الأخبار، حقيقة الخبر وأقسامه، الخبر المقطوع بكذبه،الخبر المقطوع بصدقه، الخبر المظنون صدقه ( أخبار الآحاد )
الباب الثاني
في الأخبار
وفيه الفصول التالية :
1 – الفصل الأول: في حقيقة الخبر.
2 – الفصل الثاني: في أقسام الخبر.
وفيه ثلاث مسائل
الأولى: في الخبر المقطوع بكذبه.
الثانية: في الخبر المقطوع بصدقه.
الثالثة : في الخبر المظنون صدقه ( خبر الواحد ) .
3 – الفصل الثالث: في شروط العمل بخبر الواحد.
وفيه مسألتان :
الأولى: في الشروط المختلف فيها.
الثانية: في الشروط المتفق عليها.
4 – الفصل الرابع: في ألفاظ الرواية.
الفصل الأول
في حَقِيـقَـةِ الخَـبَر
الكلام العربي ينقسم إلى قسمين، الأول الخبر والثاني الإنشاء.
أما الإنشاء: فهو ما دل على أمر، أو نهي، أو سؤال أو دعاء، أو استفهام، أو نداء، أو تمن، أو ترج، أو عرض، أو حض، أو نفي ، وهو ما لا يحتمل الصدق والكذب.
وقد مرت معنا بعض أبحاثه أثناء الكلام على الأوامر والنواهي .
وأما الخبر فهو لغة: مشتق من الخبار، وهي الأرض الرخوة ، لأن الخبر
يثير الفائدة ، كما أن الأرض الخبار تثير الغبار عند إثارتها بقرع حافر أو غيره .
واصطلاحا: هو ما يحتمل الصدق والكذب لذاته .
فقولنا: ما يحتمل الصدق والكذب، مخرج للإنشاء.
وقولنا: لذاته، مخرج لخبر الله وخبر الرسول، المقطوع بصدقهما، ولكن لا لذات الخبر، وإنما لأمر عارض، وهو استحالة الكذب على الله، والعصمة لرسوله – r -.
ومخرج للخبر المقطوع بكذبه كخبر مسيلمة ، ولكن لا لذات الخبر أيضاً ، وإنما لقرينة خارجية وهي: أنه لا نبي بعد رسول الله ، ولغير ذلك من الأمور .
فالخبر هو الكلام المشتمل على نسبة، المحتمل للصدق والكذب، وذلك كقولنا: زيد قائم، فإن هذا الكلام مشتمل على نسبة القيام إلى زيد، وهو محتمل للصدق، بأن يكون مطابقاً للواقع، ومحتمل للكذب، بأن لا يكون مطابقاً للواقع، فما طابق الواقع من الخبر صدق، وما خالف الواقع منه كذب.
وقولنا : الشهداء في الجنة ، خبر ، وهو محتمل للصدق والكذب بذاته ، أي بقطع النظر عن معتقدنا، فإن هذا الكلام بذاته يحتمل الصدق، ويحتمل الكذب، على معنى أنه لو قرأه إنسان خالي الذهن عن حقيقة الشهيد ومعتقدنا فيه فإنه يتردد بين صدقه وكذبه لاحتماله لكلا الأمرين .
وكوننا نقطع بصدقه نحن المسلمين ، فإننا لا نقطع بصدقه لذاته، وإنما لأمر خارج وهو عقيدتنا الإسلامية في الشهيد .
وقول القائل : مسيلمة رسول الله ، خبر يحتمل الصدق والكذب بذاته .
وإنما قطعنا بكذبه نحن المسلمين ، لا لذاته ، وإنما لأمر خارج وهو عقيدتنا الإسلامية القاضية بأن لا نبي بعد نبينا محمد – r -.
وبما أن الخبر قسم من أقسام الكلام فهو حقيقة في النفساني، كما ذهب إليه جمهور المتكلمين، مجاز في اللساني.
قال الأخطل :
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسـان على الفؤاد دليلا
الفَصْلُ الثَـــاني
في أقسَـامِ الخَبَر
بما أن الخبر يحتمل الصدق والكذب لذاته ، وقد يقطع بصدقه أو كذبه لقرينة خارجية
عارضة ، قسم الأصوليون الخبر إلى ثلاثة أقسام هي :
الأول: ما يقطع بكذبه من الأخبار.
الثاني: ما يقطع بصدقه من الأخبار.
الثالث: ما لا يقطع بصدقه ولا كذبه، وله حالات، لأنه قد لا يترجح واحد من
الصدق والكذب، كخبر المجهول.
وقد يترجح صدقه على كذبه، وذلك كخبر العدل الثقة، وقد يترجح كذبه على صدقه كخبر الفاسق.
وسنتكلم على كل واحد من هذه الأقسام في مسألة مستقلة ، إلا أننا سوف نقتصر في القسم الثالث على خبر الواحد من العدل ، وأما خبر الفاسق والمجهول فإن الكلام عليهما سيكون من خلال الكلام على شروط العمل بخبر الواحد، وهي شروط صحته .
المسألة الأولى
في الخَبَر المقطوُع بكذبه (193)
والمراد به ما قطع العقل بأنه مكذوب على رسول الله – r – ، بحيث لا يجوز بوجه من الوجوه أن يكون قد قاله ، ولو احتمالا .
سواء أكان ذلك بواسطة العادة، أم بواسطة الشرع، أم لاستحالة تصوره في العقل.
وللعلم بكذب الخبر طرق متعددة ، نذكر منها:
1 – ما علم خلافه بالضرورة، وذلك كقول القائل: الجزء أعظم من الكل، أو النار باردة، أو النقيضان يجتمعان ويرتفعان، أو الجسم يوجد في مكانين في لحظة واحدة.
فكل خبر من هذا القبيل يعلم كذبه بالضرورة، دون الحاجة إلى الاستدلال.
2 – ما علم خلافه بالاستدلال، وذلك كقول القائل: زوايا المثلث تساوي 200 مائتي درجة، فإننا نعلم بالاستدلال لا بالضرورة أن مجموع زوايا المثلث يساوي 180 مائة وثمانين درجة.
وقوله: العالم قديم، فإننا قد قطعنا عن طريق الاستدلال أيضا بأن العالم حادث.
فكل خبر من هذا القبيل أيضا مقطوع بكذبه استدلالا.
3 – ما أوهم باطلا، ولم يقبل التأويل، وذلك كما روى من أن الله تعالى خلق نفسه.
فان هذا يوهم أن الله حادث ، وقد دل الدليل العقلي القاطع أن الله قديم ، منزه عن الحدوث ، كما دل على ذلك الدليل النقلي القطعي .
4 – أن يحدث إنسان ما عن شيخ مات قبل ولادة ذلك الإنسان ، وذلك كما أدعى مأمون بن أحمد الهروي أنه سمع من هشام بن عمار ، فسأله ابن حبان ، متى دخلت الشام ، فقال: سنة خمسين ومائتين ، فقال له: إن هشاماً الذي تروي عنه مات سنة 245 ، فقال : هذا هشام بن عمار آخر .
5 – خبر مدعي الرسالة أو النبوة بلا معجزة، أو تصديق الصادق، لأن الرسالة عن الله أمر مخالف للعادة، وما خالف العادة من غير دليل يجيز هذه المخالفة قطع بكذبه.
وهذا يتصور قبل العلم بأن نبينا عليه السلام خاتم النبيين ، أما بعد ذلك فلا يصدق ولو أتى بما يشبه المعجزة ويقطع بكذب خبره ، كما قطعنا بخبر مسيلمة الكذاب وغيره ، ولم نطالبهم بالمعجزة .
6 – الخبر الذي نقب عنه في الأصول المعتمدة من المسانيد ، والجوامع ، والكتب المشهورة ، ولم يوجد فيها ، ولا عند أهلها من الرواة .
وهذا إنما يكون بعد استقرار الأخبار ، وتدوينها ، أما قبل ذلك ، كما في عصر الصحابة فلا ، إذ يجوز أن يروي احدهم ما ليس عند غيره .
7 – الخبر الذي ينقل آحاداً مع توفر الدواعي على نقله، والذي لو كان صحيحاً لكان متواترا.
وذلك أما لغرابته ، كمن ينقل أنه قد أطلق الرصاص يوم الجمعة على الخطيب وهو يخطب فوق منبره ، فوقع ميتا ، فإن هذا الخبر لو كان صحيحاً لنقله كل من صلى يوم الجمعة في ذلك المسجد ، لغرابته وتوفر الدواعي على نقله ، فكونه لم ينقله إلا رجل واحد ، مع هذه القرائن التي حفت به ، دليل على أنه كذب قطعا .
وقد يكون ذلك لا لغرابته وإنما لتعلقه بأصل من أصول الدين، كالنص على الإمامة، فإنه مما تتوفر الدواعي على نقله، وبذلك نقطع بكذب الخبر الدال على إمامة علي وتنصيبه خليفة بعد رسول الله ، إذ لو كان صحيحاً لشاع بين الصحابة وذاع ، وطبق الآفاق والبقاع ، ولا سيما أن كثيراً من الصحابة متشوف إلى هذا المنصب ، متهافت عليه ، وكادت تقع من أجله المجابهة بين أصحاب رسول الله بعد موته ، فلو كان صحيحاً ما يدعيه الرافضة من خلافة علي والتنصيص عليها ، لنقل إلينا متواترا، فكونه لم ينقل إلينا – ولاسيما في الصدر الأول – لا تواترا ولا آحادا، دليل على كذبه.
وكونه نقل بعد ذلك آحاداً ليس دليلا قاطعا على كذبه فقط، وإنما هو دليل قاطع على اختلاقه.
8 – ما يخالف النص القرآني الصريح، الذي لا يقبل النسخ أو التأويل، ولم يمكن الجمع بينهما بحال.
9 – ما يخالف السنة المتواترة .
10 – ما يخالف الإجماع القطعي .
11 – أن يعترف الراوي للخبر بأنه كاذب فيه .
أسباب الوضع في الحديث:(194)
أما أسباب الكذب في الحديث على رسول الله – r – فمتعددة، منها ما هو متعمد، ومنها ما هو ناشئ عن طريق السهو والنسيان، وأسباب التعمد في الوضع هي:
1- الزندقة، وهي إبطان الكفر وإظهار الإيمان، فقد دفع الحقد الدفين على الإسلام في صدور بعض الناس، إلى وضع الأحاديث الكاذبة على رسول الله – r – بغية تشويه حقائق الدين في أذهان الناس.
قال حماد بن زيد : “وضعت الزنادقة على رسول الله – r – أربعة عشر ألف حديث”.
وذلك كعبد الكريم بن أبي العوجاء، الذي قتله الأمير العباس محمد بن سليمان، في خلافة المهدي سنة 160 هـ بسبب الزندقة، فلما أخذ لتضرب عنقه قال: ” لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث، أحرم فيها الحلال، وأحلل الحرام “.
2 – الأهواء الضالة والآراء الشاذة ن فقد كان أصحاب الآراء الشاذة التي لا دليل عليها من كتاب ولا سنة يلجأ ون إلى وضع الحديث والكذب فيه لنصرة مذاهبهم الشاذة كالخطابية ، والرافضة ، وغيرهم من أهل البدع والضلال .
قال عبد الله بن يزيد المقرئ:” إن رجلاً من أهل البدع رجع عن بدعته، فجعل يقول: انظروا هذا الحديث عمن تأخذونه، فإنا كنا إذا رأينا رأياً جعلنا له حديثا”.
3 – التكسب والارتزاق، وهذا غالبا ما كان يفعله القصاص، إذ يضعون الأحاديث في قصصهم تقرباً للعامة بالروايات الغريبة، والأحاديث العجيبة، للكسب والارتزاق.
4 – التقرب إلى الملوك والأمراء، وهو دأب علماء السوء إذ كان بعضهم يضع الحديث ليوافق هوى الحاكم .
كما فعل غياث بن إبراهيم النخعي الكذاب ، إذ دخل على أمير المؤمنين المهدي ، وكان المهدي يحب الحمام ويلعب به فقيل له حدِّث أمير المؤمنين، وكان الحمام أمامه، فقال: حدثنا فلان عن فلان أن النبي – r – قال : ” لا سبق إلا في نصل ، أو خف ، أو حافر ، أو جناح ” فأمر له المهدي بجائزة ، فلما قام قال : أشهد على قفاك أنه قفا كذاب على رسول الله ، ثم قال المهدي : أنا حملته على هذا ، ثم أمر بذبح الحمام ، ورفض ما كان فيه .
5 – وشر من وضع الحديث هم جهلة الصوفية والمتزهدة، إذ زعموا أنهم يريدون ترغيب الناس في العبادة والطاعة، فوضعوا أحاديث كاذبة على رسول الله – r – فقبلها الناس منهم ركوناً إلى صلاحهم، حتى أبانها علماء الحديث الذين حفظ الله بهم شرعه، فميزوا بين الحق والباطل، والصحيح والفاسد.
وحكم هذا النوع من الأحاديث الموضوعة عمداً أنه حرام بإجماع الأمة ، بل جزم الشيخ أبو محمد الجويني والد أمام الحرمين بكفر من قصد وضع الحديث على رسول الله – r – .
كما لا تجوز روايته على أي حال من الأحوال، وفي أي معنى من المعاني، إلا إذا وصف الراوي حاله، وأبان أنه موضوع، وأنه ما ذكره إلا ليتقي شره.
وأما إذا كان وضع الحديث ناشئاً لا عن عمدٍ وإنما عن غلط أو نسيان ، كأن ينسى ما رواه ، ومن ثم يروي غيره ظناً منه أنه هو مرويه ، أو يغلط به فيسبق لسانه إلى غير ما رواه ، أو يضع مكانه ما يظن أنه يؤدي معناه ، ثم لا يكون الأمر على ما ظن .
فحكم هذا النوع في الرواية كحكم النوع السابق، فلا تجوز روايته على أي حال بعد معرفته واكتشاف حاله.
وأما الواضع الأصلي ، الذي وضع نسياناً أو غلطاً فلا يأثم لأنه لم يعمد إليه وقد رفع عنه القلم .
إلا أنه إذا تبين له أنه قد نسي فأدى الحديث على غير وجهه ، يجب عليه أن يبين ذلك لمن رواه عنه أو سمعه منه .
المسألة الثانية
في الخبر المقطوُع بصْدقِهِ(195)
أي الخبر المقطوع بصدقه عقلا ، نظير ما تقدم في الخبر المقطوع بكذبه ، وإنما يكون ذلك كما ذكرنا في مقدمة الفصل لأمور عارضة وقرائن خارجية ، لا لذات الخير .
والخبر المقطوع بصدقه أنواع، هي:
1 – الخبر الذي علم وجود مدلوله، وهو الواقعة التي دل عليها الخبر.
سواء أعلم ذلك بالضرورة، كقولنا: النار حارة، والواحد نصف الاثنين، أم بالاستدلال، كقولنا: العالم حادث، وزوايا المثلث تساوي 180 درجة.
2 – خبر الله تعالى : لاستحالة الكذب عليه جل وعلا ، ولأنه ينافي صفات الكمال الإلهية .
3 – خبر الرسول – r – : لعصمة الأنبياء والرسل عن الكذب في الأخبار .
4 – خبر إنسان عن أمر محسوس ، أمام قوم ، لم يكذبوه ، ولا حامل لهم على السكوت ، فاتفاقهم على تصديقه، وهم عدد التواتر، بدل على صدقه قطعاً.
5 – خبر إنسان أمام النبي – r – ، ولا حامل للنبي – r – علي تقريره – كاليأس من جدوى الإنكار مثلا على ما مر معنا – ولا للمخبر على الكذب .
6 – الخبر المتواتر وهو ما رواه جماعة عن جماعة، تحيل العادة تواطؤهم على الكذب.
إفادة المتواتر العلم:(196)
والحق الذي لا شبهة فيه أن الخبر المتواتر يفيد العلم – خلافاً لما يروى عن البراهمة والسمنية، والعلم الذي يفيده ضروري، لا نظري على الصحيح.
وذلك لأن الإنسان يجد نفسه عالمة بما يسمع من أخبار البلدان النائية ، والأمم السالفة ، كما يجدها عالمة بما يحس به من المحسوسات ومن أنكر ذلك ، كان بمنزلة من أنكر المشاهدات .
وأما كونه ضرورياً، فلأن علم الإنسان بما ذكرنا من أخبار البلاد والأمم علم لا يمكنه نفيه عن نفسه بالشك والشبهة، فصار بمنزلة العلم المدرك بالحواس.
فلا أظن أن واحداً من الناس يمكنه أن ينفي عن نفسه العلم بمدينة يقال لها بغداد ، كانت مركزا للخلافة الإسلامية ، والحضارة الإنسانية منذ مئات السنين ، كما أنه لا يستطيع التشكيك بهذا ، وإلا انقلب إلى سوفسطائي مجنون .
شروط إفادة المتواتر العلم:(197)
يشترط في الخبر المتواتر حتى يفيد العلم شروط هي:
1 – أن يكون عدد المتواتر متوافراً في كل طبقة من طبقات رواته، فلو نقص في طبقة من الطبقات عن عدد التواتر، فإنه لا يفيد العلم، ويخرج عن التواتر.
2 – أن يستند المخبرون إلى أمر محسوس، لئلا يتطرق إليه احتمال النقيض، وإلا بأن استندوا إلى أمر معقول، فإنه لا يفيد خبرهم العلم، كإخبار الفلاسفة عن قدم العالم.
3 – أن يزيد عدد المخبرين عن الأربعة ، فالأربعة لا تفيد العلم قطعاً ، وذلك لأنهم نصاب شهادة الزنا ، وهم لو شهدوا بها لا يفيد خبرهم العلم ، ولذلك احتاجوا إلى التزكية .
وأما ما زاد على الأربعة فالأمر يرجع إلى القرائن المحتفة بالخبر ، فقد يقع العلم بخبر الستة ، والسبعة ، والعشرة ، وقد لا يقع بخبر الخمسين ، ومدار العلم على أمن الاتفاق على الكذب، وما ذكر من اشتراط الأربعين ، والسبعين ، والثلاثمائة وغيرها، فإنما هو تحكم لا دليل عليه .
إلا إذا كان العدد كبيراً، فإن العلم بالخبر يقع لكل أحدٍ ضرورة، كالإخبار عن هارون الرشيد، وصلاح الدين الأيوبي، وغيرهما من عظماء الإسلام.
وإذا كان العدد يسيرا ، فإن العلم بالخبر قد يقع للجميع ، وقد يقع لبعضهم دون بعض ، حسب القرائن المحتفة به .
4 – أن لا يكون السامع للخبر عالماً بمدلوله ضرورة، لأنه إذا كان كذلك لم يفده الخبر شيئاً، والعلم حصل له من غيره، وتحصيل الحاصل ممتنع.
5 – لا يشترط في رواة المتواتر الإسلام، ويقع العلم بتواتر الكفار، كما لا يشترط أن يحويهم بلد، ولا يشترط اختلاف نسبهم، لا اختلاف دينهم، ولا اختلاف وطنهم، ولا يشترط إخبارهم طوعاً، ولا يشترط في حصول العلم بالمتواتر أن لا يعتقد المخبر خلافه.
فرع
لا يعتقد في أهل التواتر أنهم يكتمون ما يحتاج إلى نقله، أو ما تتوفر الدواعي لنقله وإشاعته، بل أن سكوتهم عن أمر دليل قاطع على كذبه، إذ لو كان حقاً لاستحال على جمعهم كتمانه
ولذلك قطعنا بكذب ما يروى في إمامة علي رضي الله عنه، إذ لو كان النص عليها صحيحاً لتناقلها أصحاب رسول الله، ولما جاز عليهم لا عقلاً ولا شرعاً كتمانها.
كيف .. وقد قطعنا بكذب الخبر الذي تتوفر الدواعي على نقله، ولا يرويه إلا الواحد، كما ذكرنا في المسألة السابقة..؟
فما هنا من باب أولى ، ولا سيما أن أصحاب رسول الله – r – كانوا لا يقرون أحداً على باطل وكانوا يسارعون إلى نقل الشرع وبيانه .
وكذلك يستحيل الكذب على عدد التواتر عادة ، والله أعلم .
أقسام المتواتر:(198)
ينقسم المتواتر إلى قسمين : تواتر لفظي ، وتواتر معنوي .
1 – التواتر اللفظي : وهو ما يذكره رواة التواتر بلفظ واحدٍ معين ، وقد مثل له بقول رسول الله – r – : ” من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ” .
وهو وإن كان قليلا في السنة إلا أنه موجود، والحديث السابق دليل عليه، ومن ادَّعى عدمه فقد أبعد.
وأما في غير السنة فقد تقدم معنا في مباحث القرآن أن القراءات السبع متواترة لفظاً.
وكذلك مسائل الإجماع فان المتواتر اللفظي فيها كثير.
2 – التواتر المعنوي: وهو ما يذكره رواة التواتر بألفاظ متغايرة مع الاشتراك في المعنى الكلي.
وذلك كالإخبار عن كرم حاتم الطائي، فبعضهم يروي أنه أعطى ديناراً، وبعضهم يروى أنه أعطى ناقة، وبعضهم يروي أنه ذبح فرسه لضيفاته، وكل هذا يدل على سخائه وكرمه.
وشجاعة علي، بأن يروي بعضهم بأنه قتل عمرو بن ود، وبعضهم يروي بأنه قتل فلانا، وبعضهم يروي بأنه اقتحم حصنا، وكل هذا يدل على شجاعته.
والتواتر المعنوي في السنة كثير .
ما يتردد النظر في القطع بصدقه:(199)
1 – خبر الواحد المحتف بالقرائن ، وذلك كما لو أخبر ملك قد شاع بين الناس مرض ابنه، واستدعاء الأطباء له ، فلو خرج الملك في يوم من الأيام ، بهيئة مزرية ، وأخبر الناس بموته، فقد ذهب بعض الأصوليين إلى أنه يفيد العلم، وكنت أميل إلى هذا وأدافع عنه، إلا أن وقائع الحياة التي نراها، أصبحت تشكك الإنسان في كثير من مثل هذه المظاهر، بل أصبح من المتعارف عليه عند العقلاء اليوم أن أكثر ما يصرح به حكام العالم اليوم كذب وتمويه ، رغم كل ما يحفه من القرائن ، بل أن كثيراً من الحروب تقوم في العالم ، ويذهب ضحيتها الآلاف من الناس ، وما هي إلا مسرحيات موجهة توجيهاً سياسياً لمصالح وأهداف غير تلك التي يخبر عنها القواد والزعماء .
وأنا لا أريد أن أنفي احتمال حصول العلم به، فالاحتمال وارد، إلا أن نطاقه ضيق جداً، ويكاد يكون محالاً، والأصل عدمه.
2 – إجماع الأمة على وفق الخبر ، فإنه لا يفيد العلم ، لأنهم يجمعون على وفق الخبر سواء أفاد علماً أم أفاد ظناً ، لأنهم مأمورون – ككل مسلم – بإتباع الخبر المظنون صدقه ، فإجماعهم على وفق الخبر لا يجعله مفيدا للعلم ، كما أنه لا ينفي عنه إفادة العلم .
3 – بقاء الخبر الذي تتوفر الدواعي على إبطاله ، لا يفيد العلم ، خلافاً للزيدية ، وعدم إبطالهم له ، لا لأنه يفيد العلم ، بل لأنهم ظنوا صدقه ، وظن صدقه يوجب عليهم قبوله ، بل لا يجوز لهم إبطاله .
وذلك كخبر الشيخين أن الرسول – r – قال لعلي: ” أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي “.
فإن دواعي بني أمية – بعد سماعهم له – متوفرة على إبطاله، إلا أنهم لم يبطلوه، ومع هذا فإنه لا يرقى عن منزلة الظن، لما ذكرنا، والله أعلم.
4 – إذا سمع العلماء خبرا، وانقسموا بعد سماعهم له بين عامل به، ومؤول له، ولم يذهب أحد منهم إلى إبطاله، فقد ذهب بعضهم إلى أنه يفيد العلم، ولولا إفادته العلم لما اتفقوا على التزامه.
إلا أن الحق أنه لا يفيد العلم ، وعدم الإعراض عنه ، لا لإفادته العلم ، وإنما هو لوجوب إتباعه سواء أفاد علماً أو ظناً ، فإنهم مأمورون بإتباع المظنون ،كما أنهم مأمورون بإتباع المعلوم .
فقد يكون اتفاقهم عليه بين عامل ومؤول لإفادته العلم، وقد يكون لإفادته الظن، وما كان كذلك لا يتحكم به في إفادة العلم.
5 – إذا أخبر شخص بحضرة جمع عظيم عن أمر ، بحيث لو كان كذباً لما سكتوا عن تكذيبه ، فإن سكوتهم هذا لا يدل على أن الخبر مقطوع به يفيد العلم ، لأن سكوتهم قد يكون لظن صدقه ، وعدم معرفتهم به قبل ذلك وهذا لا يدل على إفادته العلم بحال ، والله أعلم .
6 – خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول، كخبر الصحيحين، ورواية مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وما شابهها، لا يفيد العالم على رأي جمهور علماء الأصول، خلافاً لمن ذهب إلى أنه يفيده منهم، وتلقى الأمة لها بالقبول لا يعصم رواتها عما يعترض البشر من احتمال السهو والنسيان والغلط من الأمور التي يجوزها العقل والعادة على كل إنسان .
نعم للصحيحين ولسلسلة الذهب وما شابهها مزية لا توجد فيما سواهما من كتب الحديث وأسانيده، وربما رجحت على غيرها عند التعارض لتلقي الأمة لها بالقبول، إلا أن هذا لا يرقى بها إلى درجة العلم، لا الضروري، ولا الاستدلالي، والله أعلم.
المسألة الثالثة
في الخبر المظنُون صِدْقه
( أخبار الآحاد )
ذكرنا في المسألتين السابقتين الخبر المقطوع بصدقه، والخبر المقطوع بكذبه، وسنذكر في هذه المسألة الخبر الذي لا يقطع بصدقه وإفادته العلم، وإنما هو مفيد للظن فقط، وهو خبر الواحد العدل.
وخبر الواحد عند الجمهور هو: كل ما لم يصل إلى درجة التواتر، سواء أكان غريباً، أم عزيزاً، أم مشهوراً، أم مستفيضاً.
إفادته الظن:(200)
وخبر الواحد هذا لا يفيد العلم عند جماهير الأمة، من الفقهاء، والأصوليين، والمحدثين، وإنما هو مفيد للظن لا غير، وذلك لاحتمال السهو، والنسيان، والغلط، وغير ذلك من العوارض البشرية، على من دون رواة المتواتر.
ويستوي في إفادة الظن خبر الصحيحين وغيرهما على ما ذهب إليه المحققون من الأصوليين.
وجوب العمل به: (201)
العمل بخبر الواحد جائز عقلاً، وواجب شرعاً.
ولو لم يكن عليه من دليل سوى إرسال رسول الله – r – رسله إلى الأمصار آحاد، مع إيجاب إتباع ما يخبر به أولئك الرسل – لكان كافياً – لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
على أن دليل وجوب العمل به أكثر من أن يحصر، وأشهر من أن يذكر، وقد صنفت فيه المصنفات، ولا التفات لمن أنكر العمل به ممن لاحظ له في الإسلام .
ووجوب العمل به عام للفتوى، والشهادة، والحكم، وسائر أمور الدين والدنيا فيجب العمل بما يفتي به المفتي ، ويشهد به الشاهد بالشروط المخصوصة ، ويقضي به القاضي .
كما يجب العمل به في كل ما يتعلق بأمور دنيانا ، من اجتماع ، واقتصاد ، وسياسة ، وسلم ، وحرب ، وغير ذلك ، فوجوب العمل به ليس مخصوصاً بأمر دون أمر .
وعلى هذا جماهير أهل الإسلام، ومن شذ عنه فقد شذ إلى النار، وماله على ذلك من دليل، ولا شبهة دليل، وإنما هو إتباع للهوى، وإعراض عن الشرع، وكراهية للسنة.
إلا أن العمل به مشروط بشروط خاصة ستتكلم عنها في الفصل القادم.
(193) الأحكام : 2 /18، المحصول : 4 /413 ، نهاية السول : 2 / 225 ، جمع الجوامع :
2 /116 .
(194) جمع الجوامع: 2 /117، المحصول: 4 / 428 – 436، تدريب الراوي:
1 /274 ، ألفية السيوطي : 79 شرح أحمد شاكر .
(195) الأحكام : 2/17 ، المحصول : 4 / 387 ، نهاية السول : 2 / 212 ، جمع الجوامع :
2 / 119 .
(196) البـــرهــان : 1 / 574 ، التبصرة : 291 ، اللمع : 39 ، المنخول : 235 ،
المستصفى : 1/ 132، الأحكام : 2/22، منتهى السول : 1/69 ، المنتهى :
49، المحصول: 4/323، الإبهاج ونهاية السول:2/185، تيسير التحرير :
3 /30، فواتح الرحموت : 2/ 113 ، أصول السر خسي : 1 /282 ، جمع
الجوامع: 2 / 119.
(197) البرهان: 1/566، المحصول: 4/ 367، الأحكام: 2/37، جمع الجوامع:
2 / 120 .
(198) المحصول: 4 / 383
(199) جمع الجوامع : 2 / 125 .
(200) التبصرة : 298 ، اللمع : 40 ، المستصفى : 1/145 ، المنخول : 252 ،
الأحكام: 2 /50، المنتهي: 51، جمع الجوامع: 2 /152 عطار.
(201) التبصرة : 303 ، الأحكام : 2 /75 ، المحصول : 4 /507 ، الإبهاج ونهاية
السول : 2 /97 ، جمع الجوامع : 2 /131 .