان للفرع دليل آخر سوى القياس ، فإنه يجوز في هذه الحالة أن يتأخر حكم الأصل عن الفرع لأنه يكون حكم الفرع ثابتاً بذلك الدليل الآخر، فإذا جاء حكم الأصل بعده أصبح القياس دليلاً آخر عليه، ولا مانع من اجتماع أدلة على مدلول واحد.
وذلك كقياس الوضوء على التيمم في إيجاب النية ، فإن التيمم متأخر عن الوضوء ومع ذلك فالقياس صحيح ، لأن وجوب النية في الوضوء ليس متوقفاً على القياس ، بل له دليل آخر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام : (( إنما الأعمال بالنيات ))
وهناك شروط أخرى أهملتها لعدم حاجة المبتدئ إليها.
الفصل الثاني
في الفَــــرْع
الفرع في اللغة : ما يبني على غيره .
وفي الاصطلاح : المحل المقيس على الأصل ، أو المشبه به .
ولا بد للفرع أيضاً: كما للأصل، من شروط يجب أن تتوفر فيه، حتى يصح قياسه على الأصل، وهذه الشروط هي:( 258)
1- وجود علة مساوية لعلة الأصل فيه:
يشترط في الفرع حتى يقاس على الأصل أن توجد فيه علة مماثلة للعلة التي علل بها حكم الأصل وتامة.
ويشترط في هذه العلة أن تكون مساوية لعلة الأصل نوعاً، بأن يكون نوعهما واحداً، أو جنساً، بأن يكون جنسهما واحداً.
فمثال تساويهما في نوع العلة ، قياس النبيذ على الخمر في الحرمة ، بجامع الشدة المطربة، وهي الإسكار، فإنها موجودة في النبيذ بعينها نوعاً ، كما هي موجودة في الخمر، لا شخصاً لأن شخص العلة في الفرع غير شخصها في الأصل، وإنما اتحدا نوعاً لاتفاقهما في الحقيقة .
ومثال تساويهما في جنس العلة قياس إتلاف الطرف على إتلاف النفس، في ثبوت القصاص، بجامع الجناية فيهما.
فالجناية جنس لإتلافهما، لأن حقيقة إتلاف الطرف غير حقيقة إتلاف النفس، إلا أنهما داخلتان تحت جنس واحد وهو الجناية فإن انتفت المساواة المذكورة فسد القياس لانتفاء العلة عن الفرع.
2- مساواة حكم الفرع حكم الأصل :
ويشترط في حكم الفرع أن يتساوى مع حكم الأصل، نوعاً أو جنساً، بأن يندرجا تحت نوع واحد، كما بينا في الفقرة السابقة.
فمثال تساويهما نوعاً قياس القتل بمثقل على القتل بمحدد، في ثبوت القصاص، فإنه فيهما واحد بالنوع، والعلة الجامعة كون القتل عمداً عدوانا.
ومثال تساويهما في جنس الحكم، قياس بضع الصغيرة على مالها، في ثبوت الولاية للأب أو الجد، والعلة الجامعة هي الصغر، فإن الولاية جنس لولايتي المال والنكاح المختلفتان في الحقيقة، فإن انتفت المساواة المذكورة، فسد القياس لانتفاء حكم الأصل عن الفرع.
3- أن لا يكون داخلاً تحت نص موافق للقياس:
ويشترط في الفرع حتى يقاس على الأصل أن لا يكون الفرع داخلاً تحت نص موافق للقياس، لأنه إن دخل تحت نص موافق للقياس لم يعد بحاجة للقياس، لاستغنائه بالنص عنه، لأن القياس فرع انعدام النص، فإن وجد النص لم تعد هناك حاجة للقياس لإثبات الحكم ، إلا أنه لا مانع من القياس وإن كان لا يثبت الحكم في هذه الحالة ، لأنه يجوز أن يرد دليلان أو أدلة على مدلول واحد .
4- أن لا يدخل تحت نص مخالف للقياس:
كما يشترط في الفرع أن لا يدخل تحت نص مخالف للقياس، لأننا إذا أبطلنا القياس في حال موافقة النص، ففي حال مخالفته من باب أولى، فالنص مقدم على القياس مطلقاً.
5- أن لا يتقدم على حكم الأصل:
ويشترط في الفرع أن لا يتقدم حكمه على حكم الأصل، إذا لم يكن للفرع دليل سوى القياس، لأنه لو تقدم عليه في هذه الحالة لكان حكم الفرع ثابتاً من غير دليل، وهذا باطل.
وأما إذا كان للفرع دليل آخر سوى القياس، فإنه يجوز في هذه الحالة أن يتقدم حكم الفرع على الأصل، لأنه يكون في هذه الحالة ثابتاً بالدليل الآخر، لا بالقياس، فإذا جاء حكم الأصل بعده أصبح القياس دليلاً آخر عليه، ولا مانع من اجتماع أدلة على مدلول واحد.
وذلك كقياس الوضوء على التيمم في إيجاب النية، فإن التيمم متأخر عن الوضوء، ومع ذلك فالقياس صحيح لأن وجوب النية في الوضوء، المتقدم على التيمم ليس متوقفاً على القياس، بل له دليل آخر، وهو قوله- r – : (( إنما الأعمال بالنيات )) .
6- الدليل على حكمه إجمالاً :
ذهب بعض الأصوليين كأبي هاشم إلى أنه من شرط الفرع حتى يقاس بالأصل أن يكون حكمه قد ثبت بالنص إجمالاً، والقياس إنما يأتي لتفصيله، إلا أن جماهير الأصوليين على خلاف هذا، وأنه لا يشترط النص الإجمالي فيه.
وذلك لأن العلماء من الصحابة وغيرهم قاسوا (( أنت علي حرام )) على الطلاق والظهار والإيلاء، بحسب اختلافهم فيه، ولم يوجد فيه نص ، لا جملة ولا تفصيلا .
الفصل الثــالث
في العِـــلّة
العلة في اللغة : مأخوذة من علة المريض التي تؤثر فيه عادة، ومن الدواعي إلى فعل الشيء، تقول : علة إكرام زيد لعمرو علمه ، وهي اسم لما يتغير الشيء بحصوله .
وفي الاصطلاح: هي الوصف، الظاهر، المنضبط، المعرَّف للحكم.
ومعنى كونها معرفة للحكم: أن الشارع جعلها علامة دالة عليه دون تأثير به، لا بذاتها ولا بجعل الله ، خلافاً لمن زعم ذلك.
فمعنى كون الإسكار علة للتحريم، أنه علامة نصبها الشارع على حرمة المسكر أينما وجد ، كالخمر والنبيذ وغيرهما .
وذلك لأن السكر كان موجوداً في الخمر قبل الحكم الشرعي، ولم يدل على تحريمها، حتى جعله الشرع علة للتحريم وعلامة عليه، ولو كان مؤثراً بذاته كالعلل العقلية لما احتاج لنصب الشارع له علامة .
ومعنى كونه ظاهراً : أي بيناً ، كالطعم في الربويات، والإسكار في الخمر، لا خفياً كالرضى والغضب، فإنهما من أفعال القلوب وقد لا يطلع عليهما، والخفي لا يعرِّف الخفي .
ومعنى كونه منضبطاً: أي يمكن ضبطه لا يختلف باختلاف النِسَب، والإضافات، والقلة والكثرة، وذلك كتعليل قصر الصلاة بالسفر لانضباطه، لا بالمشقة، لعدم انضباطها.
والعلة ترادف السبب، كما مرَّ معنا أثناء الكلام على مباحث الحكم الشرعي الوضعي، يلزم من وجودها الوجود، ومن عدمها العدم.
وهي أم القياس، وأدق مباحثه وأوسعها، ففيها تظهر دقة الأصوليين وبديهة الفقهاء، وبراعة الجدليين وحقيقة العلماء، وهي التي بواسطتها تنتقل الأحكام الشرعية وتعدى من الأصول إلى الفروع.
ولذلك كثر اهتمام الأصوليين والجدليين بها، وتوفرت دواعيهم على رعايتها والعناية بها .
وسأقسم الكلام فيها إلى ثلاث مباحث.
المبحث الأول: في ضوابطها.
المبحث الثاني: في مسالكها.
المبحث الثالث : في قوادحها .
وسوف أوجز في هذه المباحث بما يتناسب مع خطة الكتاب وبما يؤدي الغرض المنشود إن شاء الله .
المبحث الأول
في ضوابط العـــلة
قد ذكرنا في المقدمة أن العلة هي المعرِّف للحكم، دون تأثير فيه، وهذا التعريف عام للعلة من حيث هي.والآن نريد أن نعرف ضوابطها من خلال معرفة أقسامها وشروطها، لنميز ما هو علة مما هو ليس بعلة.
أولا : أقسام العلة
لقد قسم الأصوليون العلة إلى أقسام متعددة لتسهيل حصرها وتيسير ضبطها.(259)
فهي تارة تكون وصفاً ، وتارة تكون حكماً ، وتارة تكون بسيطة ، وتارة تكون مركبة وتارة تكون قاصرة ، وتارة تكون متعدية إلى آخر ما هنالك من الأقسام التي سنذكرها أن شاء الله .
1 – العلة الرافعة الدافعة :
قد تكون العلة رافعة للحكم، وقد تكون دافعة له، وقد تكون دافعة رافعة في وقت واحد، والمعلل في هذه الحالة هو الحكم العدمي، إذ قد يعلل الحكم العدمي بوجود المانع، على معنى أن وجود المانع علة لانتفاء الحكم .
فالعلة الدافعة: هي التي تكون علة في ثبوت الحكم ابتداءً لا انتهاء، وذلك كالعدة، فإنها علة في ثبوت حرمة النكاح ابتداءً على معنى أن عدة الزوج علة لحرمة نكاح غيره وليست علة في ذلك انتهاء، على معنى أن الزوجة إذا وطئت بشبهة لا ينقطع نكاحها من الزوج فهي دافعة غير رافعة .
وإذا كانت العدة علة في ثبوت حرمة النكاح كانت مانعاً من حله ، لأنها وصف وجودي معرِّف نقيض الحكم ، وهذا غير ممتنع كما ذكرنا من أنه قد يعلل الحكم العدمي بوجود المانع، على معنى إن وجوده علة لانتفاء الحكم، وكالعدة الإحرام بحج أو عمرة.
والعلة الرافعة : هي ما كانت علة في ثبوت الحكم انتهاءً لا ابتداء ، وذلك كالطلاق فإنه علة لحرمة الاستمتاع بالزوجة انتهاء، على معنى أن الزوج إذا طلق زوجته حرم عليه الاستمتاع بها ، وليس علة لحرمة الاستمتاع ابتداء ، على معنى أنه لا يمتنع عليه أن يستمتع بها إذا تزوجها بعد الطلاق ، فالطلاق علة رافعة غير دافعة .
والعلة الدافعة الرافعة: هي التي تكون علة في ثبوت الحكم ابتداء وانتهاء، وذلك كالحدث مع الصلاة، فإنه يمنع ابتداءها، كما يمنع دوامها، وكالرضاع المحرم، علة لحرمة النكاح ابتداء ، على معنى أنه يحرم عليه أن يتزوج من بينه وبينها رضاعة فهو في هذه الحالة دافع، وفي نفس الوقت هو علة لحرمته انتهاء، على معنى أنه إذا طرأ رضاع بينه وبين زوجته انقطع نكاحها ، فهو في هذه الحالة رافع .
2 – الوصف الحقيقي والعرفي والشرعي:
قد ذكرنا في تعريف العلة إنها الوصف الظاهر المنضبط، وعرفنا هناك معنى الظهور والانضباط ، والآن نريد أن نعرف أقسام الوصف ، لأنه قد يكون حقيقياً ، وقد يكون عرفياً ، وقد يكون شرعياً ، وقد يكون لغوياً ، وقد يكون عدمياً .
أ – الوصف الحقيقي : وهو ما يتعقل في نفسه دون توقف على عرف أو شرع أو لغة وتدخل فيه الإضافيات، كالأبوة والبنوة، لعدم توقفها على واحد من الثلاثة ، وإن كانت متوقفة على غيرها، وذلك كتعليل ولاية الإجبار بالأبوة.
ومثال الوصف الحقيقي الطعم في الربا ، والإسكار في الخمر .
وتعريف الوصف الحقيقي للحكم، وإن كان لا يعرف إلا عن طريق الشرع، إلا أن هذا لا يمنع أن يكون متعقلا في نفسه.
ب – الوصف العرفي : وهو ما يكون مستفاداً من العرف ، ويشترط فيه أن يكون مضطرداً، لا يختلف باختلاف الأوقات، بأن يوجد في سائرها ، فإذا ما اضطرب، ولم يطرد ، لم يعلل به ، وذلك بأن يوجد في بعضها دون بعض .
ومثال الوصف العرفي الخسة والشرف في الكفاءة في النكاح، وكقولنا في بيع الغائب أن مشتمل على جهالة مجتنبة في العرف.
جـ – الوصف الشرعي: وهو ما يكون حكماً شرعياً، كتعليل جواز رهن المشاع بجواز بيعه.
وقد يكون وصفاً حقيقياً كتعليل الحياة في الشعر بحرمة النظر إليه في الطلاق، وحله بالنكاح، كاليد، تحرم بالطلاق، وتحل بالنكاح.
د – الوصف اللغوي: وهذا بناء على ثبوت اللغة بالقياس، وقد ذكرنا أن الصواب أنه لا قياس في اللغة، ولذلك لا داعي للإطالة بالكلام على الوصف اللغوي، ومثلوه بتعليل حرمة النبيذ بأنه يسمى خمراً، كالمشتد من ماء العنب.
هـ – الوصف السلبي : يجوز أن يكون الوصف المعلل به سلبياً إن كان الحكم المعلول سلبيا ، وذلك كتعليل عدم وقوع طلاق المكره بعدم الرضا، وبطلان بيع الضال بكونه ليس بالمقدور تسليمه.
3 – العلة البسيطة والمركبة:
العلة إما أن تكون بسيطة وهي المعللة بوصف واحد ، كتعليل حرمة الخمر بالاسكار والربويات بالطعم ، وغير ذلك، وإما أن تكون مركبة، من عدة أوصاف، وذلك كتعليل وجوب القصاص بالقتل، العمد، العدوان، لمكافئ، غير ولد، فهذه خمسة أوصاف علل القصاص الواجب بها جميعاً.
والتركيب قد يكون من صفة حقيقية وإضافية، كقولنا : قتل صدر من الأب، فلا يجب به القصاص، فالقتل حقيقي، والأبوة إضافي.
وقد يكون من صفة حقيقية وسلبية، وذلك كتعليل وجوب القصاص بالقتل العمد الذي ليس بحق، فالقتل والعمد، صفتان حقيقيتان، وقوله: ليس بحق صفة سلبية.
وليس للأجزاء التي تركب منها العلة حصر، وقيل: يجب أن لا تزيد عن خمسة.
4 – العلة القاصرة والمتعدية:
العلة المتعدية هي التي توجد في غير المحل المنصوص عليه بالحكم، وذلك كالاسكار فإنه يوجد في المحل المنصوص عليه، وهو الخمر ، ويوجد في غيره كالنبيذ.
وأما العلة القاصرة فهي التي لا توجد في غير المحل المنصوص عليه ، بل تكون قاصرة عليه ، لا تتعداه، وذلك كتعليل ظهورية الماء بالرقة واللطافة ، دون الإزالة وكتعليل الربا في النقدين بالنقدية أو الثمينة .
وقد اتفق العلماء على أن شرط القياس أن تكون العلة متعدية ليتعدى الحكم محل النص إلى غيره ، وهل يجوز التعليل بالعلة القاصرة أم لا ؟
الجمهور على أنه يجوز أن يعلل بالعلة القاصرة، والتعدية شرط للقياس، وليست شرطاً للتعليل، فالتعليل كما يجوز بالمتعدية يجوز بالقاصرة.
وللتعليل بها فوائد كثيرة منها:
1 – معرفة المناسبة بين الحكم ومحله، وهذا أدعى لقبول الحكم، لميل النفس إلى الحكم الذي تعرف فيه وجه المصلحة.
2 – معرف اقتصار الحكم على محل النص، وانتفائه من غيره، وهذا مهم جداً، إذ نمتنع بموجبه عن إلحاق أي أمر بمحلها.
3 – تقوية النص الدال على معلولها .
5 – التعليل بالمحل وجزئه :
ما ذكرناه من التعليل بالوصف الحقيقي، والشرعي، واللغوي، والعرفي، والسلبي، في الفقرة الثانية إنما هو لما كان خارجاً عن محل العلة.
إلا أن التعليل كما يصح بالوصف الخارج عن المحل يجوز أن يكون بالمحل نفسه، وذلك كتعليل حرمة الربا في الذهب والفضة بكونهما ذهباً وفضة.
وكذلك يجوز أن يكون التعليل بجزء المحل أيضاً ، وذلك كتعليل خيار الرؤية في بيع الغائب بكونه عقد معاوضة، أو خيار المجلس في البيع بكونه عقد معاوضة ، فإنَّ عقد المعاوضة جزء محل الحكم وهو البيع .
وكتعليل نقض الوضوء بالخارج من السبيلين، بالخروج منهما، لأن الخروج منهما جزء معنى الخارج منهما، إذ معنى الخارج ، ذاتٌ ثبت لها الخروج.
وإذا كانت العلة هي المحل أو جزأه لم تجز تعديتها ، لأنها في هذه الحالة لا توجد في غير المعلل ، كالقاصرة.
6 – التعليل بالمشتق واللقب :
المشتق إما أن يكون مشتقاً من الفعل، وهو الحدث الواقع بالاختيار من فاعله، لا الفعل النحوي، وهذا يجوز التعليل به، وذلك كالسارق والقاتل والقائم.
وإما أن يكون مشتقاً من صفة – وهي المعنى القائم بالموصوف من غير اختيار منه كالبياض للأبيض ، والسواد للأسود ، من كل صفة لا مناسبة بينهما وبين الحكم، وهذا لا يجوز التعليل به بناء على منع قياس الشبه ، وهذا شبه صوري ، لأنه لا مناسبة فيه، من جلب مصلحة أو درء مفسدة .
وأما التعليل باللقب – والمراد به العلم واسم الجنس الجامد الذي لا ينبئ عن صفة مناسبة تصلح لإضافة الحكم إليها – فلا يجوز التعليل به عند الأكثرين ، وذلك كتعليل تحريم الخمر بأن العرب سمتها خمراً، وذلك لأننا نعلم بالضرورة أن مجرد هذا اللفظ لا أثر له في حرمة الخمر.
7 – التعليل بعلتين :
الجمهور على جواز تعليل الحكم الواحد بعلتين فأكثر، وذلك كتعليل إيجاب الوضوء باللمس والمس، فيمن مس فرج امرأته مثلا، فإن وضوءه ينتقض بالأمرين معاً، ولا يتصور الترتيب فيهما.
وسواء أكانت العلة منصوصة أم مستنبطة ، متعاقبة أم على المعية .
وقيل بعدم الجواز عقلا، وقيل شرعاً، وقيل بالتفصيل بين المنصوصة والمستنبطة .
واحتج من منع مطلقاً بلزوم المحال من التعليل بعلتين، لأن الحكم باستناده إلى كل واحدة من العلتين يستغني عن الأخرى، فيلزم أن يكون مستغنياً عن كل منهما، وغير مستغن عنه، وذلك جمع بين النقيضين، وقيل في الاحتجاج غير ذلك.
والجواب أن هذا إنما يلزم في العلل العقلية وأما العلل الشرعية فلا يلزم منها هذا لأنها معرفات للحكم ، وعلامات عليه ، ولا مانع من اجتماع علامتين ودليلين على مدلول واحد .
وهذا الخلاف إنما هو في تعليل الحكم الواحد بالشخص ، وأما الواحد بالنوع ، فيجوز تعدد علله بحسب تعدد أشخاصه بلا خلاف ، كتعليل إباحة قتل زيد بالردة ، وعمرو بالقصاص ، وبكر بالزنى ، وسعيد بترك الصلاة .
8 – تعليل حكمين بعلة واحدة:
ما ذكرناه في الفقرة السابقة إنما هو في تعليل حكم واحد بعلتين فأكثر، وما هنا في تعليل حكمين فأكثر بعلة واحدة، والصحيح جواز هذا ووقوعه إثباتا ونفياً.
وذلك كتعليل وجوب قطع يد السارق، ووجوب الغرم إذا تلف المسروق بعلة واحدة وهي السرقة، في الإثبات.
وتعليل حرمة الصوم، والصلاة، والطواف، ومس المصحف، ودخول المسجد بالحيض في النفي.
ففي الإثبات أوجبنا حكمين وهما القطع والغرم بالسرقة، وفي النفي نفينا صحة الصوم، والصلاة والطواف بالحيض كما رفعنا جواز مس المصحف ودخول المسجد وحرمناه.
ثانياً: شروط العلة(260)
1 – اشتمالها على حكمة تناسب الحكم :
من شروط العلة حتى يصح الإلحاق بها أن تكون مشتملة على حكمة فيها جلب مصلحة أو دفع مفسدة، تبعث المكلف على امتثال الحكم، كما تصلح شاهداً لإناطة الحكم بالعلة.
وذلك كتعليل حكم القصاص بالقتل العمد العدوان فإن في ترتيب القصاص على القتل العمد العدوان حكمة وهي حفظ النفوس.
فإن الإنسان إذا علم أنه إذا قتل سوف يقتص منه امتنع عن القتل، ولئن أقدم عليه فإنه يقدم عليه وهو عارف بالنتائج وموطن لنفسه عليها وهذه الحكمة تبعث المكلف – من القاتل ، وولي الأمر – على امتثال الحكم ، وهو إيجاب القصاص بأن يمكِّن كل منهما وارث القتيل من الاقتصاص .
كما أن هذه الحكمة تصلح شاهداً لإناطة وجوب القصاص بعلته، وفي هذه الحالة نلحق القتل بمثقل بالقتل بمحدد في وجوب القصاص، لاشتراكهما في العلة المشتملة على الحكمة المذكورة.
ولذلك إذا وجد مانع يخل بالحكمة اسقط العلة ومنعها، وذلك كالدَّين المستغرق على القول الضعيف بأنه يمنع وجوب الزكاة.
وذلك لأن وجوب الزكاة مترتب على بلوغ المال نصاباً، وهو علة الوجوب ، ومشتمل على حكمة وهي الاستغناء بمِلك هذا النصاب ، فإذا ما كان مالك النصاب مدينا بمثله اختلت الحكمة وهي الغنى، وصار بحاجة للمال من أجل الوفاء بالدين ومن ثم امتنعت العلة ولم يترتب عليها حكمها وهو وجوب الزكاة على هذا القول المرجوح .
وقد يقال: ما فائدة التمثيل به مع أنه قول ضعيف، قلنا: إن التمثيل به ليس من أجل العمل، وإنما ليتضح المراد، ويفهم المقصود، على أن الدين المستغرق مانع من وجوب الزكاة عند بعض الأئمة.
ومن أمثلة التعليل بعلة مشتملة على الحكمة تعليل تحريم الخمر بالإسكار ، فإن في ترتيب التحريم على الإسكار حكمة ، وهي حفظ العقول وهي صالحة لأن تكون شاهداً لإناطة التحريم بكل مسكر .
وتعليل قصر الصلاة بالسفر، فإن في ترتيب جواز القصر على السفر حكمة وهي دفع المشقة التي اشتمل عليها السفر.
التعليل بنفس الحكمة:
قد عرفنا أنه لا بد للعلة من حكمة تشتمل عليها، إلا أنه هل يجوز أن يعلل الحكم بنفس الحكمة، على معنى أن تكون الحكمة هي العلة ؟
الصحيح أنه لا يجوز أن تكون الحكمة هي العلة ، لأنها غير منضبطة ، لاختلاف مراتبها باختلاف الأشخاص والأحوال، وليس كل قدر منها يوجب الترخيص، وإلا لسقطت العبادات ، وتعيين القدر المراد منها الذي به يناط الحكم متعذر، ولذلك نيطت الأحكام بوصف ظاهر منضبط مشتمل عليها .
وذلك كالمشقة ، فإننا لو جعلناها علة لأدى هذا إلى اضطراب الأحكام، لأن ما يكون مشقة لزيد ، لا يكون مشقة عند عمرو وما كان مشقة في الصيف قد لا يكون مشقة في الشتاء .
ولأن المقيم الذي يعمل بالأعمال الشاقة كتعبيد الطرق، والحفر في المناجم يجد من المشقة مالا يجده المسافر بالطائرة.
فلو جعلنا مطلق المشقة علة لسقطت التكاليف عن الناس، لأنه ما من عمل إلا وفيه مشقة.
ولو قلنا: أن المراد به القدر الفلاني من المشقة لكان ترجيحاً من غير مرجح، فلا سبيل إلى معرفة القدر المطلوب، ولذلك نيطت الرخصة بالسفر المشتمل على المشقة .
التعليل بما لا يطلع على حكمته:
وهل يشترط في الحكمة أن نطلع عليها، أو تكفي غلبة الظن بوجودها، فنصحِّح العلة، ونلحق بها، وإن لم نطلع على الحكمة ؟
الصحيح أنه يجوز التعليل بما لم يطلع على حكمته ، وذلك كتعليل حرمة البيع في الربويات بالطعم، لأنه يغلب على الظن أنه لا تخلو علة عن حكمة، سواء أطلعنا عليها أم لم نطلع.
2 – أن تكون متعدية :
ومن شروط العلة حتى يصح الإلحاق بها أن تكون متعدية محل الحكم، بأن توجد في غيره، لما مرَّ معنا من أن العلة القاصرة وإن كان يجوز التعليل بها، إلا أنه لا يلحق بها غيرها.
3 – أن لا يكون ثبوتها متأخراً عن حكم الأصل:
ومن شروط الإلحاق بها أيضاً أن لا يتأخر ثبوتها عن ثبوت حكم الأصل ، بأن يكون ثبوتها مبنياً على ثبوته، لأنه حينئذ لا توجد في الفرع إلا بعد ثبوت حكم الأصل له ونحن إنما نريد إلحاق الفرع بالأصل بواسطتها، وذلك قبل ثبوتها في الفرع لا يمكن .
مثال ذلك قولنا: عَرَق الكلب نجس، كلعابه، بجامع استقذار في كل، فإن الاستقذار وهو العلة الجامعة إنما ثبت بعد ثبوت نجاسته في كل جزء من أجزائه.
فالحكم وهو النجاسة ثبت في الأصل والفرع قبل ثبوتها ومعرفتها.
4 – أن لا تعود على الأصل بالإبطال:
اتفق القائلون بالقياس على أنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يعود عليه بالتعميم، بل هذه هي حقيقة القياس.
كاستنباط الإسكار من تحريم الخمر، مما عاد عليه بالتعميم فألحق به كل مسكر .
كما اتفق جمهور الأصوليين خلافاً للحنفية على عدم جواز استنباط علة من النص تعود على ظاهره بالإبطال.
لأن النص هو منشؤ العلة ، فإذا عادت عليه وأبطلته ، كان إبطالها له إبطالاً لها.
وذلك كقوله – r -: (( في أربعين شاة شاة )) فإنه لا يجوز أن يقال فيه: إن العلة في إيجاب الشاة، إنما هو إناء الفقير ودفع حاجته، وهذا بالنقد أتم منه في الشاة، وحينئذ يجوز إخراج القيمة بدلاً من إخراج الشاة ، لأننا لو استنبطنا هذه العلة وهذا المعنى من وجوب الشاة لأدَّى إلى عدم وجوبها، لجواز الانتقال في هذه الحالة إلى القيمة بدلاً عنها .
العودة على النص بالتخصيص :
عرفنا أنه يجوز أن يستنبط من النص معنى يعود عليه بالتعميم، وأنه لا يجوز أن يستنبط منه معنى يعود عليه بالإبطال وهل يجوز أن يستنبط منه معنى يعود عليه بالتخصيص. ؟
الصحيح من أقوال الأصوليين وتطبيقهم أنه لا مانع منه، لأنه لا يوجد فيه إبطال للنص، وإنما هو تخصيص له، والتخصيص كما يجوز بالشرع يجوز بالعقل، كما مرَّ معنا في مباحث التخصيص.
وذلك كعدم النقض بلمس المحارم وإن كان داخلاً في عموم قوله تعالى:
﴿ أو لا مستم النساء ﴾ لأن العلة باللمس إنما هي ثوران الشهية المقضية إلى خروج المذي من الإنسان وهو لا يعلم وذلك مفقود في المحارم، فلذلك خصصنا النص وقلنا: إن لمس المحرم لا ينقض الوضوء .
ومن أمثلة ذلك الولي المجبر في النكاح، هل يجب عليه استئذان من زالت بكارتها بغير وطء، كما لو زالت بقفزة، أو خشبة، أو أصبع، أم لا ، بل حكمها حكم الأبكار، وإن كانت داخلة في عموم قوله – r – : (( الثيب أحق بنفسها ، والبكر تستأذن )) ؟
فإن علة التفرقة بين البكر والثيب إنما هو الاختلاط بالرجال ومعرفتها بالأمور وزوال ما عند البكر من الحياء، وذلك مفقود فيمن زالت بكارتها بغير الوطء، وبناء على ذلك فإنا نجري عليها حكم الأبكار، ونخصص النص بهذه العلة.
5 – أن لا تكون المستنبطة معارضة بمعارض:
وإنما خصصنا الكلام على العلة المستنبطة، لأن العلة المنصوصة لا تقبل المعارضة فقد ألغاها النص وأبطلها .
وحاصل هذا الاشتراط أنه لابد في المستنبطة أن لا يكون معها في الأصل وصف يصلح للتعليل، ويكون مقتضاه منافياً لمقتضى علة المعلل، بأن يقتضى أن يكون حكم الأصل غير المنصوص عليه .
وذلك كما لو قيل في صوم رمضان إنما وجب التبييت المأخوذ من قول النبي – r -: (( من لم يبيت النية فلا صيام له )) لأنه صوم واجب، فيحتاط له.
فيقال: هو صوم لا يقبل وقته غيره، فلا دخل للاحتياط فيه.
فهذا المعارض منافٍ لحكم الأصل، وحينئذ لا يصح إلحاق غير رمضان به في وجوب التبييت للاحتياط، لمعارضته بالعلة الأخرى، بل لا بد من التعليل بعلة غير معارضة، فإن وجدت في غيره ألحق بها، وإلا فلا.
6 – أن لا تخالف نصاً أو إجماعاً:
ومن شروط الإلحاق بالعلة أن لا تخالف نصاً أو إجماعاً، لأن النص والإجماع مقدمان على القياس، فإذا خالف الإلحاق بها نصاً أو إجماعاً بطل.
فمثال مخالفة النص قول الحنفي المرأة مالكة لبضعها، فيصح نكاحها بغير إذن وليها، قياساً على بيع سلعتها.
فإنه مخالف لحديث أبي داود وغيره : (( أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها ، فنكاحها باطل )) .
ومثال مخالفة الإجماع قياس صلاة المسافر على صومه في عدم الوجوب بجامع السفر لما فيه من المشقة ، فكما جاز للمسافر ترك الصيام وقضاؤه ، يجوز له ترك الصلاة ثم يقضيها بعد إقامته، إلا أن هذا مخالف للإجماع على وجوب أدائها على المسافر .
7 – أن لا تتضمن زيادة على النص:
ويشترط في الإلحاق بالعلة أن لا تتضمن زيادة على النص الدال عليها في حال استنباطها من حكم الأصل، بأن يكون النص الدال على العلة متنافياً مع هذه الزيادة في المستنبطة.
فإنه لو أثبت الحكم في الفرع على ما اقتضته الزيادة المستنبطة من حكم الأصل لزم نسخ نص العلة بالاستنباط، والنص لا ينسخ بالاجتهاد.
وذلك كما لو نص على أن عتق العبد الكتابي لا يجزئ لكفره، فيعلل بأنه عتق كافر يتدين بدين.
فهذا القيد وهو قولنا: يتدين بدين، ينافي حكم النص المفهوم منه، وهو إجزاء عتق المؤمن المفهوم من المخالفة ، وعدم إجزاء المجوسي المفهوم بالموافقة الأولى .
8 – أن تكون معينة :
ومن شروط الإلحاق بالعلة أن تكون معينة غير مبهمة، لأن العلة هي أساس التعدية التي تحقق القياس الذي تستدل به، ويجب أن يكون الدليل ليستدل به معينا، فكذلك أساسه المحقق له، وهو العلة، يجب أن يكون معينا.
9 – أن لا يتناول دليلها حكم الفرع:
ويشترط في الإلحاق بالعلة أن لا يتناول دليلها حكم الفرع بعمومه أو خصوصه ، لأنه لو تناول الفرع أثبت فيه الحكم ، ولم نعد بحاجة إلى القياس .
مثال تناول دليلها الفرع بعمومه حديث مسلم في الربويات : (( الطعام بالطعام ، مثلاً بمثل )) فإن هذا الحديث دال على أن علة التحريم هي الطعم ، وهو شامل لتحريم التفاضل في كل مطعوم ، من التفاح والسفرجل وغيرهما ، وحينئذ فلا حاجة إلى قياس التفاح على البر بجامع الطعم ، للاستغناء عنه بعموم النص الدال على العلة .
ومثال تناول دليلها الفرع بخصوصه قوله – r – :(( من قاء أو رعف فليتوضأ )).
فإنه دال على علية الخارج النجس في نقض الوضوء، فلا حاجة للحنفي حينئذ إلى قياس القيء أو الرعاف على الخارج من السبيلين في نقض الوضوء بجامع الخارج النجس، للاستغناء عنه بخصوص الحديث.
هذا وهناك شروط أخرى لصحة العلة ، أو صحة الإلحاق بها أعرضت عنها تمشياً مع منهج الكتاب في الإيجاز والاختصار .
(257) المستصفى : 2 / 325 ، الأحكام : 3 / 278 ، المحصول : 5 / 481 ، جمع الجوامع : 2 / 212
( 258) جمع الجوامع : 2 / 222 ، المحصول : 5 / 497 ، المستصفى : 2 / 330
(259) جمع الجوامع : 2 /233 ، الأحكام : 3 / 288 ، المستصفى : 2 / 335 ، المنخول :
392 .
(260) الأحكام: 3 / 288، المحصول: 5 / 381، جمع الجوامع: 2 /236.