أنواع الإجماع ،إجماع الصحابة، التابعي يدرك الصحابة، إجماع الراشدين والشيخين والأئمة الأربعة …، أنواع الإجماع ، حكم خارق الإجماع …
البــاب الثـالـث
في أنواع الإجمــاع وأحكامه
وفيه فصلان :
الفصل الأول : في أنواع الإجماع .
الفصل الثاني : في أحكام الإجماع .
الفصـل الأول
في أنواع الإجـماع
ونعني بأنواع الإجماع في هذا الفصل، الصور التي يمكن أن يتمثل فيها الإجماع، سواء أكانت مقبولة أم مردودة.
وتعدد صور الإجماع إما أن يكون بسبب المجمعين كإجماع الصحابة وأهل المدينة أو الحرمين وما شابه هذا، وإما أن يكون بسبب كيفية الإجماع، من القول، أو الفعل، أو السكوت.
1 – إجماع الصحابة:(229)
اتفق القائلون بحجية الإجماع على حجية إجماع الصحابة ، لما لهم من الخصوصيات والمزايا، مع إمكان حصرهم، أو حصر المجتهدين منهم .
إلا أن هذا لا يعني أن الإجماع مختص بهم، دون غيرهم من أهل العصور الأخرى، فالصحابة وغيرهم في حجية الإجماع سواء.
فكما يحتج بإجماعهم، يحتج بإجماع غيرهم، في كل عصر من العصور، ما دام المجمعون من المجتهدين.
وما زعمه داود الظاهري من اختصاص الإجماع بهم ، وانحصاره فيهم ، تحكم لا دليل عنه .
إذ العبرة أولاً وأخيرا بصفة الاجتهاد، دون النظر إلى العصر أو المزية الخاصة، فحيثما وجد المجتهدون مجمعين، وجد الإجماع، وحيثما خالف الواحد منهم، انخرم الإجماع، أيًّا كانت طبقة هذا المخالف مادام معاصراً للمجمعين.
2 – التابعي يدرك الصحابة:(230)
وبناء على ما ذكرناه من عدم اختصاص الإجماع بالصحابة – رضوان الله عليهم – إذا أدرك التابعي المجتهد عصر الصحابة ،وجب أن يعتبر رأيه في الإجماع ، فلا يتم إلا بموافقته، لأنه مجتهد، وشرط الإجماع أن يوافق فيه جميع المجتهدين، فإن خالفهم انخرم الإجماع ولم ينعقد .
هذا إذا أدرك التابعي الصحابة مجتهداً وقت إجماعهم وأما إذا أدركهم بعد أن أجمعوا، فالصحيح أنه لا يعتبر وفاقه، بناء على عدم اشتراط انقضاء العصر لثبوت الإجماع، ولأنهم عندما أجمعوا كان إجماعهم صحيحاً لم يخالف فيه مجتهد.
3 – إجماع الراشدين والشيخين والأئمة الأربعة:(231)
كما لا يختص الإجماع بالصحابة – رضوان الله عليهم – لا ينعقد بالخلفاء الراشدين ، ولا ينعقد بالشيخين أبي بكر وعمر، ولا بأهل البيت ، علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين، ولا يعتبر إجماعهم حجة إذا خالفهم بقية المجتهدين المعاصرين .
وكذلك لا يعتبر اتفاق الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة إجماعاً لأنهم بعض المجتهدين.
4 – إجماع أهل المدينة:(232)
ذهب الإمام مالك رضي الله عنه إلى أن إجماع أهل المدينة حجة، ومن ثم قدمه على خبر الواحد إذا عارضه.
وقد اختلف في المراد بأهل المدينة، فقيل: الصحابة والتابعون، وقيل: الفقهاء السبعة، وهم فقهاء المدينة، وقيل غير ذلك، كما اختلفوا في المعنى المراد من الحجة فقيل أن روايتهم متقدمة على رواية غيرهم، وقيل: هذا خاص في المنقولات المستمرة، كالأذان، والإقامة، وقيل غير ذلك.
والصواب الذي عليه الجماهير ، هو أنه ليس بحجة ، وذلك لأنهم ليسوا كل الأمة ، وإنما هم بعضها ، وأهل المدينة وغيرهم سواء ، والبقاع لا تعصم ساكنيها .
وإذا كنا لم نجعل إجماع الصحابة حجة إذا خالفهم بقية المجتهدين في عصرهم، فلأن لا يكون إجماع أهل المدينة حجة من باب أولى، ولنا إلى هذا الموضوع رجعة وتفصيل إن شاء الله في بحث الأدلة المختلف فيها في الكتاب الخامس .
وكإجماع أهل المدينة إجماع غيرهم من أهل الحرمين، والمصرين البصرة والكوفة.
5 – الإجماع الفعلي:(233)
وهو أن يطبق مجتهدو عصرٍ على فعل ما من الأفعال ، فإن من يرى هذا ، أو يعلمه يقطع بجواز ما أقدموا عليه من الفعل المذكور ، إذ لو لم يكن جائزاً لورد عليه الإنكار ولو من واحدٍ منهم ، فكونهم أطبقوا على الفعل يدل دلالة قاطعة على جوازه .
وأما ما وراء الجواز من الندب، أو الوجوب، فإن هذا لا يستفاد من إطباقهم على الفعل المذكور، لاحتماله لكل من الأمور الثلاثة، والجواز متيقن، والندب والوجوب مشكوك فيهما، والأصل براءة الذمة.
ولذلك لا بد للإجماع الفعلي من ضميمة القول أو القرينة ليستفاد منه ما وراء الجواز من الندب أو الوجوب والله أعلم .
6 – الإجماع السكوتي:(234)
وهو أن يذكر بعض المجتهدين حكما، أو يفتي بمسألة، ويعلم جميع المجتهدين بهذا، فيسكتون عليه، ولا يظهر منهم إنكار له، أو إقرار به.
فهل يكون سكوتهم هذا إجماعا ، أم لا يكون ؟
اختلف الأصوليون في هذه المسألة على أقوال، الصحيح منها أنه إجماع صحيح، إلا أنه تارة يفيد الظن، وتارة يفيد القطع، تبعاً للضوابط التي سأذكرها.
فهو يفيد القطع بشروط :
1 – أن يعلم أنه قد بلغ جميع المجتهدين المعاصرين، وانتشر فيهم، ولم يبد أحد منهم إنكاراً له، فإذا علم أنه لم يبلغ الجميع، فإنه لا يكون إجماعاً قطعا.
2 – أن تظهر علامة الرضا على الساكتين.
3 – أن يمضي على سماعهم الفتوى أو الحكم زمن يتمكنون فيه عادة من النظر، باستحضار الأشباه والنظائر، ونظر الفروق والموانع، ومراجعة الأدلة وغير ذلك.
4 – أن تتكرر الفتوى على مدى الزمان الطويل، ومع ذلك لا يبدي أحد من المجتهدين الذين سكتوا خلافاً لما سكت عنه.
وأما إفادته للظن فبالشروط الآتية :
1 – أن يبلغ الجميع ، ويسكتوا عليه .
2 – أن يمضي زمن يمكنهم فيه النظر .
3 – أن لا تتكرر الواقعة.
4 – أن لا تظهر على الساكتين علامة سخط ولا رضا.
فإن سكوتهم في مثل هذه الحالة يظن منه موافقتهم على الحكم عادة .
هذا ويشترط في المسألة التي تكون فيها الفتوى، ويعتبر سكوتهم فيها إجماعاً أمور:
1 – أن تكون من المسائل التكليفية ، فإن لم تكن من المسائل التكليفية ، نحو زيد أفضل من عمر ، فلا يكون سكوتهم إجماعا ، لأنه لا داعي يدعوهم للكلام أصلا .
2 – أن لا تكون المسألة من المسائل القطعية ، لأن الأمر لا يحتاج في هذه الحالة للكلام أيضا وإنما سكتوا لبداهة الحكم في المسألة .
3 – أن تكون الفتوى والسكوت قبل استقرار المذاهب الفقهية ، فإن كان السكوت بعد استقرار المذاهب ، كما لو أفتى الشافعي بنقض الوضوء من لمس المرأة ، لا يعتبر سكوت المجتهدين إجماعا ، لأنهم أنما سكتوا لعلمهم بأنه إنما يفتي بمضمون المذهب المستقر ، لا باجتهاد جديد يحتاج للنظر والجدل .
7 – إجماع الأمة على الردة:(235)
من الممتنع شرعاً أن يرتد جميع الأمة ، بأن يجمعوا على الردة ، وذلك للأدلة الدالة على عصمة الله هذه الأمة من الاجتماع على الخطأ والضلال ،مما ذكرناه في حجية الإجماع، والردة أكبر ضلال يمكن أن يرتكب، فالقول بجواز الاجتماع عليها، مناقض للنصوص الشرعية الواردة في عصمتها عن ذلك ، أعاذنا الله وجميع المسلمين من الضلال بعد الهدى ، والكفر بعد الإيمان .
8 – اتفاق الأمة على جهل ما لم تكلف به:(236)
يجوز على الصحيح أن تشترك الأمة بأسرها في عدم العلم بشيء لم تكلف به ، كالتفضيل بين عمار وحذيفة عند الله تعالى ، لأنه لا محذور في ذلك ، إذا لا يوجد في عدم العلم بما لم يكلفوا به خطأ يتنافى مع عصمتهم إذ العصمة في اتفاقها على ما كلفت به ،وهذا يستحيل عليها جهله .
9 – قول القائل لا أعلم خلافا :
إذا قال أحد الأئمة في مسألة من المسائل : لا أعلم خلافاً في جوازها ، أو عدمه ، فالصحيح أن هذه الكلمة لا تدل على الإجماع في المسألة ، وذلك لجواز أن يكون هناك خلاف إلا أنه لم يعلمه ، ومع هذا الاحتمال ، لا تكون هذه العبارة دالة على الإجماع .
على أن الوقائع تؤيد هذا ، فكم من عبارة ذكرت في هذا المعنى ، وذكر بجانبها الخلاف في كتب المتأخرين ، وربما اعتذروا عن قائلها بأنه لم يبلغه الخلاف ، أو أنه بلغه إلا أنه لم يعتبره، أو غير ذلك مما لا يخفى على الناظر في كتب الفقه والخلاف .
الفصل الثاني
في أحكام الإجمــاع
1 – حكم خارق الإجماع:(237)
بما أن الإجماع مصدر من مصادر التشريع الأساسية، يعتبر خرقه حراما، شأنه في ذلك شأن بقية المصادر الرئيسية الأخرى.
وهذه الحرمة عامة في كل إجماع معتبر، وليست خاصة بإجماع دون إجماع، فحيثما وجد الإجماع، وجدت الحرمة بخرقه، لأنه إتباع لغير سبيل المؤمنين، توعَّد الله عليه.
إلا أن هذه الحرمة تتفاوت بتفاوت الإجماع في الثبوت والشهرة ، فإن كان الإجماع ظنياً كالإجماع السكوتي أو الإجماع الذي ندر فيه المخالف ، فخرقه لا يعدو الحرمة والفسق .
وإن كان قطعياً كالإجماع القولي وغيره فله حالات هي :
1 – أن يكون الحكم المجمع عليه معلوماً من الدين بالضرورة بحيث لا يخفى على أحد، سواء أكان عالماً أم ليس بعالم، كوجوب الصلاة والصوم والحج، والزكاة وحرمة السرقة والزنا والخمر وفي هذه الحالة يكون جاحده كافراً قطعا باتفاق العلماء ،وما ورد عن بعضهم مما ظاهره وقوع الخلاف في كفره إنما هو فيما لم يعلم من الدين بالضرورة لأنه جحد أمراً غير قابل للجحود ، ولا التشكيك ، وجحوده هذا يؤدي إلى تكذيب الشارع ، وإبطال الشرع .
والشرط في هذا الإجماع ليكفر جاحده أن يكون مشهوراً معلوماً في محل من جحده ، بحيث ينسب في جهله به إلى التقصير والإهمال .
2 – أن يكون الحكم المجمع عليه غير معلوم من الدين بالضرورة، إلا أنه مشهور بين الناس، منصوص عليه كحل البيع، وحرمة الربا وما أشبه ذلك، فالأصح عند الجمهور أن جاحده يكون كافرا.
3 – أن يكون الحكم المجمع عليه خفياً، لا يعرفه إلا الخواص من الناس، كفساد الحج بالجماع قبل الوقوف بعرفة ،وكاستحقاق بنت الابن السدس من بنت الصلب، وفي هذه الحالة لا يكفر جاحده لخفائه وعدم شهرته ، وليس فيه إلا الحرمة ، لعمومها في خرقه مطلقا، والله اعلم .
2 – الخرق بإحداث قول ثالث:(238)
إذا تكلم المجتهدون في مسألة، واختلفوا فيها على قولين، واستقر الخلاف، فهل يجوز لمن يأتي بعدهم أن يحدث قولاً ثالثاً في المسألة أم يعتبر إحداث القول الثالث الذي لم يقل به المجمعون خرقاً للإجماع، فيحرم إحداثه ؟
فيه خلاف، والصحيح التفصيل في القول الثالث بين ما إذا كان رافعاً لما أجمعوا عليه أو غير رافع.
فإن كان القول الثالث رافعاً لما أجمعوا عليه فهو خرق للإجماع لا يجوز إحداثه، وذلك كتوريث الجد مع الأخوة ، إذ ذهب بعضهم إلى أنه يشارك الأخ في الميراث وذهب بعضهم إلى أنه يحوز المال كله ، ويسقط الأخوة ، وعلى هذين القولين تم الإجماع ، فلو قال قائل بإسقاط الجد بالأخوة ، لكان محدثاً لقولٍ ثالث لم يقل به واحد من الفريقين ، ولكان هذا حراما ، لأنه خرق للإجماع ، إذ رفع أمراً مجمعاً عليه .
وإن كان القول الثالث غير رافع لما أجمعوا عليه ، فهو جائز ، ولا خرق فيه ، وذلك كفسخ النكاح بأحد العيوب الخمسة ، إذ ذهب بعضهم إلى جواز فسخ النكاح بأحد العيوب الخمسة ، وقيل : لا يجوز الفسخ بشيء منها ، فلو قال قائل بالفسخ في بعض العيوب دون بعض ، لما كان خارقاً للإجماع ، لأنه لم يرفع ما أجمعوا عليه ، بل هو موافق لكل من الفريقين في بعض مقالته .
ومن هذا القبيل أكل الحيوان المذبوح بدون تسمية ، إذ ذهب بعض المجتهدين إلى أن أكله جائز مطلقاً ، سواء أكان ترك التسمية عمداً أم سهواً ، وعليه الشافعي ، وذهب بعضهم إلى حرمة الأكل منه مطلقاً،سواء أكان ترك التسمية سهواً أم عمداً ، وقال أبو حنيفة يحل متروك التسمية سهواً لا عمداً ، وهذا إحداث قول ثالث ، إلا أنه ليس خرقاً لما أجمعوا عليه ، لأنه لم يرفع الحكم السابق ، وإنما وافق كلا من الفريقين في بعض مقالته .
3 – الخرق بالتفصيل فيما لم يفصل به:(239)
هذه المسألة كالمسألة السابقة إجمالا ، وخلاصتها أنه إذا اختلف المجتهدون في مسألتين على قولين ، فذهبت طائفة منهما إلى حكم واحد فيهما ، وذهبت الطائفة الأخرى إلى حكم آخر ، فهل يجوز لمن بعدهما أن يأخذ بقول أحدهما في مسألة ، وبقول الآخر في المسألة الأخرى .
في المسألة تفصيل وخلاف، وحاصله: أن المجمعين أما أن ينصوا على التسوية وعدم الفرق بين المسألتين ، أو لا ينصوا .
فإن نصوا على التسوية وعدم الفرق بين المسألتين، بأن قالوا: لا فرق بين هاتين المسألتين في الحكم الفلاني، أو في كل الأحكام، فلا يجوز إحداث تفصيل بينهما، لأن فيه خرقاً لما أجمعت عليه الأمة من التسوية بين المسألتين.
وإن لم ينصوا على التسوية وعدم الفرق، فإما أن ينصوا على اتحاد العلة في المسألتين أو لا ينصوا.
فإن نصوا على اتحاد العلة بين المسألتين ، لم يجز أيضاً التفصيل بينهما ، لأن النص على اتحاد العلة في حكم المسألتين جارٍ مجري النص على عدم الفصل بينهما ، فمن فصل فيهما ، فقد خالف ما اعتقدوه .
وذلك كالقول بتوريث العمة دون الخالة، أو العكس، فقد خرق الإجماع على اتحاد العلة المقتضى لاتحاد الحكم، إذ يلزمه في هذه الحالة أن يعلل تعليلاً جديداً خلاف ما علل به المجتهدون.
وإن لم ينصوا على اتحاد العلة في المسألتين ، إلا انه لم يوجد في الأمة من فرق بينهما ، فإنه يجوز في هذه الحالة التفصيل والتفريق ، إذ ليست فيه مخالفة لما أجمعوا عليه ، وغاية الأمر أنه وافق كلا من الفريقين في بعض ما ذهب إليه .
وذلك كوجوب الزكاة في مال الصبي ، دون الحلي المباح ، على ما ذهب إليه الإمام الشافعي رضي الله عنه، والحال أن الأمة قد اختلفت في المسألتين على قولين ، فذهب بعضهم إلى وجوب الزكاة فيهما ، وذهب بعضهم إلى عدم وجوبها فيهما ، إلا أنهم لم ينصوا على التسوية بينهما أو اتحاد العلة فيهما ، فتفصيل الشافعي بينهما في هذه الحالة ، ليس فيه خرق للإجماع ، بل هو موافق لكل من الفريقين في بعض قوله .
والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها: أن هذه المسألة مفروضة في مسألتين اتحد حكمهما، فلا يجوز إحداث قول ثالث يفصل بينهما، وتلك مفروضة في مسألة واحدة اختلف فيها على قولين، فلا يجوز إحداث ثالث فيها: على التفصيل الذي ذكرناه فيهما.
4 – الإجماع بعد الخلاف:(240)
إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين، فهل يجوز الاتفاق على أحدهما وإسقاط الآخر، ويصير المتفق عليه إجماعا؟
في المسألة خلاف وتفصيل، وذلك لأن الاتفاق إما أن يكون من نفس المجمعين، أو من غيرهم.
فإن كان من نفس المجمعين ، بأن اختلفوا في المسألة ، ثم اتفقوا هم أنفسهم على أحد القولين المختلف فيهما، فالصحيح جواز الإجماع في هذه الحالة ، سواء استقر الخلاف بأن طال الزمان بين الاختلاف والاتفاق ، أم لم يستقر ، وذلك لجواز ظهور مستند جلي يجمعون عليه .
وقد اتفق الصحابة على دفن رسول الله – r – في بيت عائشة بعد أن اختلفوا في مكان دفنه، كما اتفقوا على خلافة أبي بكر رضي الله بعد اختلافهم على الخليفة.
وأما إذا كان الاتفاق على أحد القولين ليس من نفس المجمعين ، وإنما ممن نشأ بعدهم من المجتهدين في العصر الثاني بعد موت الأولين ففي هذه الحالة تفصيل بين ما إذا استقر الخلاف وما لم يستقر .
فإن كان الاختلاف لم يستقر بعد، بأن قصرت فترة الاختلاف بينهم جاز للمجتهدين الآخرين الإجماع على أحد القولين.
وإن كان الخلاف قد استقر، بأن طالت فترة الاختلاف بين مجتهدي العصر الأول، لم يجز الإجماع على أحد القولين .
إذ لو كان ثمة ما يستدل به على أحدهما ، ويرجحه على صاحبه ، لظهر للمجتهدين في العصر الأول ، وقد علم أنهم لا يجتمعون على الخطأ ، فكونه لم يظهر لهم ، مع طول مدة الخلاف بينهم ، مما أدى إلى استقراره ، دليل على عدم وجوده ، ومن ثم فهو دليل على انعقاد الإجماع على الخلاف، الذي لا يجوز معه الإجماع من الجدد على أحد القولين .
5 – إحداث دليل للإجماع:(241)
ما ذكرناه من حرمة إحداث قول ثالث ، أو تفصيل ، إنما هو فيما يؤدي إلى خرق الإجماع على التفصيل الذي ذكرناه .
وبناء على ذلك فإنه يجوز لأهل العصر الثاني إحداث دليل جديد للإجماع غير الدليل الذي استدل به المجمعون ، كما يجوز ذكر تأويل لما استدل به المجمعون ، أو استنباط حكمة غير تلك التي استنبطوها ، شريطة أن لا يكون في ذلك خرق للإجماع فإن كان فيه خرق ، فلا يجوز إحداثه ، كما لو قال المجمعون : لا دليل ولا تأويل ، ولا علة للإجماع غير ما ذكرناه .
ومثال ما لا خرق فيه من الدليل المحدث، أن يجمع المجتهدون على وجوب النية في الصلاة، مستدلين بقوله تعالى:﴿وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين﴾.
فيحدث من جاء بعدهم دليلاً آخر للإجماع غير الذي ذكره المجمعون ، وذلك قوله – r – : (( إنما الأعمال بالنيات )) .
ومثال التأويل لدليل المجمعين أن يقول المجمعون في قوله: – r -:
(( وعفروه الثامنة بالتراب )) : أن تأويله أن يهتم الناس بالجميع ولا يتهاونوا بها، لئلا ينقص العدد عنها، فيقول من بعدهم في تأويله: إن التراب لما صحب السابعة صار كالثامنة.
وذلك لأنه لا مانع من أن يتعدد الدليل، أو التعليل، مع بقاء الحكم، وعدم خرقه ورفعه.
6 – موافقة الإجماع الخبر:(242)
قد مر معنا في شروط الإجماع أن من شرطه أن يكون له مستند، إلا أنه ليس من الضروري أن ينقل معه.
وبناء على ذلك إذا رأينا خبراً قد أجمعت الأمة على مقتضاه ووافقته، فإنا لا نستدل بأن هذا الخبر هو مستند الإجماع، لاحتمال أن يكون مستند المجمعين غير هذا الخبر، وذلك فيما إذا تعددت الأخبار الدالة على نفس المعنى.
وأما إذا لم يوجد في الأخبار بعد الاستقراء سوى هذا الخبر في هذا المعنى ، فالظاهر أنه هو المستند ، لأنه لا بد للإجماع من مستند ، إلا أنه يحتمل مع ذلك أن لا يكون هو ، لاحتمال أن يكون لهم مستند آخر إلا أنه لم ينقل إلينا اكتفاء بنقل الإجماع .
7 – تعارض الإجماعين:(243)
مما عرفناه من أن الإجماع حجة قطعية ، وأنه لا يجوز لأهل العصر الثاني أن يجمعوا على خلاف ما أجمع عليه أهل العصر الأول يتبين لنا أنه لا يجوز أن يتعارض إجماعان ،لأنه بمقتضى إجماع أهل العصر الأول على أمر يمتنع على أهل العصر الثاني أن يجمعوا على خلافه ولذلك لن يكون هناك تعارض .
8 – تعارض الإجماع مع الدليل:
إذا ظهر لنا تعارض بين إجماع ودليل، سواء أكان من الكتاب أو السنة، إما أن يمكن تأويل أحدهما أو لا.
فإن أمكن تأويل أحدهما، أولناه، جمعاً بين الدليلين، سواء في ذلك الإجماع أو النص.
وإن لم يمكن التأويل لأحدهما ، فإن كان الدليل المعارض ظنياً قدِّم الإجماع عليه ، لأنه لا تعارض بين قطعي وظني ، بل يلغي المظنون في مقابلة القاطع .
وإن كان الدليل قطعياً، استحال التعارض، لأنه لا تعارض بين قاطعين، بل يقدم الإجماع، لاحتمال ورود النسخ على الدليل الشرعي، واستحالة إجماع الأمة – المعصومة عن الخطأ – على خلاف الدليل، والله أعلم.
(229) التبصرة : 359 ، اللمع : 50 ، البرهان : 1 /720 ، المستصفى : 1 /185 ،
الأحكام: 1 /328، المنتهي: 39، المحصول: 4 / 283، الإبهاج ونهاية
السول : 2 / 231 ، جمع الجوامع : 1 / 178 ، الأحكام لابن حزم : 4 / 509 .
(230) التبصرة : 384 ، اللمع : 50 ، الأحكام : 1 / 344 ، المنتهى : 40 ، المحصول : 4 / 251 .
(231) جمع الجوامع: 2 / 179، المحصول: 4 /246.
(232) التقصرة 365 ، اللمع : 50 ، البرهان : 1 /270 ، المستصفى : 1 /187 ، المنخول : 314
، ألأحكام : 1 /349 ، المنتهي : 41 ، المحصول : 4 /228 ، الإبهاج ونهاية السول : 2 /243
فوائح الرحموت : 2 / 228 .
(233) البرهان: 1 / 717
(234) التبصرة : 391 ، اللمع : 49 ، البرهان : 1/698 ، المستصفى : 1/191 ،
المنخول: 318، الأحكام: 1 /261، المنتهي: 42، رفع الحاجب: 1/ق
191 – ب ، المحصول : 4 / 215 ، الإبهاج ونهاية السول : 2 /254 ،
جمع الجوامع : 2/187، الأم للشافعي:7/143، فواتح الرحموت:2/232.
(235) جمع الجوامع: 2/199، الأحكام: 1/402، المحصول: 4 /293.
(236) المحصول: 4 /294، جمع الجوامع: 2 /199.
(237) البرهان : 1/724 ، المستصفى : 1/198 ، المحصول : 4 /297 ، الأحكام :
1/405 ، جمع الجوامع : 2 / 201 .
(238) البرهان : 1/706 ، المستصفى : 1/205 ، المنخول : 320 ، التبصرة : 387 ،
اللمع : 52 ، المسودة : 326 ، الأحكام : 1/384 ، المنتهى : 44 ، المحصول :
4/179 ، الإبهاج ونهاية السول : 2/ 247 .
(239) المحصول: 4 /183، المعتمد: 2 /508.
(240) البرهان: 1/710، المعتمد: 2 /498 و517، الأحكام: 1/394 و 399،
المحصول: 4 /194 و 204، جمع الجوامع: 2 /184.
(241) الأحكام: 1 /391، جمع الجوامع: 2 /198.
(242) جمع الجوامع : 2/201 .
(243) جمع الجوامع : 2 /200 .