الاجتهاد والتقليد، الاجتهاد والمجتهد، صفات المجتهد وشروطه، ما لا يشترط في المجتهد، الطريق الواجب إتباعه في الاجتهاد،أحكام الاجتهـاد
الاجتهاد والتقليد
هذا هو الموضوع الأخير من المواضيع التي اشتملت عليها مباحث علم الأصول، كما عرفنا ذلك عند الكلام على تعريفه.
والكلام على هذا الموضوع في غاية الأهمية ، إذ به نستطيع أن نميز بين المجتهد المفتي في دين الله فيحلوا حرامه ، ويحرموا حلاله .
كما أنا سنرى المسائل التي يجوز فيها الاجتهاد والمسائل التي لا اجتهاد فيها ، لنضع حداً للاضطراب الذي وقع فيه كثير من الجهلة المعاصرين الذين نسبوا أنفسهم إلى الاجتهاد جهلاً وغرورا ، ومن ثم هجموا على الاجتهاد في مسائل يكاد يكون القول بها كفراً ، من الأصول والفروع ، والله المستعان .
وسيكون البحث في بابين :
الباب الأول: في الاجتهاد.
الباب الثاني: في التقليد.
الباب الأول
في الاجتهـــاد
ويشتمل على الفصلين الآتيين :
الفصل الأول: في الاجتهاد والمجتهد.
الفصل الثاني: في أحكام الاجتهاد
الفصل الأول
في الاجتهاد والمجتهد
الاجتهاد لغة : هو استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة.
ولهذا يقال : اجتهد فلان في حمل الصخرة ، ولا يقال : اجتهد في حمل الخردلة أو النواة.
وهو مأخوذ من الجهد ، بضم الجيم وفتحها .
واصطلاحاً : هو استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية والمراد باستفراغ الجهد أن يبذل المجتهد وسعه على وجه يحس معه من نفسه أنه عاجز عن المزيد فيه وذلك لا يعتبر المقصر في الاجتهاد مجتهداً في الاصطلاح، لأنه لم يبذل وسعه.
وقولنا: الأحكام الشرعية: قيد تخرج به الأحكام العقلية، واللغوية.
وأما المجتهد : فهو الفقيه المستفرغ لوسعه في تحصيل الحكم الشرعي .
ولا يكون المرء فقيها مجتهداً بمجرد الدعوى، أو التشهي والهوى، وإنما يجب أن تتوفر فيه شروط لا بد منها ليصل إلى درجة الاجتهاد بما يتميز المفتي من المستفتي والمجتهد من المقلد.
صفات المجتهد وشروطه:(286)
1- البلوغ والعقل:
فيشترط في المجتهد الذي يفتي في دين الله أن يكون بالغاً عاقلاً لأن الصبي بلغ رتبة الاجتهاد، وتيسر عليه إدراك الأحكام، إلا أنه لا ثقة بنظره فلا بد من البلوغ ليعتمد قوله كما أن المجنون لا يعتد باجتهاده أيضاً، لأنه ليس له تمييز يهتدي به إلى الصواب.
2- العدالة:
فلا يجوز أن يكون المفتي فاسقاً، لأن الفاسق وإن أدرك الأحكام، وعرف طرق الاستنباط إلا أنه لا يعتد بقوله – كالصبي – لفسقه.
3- فقه النفس :
وهو الذي صار الفقه سجية ملازمة له ، وملكة قائمة به ، يستطيع بواسطتها استنباط الأحكام وإدراكها .
قال إمام الحرمين: وهو – أي فقه النفس – رأس مال المجتهد، ولا يتأتى كسبه، فإن جبل المجتهد على ذلك، فهو المراد، وإلا فلا يتأتى تحصيله بحفظ الكتب.
4- العلم بالقرآن :
يشترط في المجتهد أن يكون عالماُ بكتاب الله تعالى، لأنه المصدر التشريعي الأول الذي تستند إليه جميع المصادر الأخرى، مع أنه أصل الأحكام، وأساس معرفة الحلال والحرام.
ولا يكفي المجتهد أن يعرف من القرآن لغته ومعناه الإجمالي فقط، بل يجب عليه أن يحصل لنفسه علماً حقيقياً به يستطيع بواسطته أن يتصور ويتذكر الآيات التي تستنبط منه الأحكام.
وليس مرادنا أن يحفظ هذه الآيات ، بل المراد أن يكون عارفاً بمواقعها ليرجع إليها عند الحاجة لها .
وهي كما قال الغزالي وابن العربي حوالي خمسمائة آية ، وهذا الكلام منهما إنما يصح إذا كان المراد به الآيات ، التي تدل على الأحكام دلالة صريحة .
وإلا فالآيات التي تستنبط منها الأحكام أكثر من ذلك بكثير ، بل أن العالم بالكتاب ، المتفرس فيه يستطيع أن يستنبط الأحكام من الأخبار والقصص ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
ومن نظر في كتب المتبحرين في التفسير وقع في هذا المجال على العجب العجاب.
ومن جملة ما يجب أن يعرفه من كتاب الله :
أ – الناسخ والمنسوخ: فيجب عليه أن يعرف الآيات المنسوخة حتى لا يعمل بها، والآيات الناسخة ليستنبط الأحكام منها.
ب – العام والخاص: كما يجب عليه أن يعرف الآيات العامة، والآيات الخاصة، والعامة التي دخلها الخصوص، والعامة المراد بها الخصوص، ليحمل العام على الخاص بالشروط التي ذكرناها.
جـ – المطلق والمقيد: ويجب عليه أن يعرف الآيات المطلقة والمقيدة، ليتمكن من حمل المطلق على المقيد، عند قيام دواعيه، أو يبقى كلّاً منهما على ما هو عليه عند عدم الدواعي.
د – أسباب النزول: ويجب معرفة أسباب نزول القرآن، لأن بها يتضح المراد من الآية، ويفهم المقصود من الخطاب ويقطع بدخول صورة السبب في الحكم ويمتنع تخصيصها.
5 – العلم بالسنة:
ويجب على المجتهد أن يعرف من السنة مثل ما عرف من القرآن، مما ذكرناه في الفقرة السابقة من عدم اشتراط حفظها بل الواجب معرفة مواقعها ليرجع إليها ويكفي الإنسان في عصرنا أن يرجع إلى الأئمة المشهورين في هذا الفن وإلى مصنفاتهم فيه ، ولا سيما أن الرواية قد انقطعت أو كادت .
فيرجع الإنسان إلى الأمهات الست ، وهي :
البخاري ، ومسلم، وأبو داود ، والترمذي والنسائي وابن ماجه ، وغير ذلك من السنن ، والجوامع والمصنفات و المسانيد ، كسنن البيهقي ،والدرامي و الدار قطني ، ومسند الإمام احمد ، وغيرها مما لا داعي للإطالة بتعداده .
ولا يكفي الإنسان أبداً أن يقتصر على سنن أبي داود أو الصحيحين، أو الصحاح الست، لأن هذه الكتب وإن جمعت كثيراً من أحاديث الأحكام، إلا أنها لم تستوعبها، وكم من الأحاديث التي تذكر فيها الأحكام لم تتعرض لها هذه الصحاح .
ولذلك كان لابد لمن يريد أن ينصب نفسه مجتهداً مطلقاً أن يكون عارفاً بكل السنن، لاحتمال أن يوجد في بعضها مالا يوجد في بعضها الآخر.
وليس المراد كما ذكرت أن يحفظها، وإنما المراد أن يكون مشرفاً عليها، مضطلعاً على ما فيها.
وإلا فلكل مقام مقال ، ولكل فن رجال ، ومن بطأت به همته ، لا يسرع به جهله ، ولا يرحمه حمقه ورحم الله إمرءٍ عرف قدره فوقف عنده ولقد وددت أن أسهب في هذا الموضوع لولا أن المقام مقام إيجاز.
ومما يجب أن يعرفه في السنة زيادة عما عرفه في القرآن.
أ – الصحيح والضعيف:
فيجب عليه أن يعرف الحديث الصحيح من الضعيف، ليقدم الأول على الثاني، ولينزل كل حديث منزلته.
ب – التاريخ والرجال:
كما يجب عليه أن يعرف ما تمس إليه الحاجة من علم التاريخ، وأحوال الرجال والرواة، ليتوصل به إلى معرفة الصحيح من الضعيف، والمقبول من المردود.
جـ – أسباب الجرح والتعديل:
فيجب عليه أن يعرف أسباب الجرح، وأنواعه، ومتى يقدم على التعديل وغير ذلك من الضوابط الضرورية لمعرفة الصحيح من السقيم والمقبول من المردود.
6 – معرفة مسائل الإجماع:
يجب على المجتهد أن يكون عارفاً بمسائل الإجماع، حتى لا يفتي بخلافها، فيكون خارقاً للإجماع، معرضاً عن سبيل المؤمنين.
فلا يفتي إلا بشيء يوافق قول بعض الأئمة المجتهدين، أو يغلب على ظنه أن ما يفتي به واقعة جديدة لم يتعرض لها المجمعون، ولم يخوضوا فيها، ليسلم من معارضة الإجماع والخروج عليه.
7 – معرف أصول الفقه:
فيجب عليه أن يكون عارفاً بأصول الفقه ، لأنه أساس الاجتهاد ودعامته ، ولولاه لما تمكن العلماء من نصب الأدلة على مدلولاتها ، ولما تمكنوا من استنباط الأحكام منها .
وإنما يجب معرفته ليقدم المجتهد ما يقضي له بتقديم ، ويؤخر ما يقضي عليه بالتأخير ، ولاسيما عند التعارض .
ويجب أن يولي مباحث الألفاظ ودلالتها عناية خاصة كما يجب عليه أن يتقن مباحث القياس ، ويعرف شرائطه المعتبرة ، وشرائط العلة الصحيحة ، ومسالكها ، وقوادحها ، ليسلم قياسه ، وتصح أحكامه .
8 – معرفة اللغة العربية:
فيجب على المجتهد أن يكون عارفاً بلسان العرب، نحواً، وصرفاً، وبلاغة .
وذلك لأن ألفاظ الشرع جاءت بلغة العرب، وما كان كذلك لا يفهم إلا بقواعد اللغة العربية، من النحو، والصرف، والبلاغة، فلا يفهم كتاب الله، ولا سنة رسول الله – r – من لم يعرف قواعد اللغة.
ومن زعم أنه مجتهد ، وهو بهذه اللغة جاهل ، فإنه زعم بهتانا وإفكا ولن يكون الجاهل بالعربية مجتهداً إلا إذا ولج الجمل في سم الخياط.
ولا يشترط في معرفة العربية أن يكون الإنسان متبحراً بها، وإنما يكفيه منها ما يحتاج إليه في الاجتهاد والاستنباط.
وكما قال ابن السبكي: ذو الدرجة الوسطى لغة وعربية .
ما لا يشترط في المجتهد : ( 287)
ولا يشترط في المجتهد أن يكون عارفاً بعلم الكلام ولا الفروع الفقهية لأنها ثمرة الاجتهاد كما لا يشترط فيه الذكورة ولا الحرية .
وشرط الإمام الرازي أن يكون عالماً بالدليل العقلي، كاستصحاب البراءة الأصلية، فلا ينتقل عنها إلا بالدليل الناقل.
كلام الشافعي في المجتهد :
وفي ختام الكلام على صفات المفتي، يجدر بنا أن نزين الموضوع بما قاله إمام الأصوليين في الدنيا، الإمام الشافعي t في كتابه (( الرسالة )) و (( إبطال الاستحسان )) من كتاب (( الأم )) قال:
ولا يقيس إلا من جمع الآلة التي له القياس بها ، وهي العلم بأحكام كتاب الله ، فرضه ، وأدبه ، وناسخه ، ومنسوخه ، وعامه ، وخاصة ، وإرشاده .
ويستدل على ما احتمل التأويل منه بسنن رسول الله فإذا لم يجد سنة فبإجماع المسلمين، فإن لم يكن إجماع فبالقياس.
ولا يكون لأحدٍ أن يقيس حتى يكون عالماً بما مضى قبل من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس، واختلافهم، ولسان العرب.
ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرق بين المشتبه، ولا يعجل بالقول به، دون التثبت.
ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه، لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة، ويزداد به تثبيتاً فيما اعتقد من الصواب.
وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده، والإنصاف من نفسه، حتى يعرف من أين قال ما يقول، وترك ما يترك “.
الطريق الواجب إتباعه في الاجتهاد :
قد عرفنا في الفقرات السابقة أوصاف المجتهد، ومن يجوز له الاجتهاد والفتوى، وبقي علينا أن نعرف أن المجتهد لا يجوز له أن يهجم على الفتوى إلا بعد أن ينظر ما يجب عليه النظر فيه من الأمور الآتية :
1- النظر في نصوص الكتاب الكريم، فإن وجد نصاً فهو المراد وإلا ففي نصوص الأخبار المتواترة، وإلا ففي نصوص أخبار الآحاد.
2- فإن عجز عن العثور على نصّ انتقل إلى الظاهر، فينظر في ظواهر الكتاب، فإن وجد فيها ظاهراً عمل به وأفتى بمقتضاه، وإلا انتقل إلى ظواهر الأخبار المتواترة، ثم ظواهر الآحاد.
ويجب عليه أن يراعي فيما ينظر من الكتاب والسنة ما ذكرناه من الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص وغير ذلك من الأمور.
3- فإن لم يجد في الكتاب والسنة القولية ، ثم الفعلية ، ثم التقريرية ، انتقل إلى الإجماع فإن وجد المجتهدين قد أجمعوا على حكم نصوا عليه اكتفى به وعدل عن الاجتهاد .
4- فإن لم يجد إجماعاً انتقل إلى القياس والاجتهاد، ويجب عليه أن يراعي فيه ما يرجح به القياس على قياس آخر، وما ترجح به علة على علة أخرى ، ليعمل بالراجح من الأقيسة والعلل دون المرجوح على ما قدمناه في مباحث الترجيح .
مجتهد المذهب:(288)
ومرتبته دون مرتبة المجتهد المطلق .
وهو الذي يتمكن من تخريج الوجوه التي يبديها على نصوص إمامه كأن يقيس ما سكت عنه الإمام على ما نص عليه لوجود معنى ما نص عليه فيما سكت عنه، بدخوله تحت عمومه، أو اندراجه تحت قاعدة عامة من قواعده.
وقد يقوم مجتهد المذهب باستنباط الأحكام الشرعية مباشرة من نصوص الشرع، متقيداً بقواعد إمامه الأصولية، وملتزما لها، وتسمى أقواله بالوجوه.
ومن أصحاب الوجوه في مذهبنا .
الإمام الأنماطي، عثمان بن سعيد المتوفى عام 288هـ.
الإمام ابن سريج ، أحمد بن عمر المتوفى عام 306هـ.
الإمام الإصطخري ، أبو سعيد الحسن بن أحمد المتوفى عام 328هـ.
الإمام ابن القاص، أحمد بن أحمد بن أحمد، المتوفى عام 335هـ.
الإمام ابن أبى هريرة ، أبو على ، الحسن بن الحسين ، المتوفى عام 345هـ.
الإمام أبو الطيب بن سلمة المتوفى عام 308هـ.
مجتهد الفتيا:(289)
ومرتبته دون مرتبة مجتهد المذهب.
وهو المتبحر في مذهب إمامه، المتمكن من ترجيح أقوال إمامه بعضها على بعض، كما أنه متمكن من ترجيح وجوه الأصحاب بعضها على بعض.
وقد يكون له اجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، شأنه شأن أصحاب الوجوه من مجتهدي المذاهب .
وذلك كالإمام أبي القاسم الرافعي المتوفى عام 624هـ.
والإمام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى عام 676هـ .
تجزئة الاجتهاد: (290)
والمراد به أن يحصل لبعض العلماء قوة الاجتهاد في بعض أبواب العلم، بأن يعرف أدلتها، ويتمكن من النظر فيها وتقريرها، دون أدلة غيرها.
فهل يجوز لهذا العالم أن يجتهد في الباب الذي تمكن من أدلته وإن كان لا يتمكن من الاجتهاد في غيره م لا بد له ليصح اجتهاده في باب من الأبواب أن يكون قادراً على الاجتهاد المطلق ؟
ذهب الأكثرون من العلماء ، وهو الصحيح المختار ، إلى أنه يجوز له أن يجتهد في هذا الباب الذي عرف أدلته ، وأتقنها ، وتمكن من النظر فيها كما لو أتقن الإنسان أبواب الفرائض، أو النكاح، أو الحج مثلاً.
وأما من أتقن مسألة واحدة ، وليس باباً من العلم ، فهذا لا يجوز له الاجتهاد فيها على ما قاله الزركشي ، وجعله خارجا عن محل النزاع .
والظاهر أنهم منعوه في المسألة الواحدة ، لأن مسائل الباب الواحد مترابطة بعضها ببعض ، ولا يكون بإمكان المرء أن يفرد مسألة واحدة عن نظائرها وأشباهها في ذلك الباب والله أعلم .
اجتهاد النبي – r -:(291)
اتفق العلماء على جواز الاجتهاد فيما يتعلق بمصالح الدنيا، وأمور الحرب، ونحوها، وذلك كما ثبت عنه – r – من إرادته أن يصالح غطفان على ثمار المدينة،كذلك ما عزم عليه من ترك تلقيح ثمار المدينة، ونزوله دون الماء في غزوة بدر وغير ذلك ، مما لا شك فيه ولا خلاف .
ثم اختلفوا في جواز الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام في الفروع، فيما لا نص فيه والصحيح المختار جواز الاجتهاد له ووقوعه .
قال الله تعالى: } وشاورهم في الأمر { والمشاورة إنما تكون فيما يحكم فيه بالاجتهاد، لا بالنص، لأن ما سبيله النص لا اجتهاد فيه ولا مشاورة.
وقال تعالى : } ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض { وذلك في شان أساري غزوة بدر ، وكان رسول الله – r – قد قضى فيهم بالفداء ، خلافاً لعمر الذي أشار بقتلهم ، ولذلك قال رسول الله – r – : ” و نزل من السماء إلى الأرض عذاب ، لما نجا منه إلا عمر ” وهذا دليل على أن الأمر كان من رسول الله – r –
بالاجتهاد، لا الوحي.
وقال تعالى : } عفا الله عنك لم أذنت لهم { وهذا عتاب على الإذن لمن ظهر منه النفاق في التخلف عن غزوة تبوك ، ولا يكون العتاب إلا فيما هو ناتج عن الاجتهاد لا عن النص والوحي .
وبناء على جواز اجتهاده عليه الصلاة والسلام ووقوعه ، فالصحيح الذي ندين به الله أن اجتهاده لا يخطئ ، تنزيها لمنصب النبوة ، فإن القول بجواز الخطأ عليه غض من منصب النبوة ، يتجافى عنه لسان المؤمن .
وأما ما ورد من الآيات مما ظاهره الخطأ ، فقد خرَّجها العلماء على وجوه لا يتسع لها المقام ، ويمكن الرجوع إليها في مظانها من كتب العلم .
الاجتهاد في عصره عليه الصلاة والسلام :(292)
وكما اختلفوا في جواز الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام، اختلفوا في جواز الاجتهاد في زمانه لأمته – r – بناء على أن المعاصر له قادر على معرفة الحكم يقيناً بسؤاله رسول الله، وفي هذه الحالة لا حاجة إلى الاجتهاد الذي لا يفيد غير الظن.
والصحيح أن الاجتهاد جائز لأمته في عصره – r – والقدرة على اليقين لا تمنع من العمل بالظن، كما كان عليه الصلاة والسلام يرسل رسله إلى الأمصار آحاداً فيعمل الناس بمقتضى أخبارهم المفيدة للظن مع القدرة على اليقين بسؤال رسول الله – r – ولقد تعبد الله الأمة بالظن إجماعا.
والصحيح بناء على جواز الاجتهاد في حضرته أن الاجتهاد قد وقع للقريب منه والبعيد عنه على السواء.
كما في حديث معاذ حين بعثه – r – إلى اليمن وأقره على الاجتهاد ، وكما حدث في تحكيم سعد بن معاذ في بني قريظة فقضى بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم فقال رسول الله – r – : (( ولقد حكمت فيهم بحكم الله )) كما رواه البخاري ومسلم ، وفي هذا أدل الدليل على جواز الاجتهاد للقريب والبعيد، لأنه إذا وقع قطعاً في حالة القرب كما في تحكيم سعد، ففي حالة البعيد من باب أولى كما في قصة معاذ .
الفصل الثاني
في أحكام الاجتهـاد
1 – الاجتهاد في العقليات:(293)
والمراد بالعقليات ما لا يتوقف على السمع، كحدوث العالم، ثبوت الباري، وصفاته، وبعثه الرسل، مما هو من قواعد العقائد.
وهذه لا خلاف بين العلماء في أن المصيب فيها واحد، ولا عبرة بما يروى عن العنبري في هذه المسألة، والشرع لا يخضع لأقوال البشر، فهو حاكم، وليس محكوماً عليه فمن جحد شيئاً من هذه الأمور كان كافراً قطعاً ، خارجاً من ملة الإسلام سواء اجتهد أم لم يجتهد ، فالاجتهاد لا يغير الحقائق ، ولو كان كل مجتهد مصيباً في العقليات لبطلت الرسالات كذب الرسل والأنبياء ولكان اليهود والنصارى، والمجوس على حق وفي هذا تكذيب صريح لكتاب الله وسنة رسول الله وإبطالٌ للدين ، وهدمٌ لأسه وقاعدته .
قال تعالى : ﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ﴾.
وقال: ﴿ فريقاً هدى، وفريقا حق عليهم الضلالة، أنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون ﴾.
وقال ﴿ ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم ﴾.
2 – الاجتهاد في الشرعيات القطعية :
وهي الأمور الشرعية ، التي قام عليها الدليل القاطع ، وأصبحت معلومة من الدين بالضرورة ، بحيث لا تخفى على إنسان ، كالصلوات الخمس ، والصيام ، والحج ، والزكاة ، والزنا ، وغير ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة .
وهذه أيضاً لا خلاف في أنها غير خاضعة للاجتهاد ، على معنى أن الحق فيها واحد ، والمصيب واحد ، لا تتغير بالاجتهاد ، فمن اجتهد فأصابها ، فهو على الحق ، ومن اجتهد فأخطأها ، فهو كافر ، لأنه لم يصادف الحق قطعاً .
3 – الاجتهاد في الشرعيات الظنية:(294 )
وهي المسائل التي لم يقم عليها دليل قاطع، ولا هي معلومة من الدين بالضرورة وقد اختلف فيها الأصوليون خلافاً واسعاً فقيل كل مجتهد مصيب ، وقيل غير ذلك .
والحق الصحيح الذي ندين الله به، هو ما ذهب إليه الجمهور، من أن المصيب فيها واحد، وأن ما سواه مخطئ.
وهو الذي ذهب إليه الأئمة الأربعة أبو حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد، والصحيح أن لله تعالى في الواقعة حكماً قبل اجتهاد المجتهدين وأن على هذا الحكم أمارة ودليلاً، كلف المجتهد بإصابته.
فإن اجتهد المجتهد، وأصاب حكم الله في الواقعة، فله أجران وإن اجتهد وأخطأ ، فليس بآثم ، بل هو مأجور بأجر واحد .
روى البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه أن رسول الله – r – قال : (( إذا اجتهد الحاكم وأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد وأخطأ ، فله أجر واحد )).
4 – شروط الثواب في الاجتهاد:(295)
ذكرنا أن المجتهد إذا أصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد ،وليس هذا على إطلاقه بل بشرط أن يبذل المجتهد وسعه ، فإن قصَّر في الاجتهاد ، فأخطأ ، فإنه آثم بالإجماع ، لأن الخطأ ناتج عن تقصيره ، لا عن الخفاء في الحكم .
ومن هذا القبيل بل من باب أولى اجتهاد من ليس بأهل للاجتهاد ، كما هو حاصل اليوم من كثير من المتفيهقين ، فإن الإنسان إذا لم يكن أهلاً للاجتهاد ، كان آثما في اجتهاده ولو أصاب حكم الله ، لأنه إن أصابه فإنما يكون قد أصابه مصادفة ، بالجرأة على شرع الله .
وهذا مصداق قول رسول الله – r – : (( حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جُهَّالاً فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلوا ، وأضلوا)) .
5 – تغير الاجتهاد ونقضه:(296)
إذا اجتهد المجتهد في مسألة، ثم تغير اجتهاده فيها بعد مدة، فهل يجوز له أن يعمل باجتهاده الثاني، وهل ينتقض اجتهاده الأول، وما هو موقف من قلده، أو عمل بمقتضى ما حكم به إذا كان المجتهد حاكماً ؟
صور كثيرة متعددة، تختلف باختلاف حالة الاجتهاد الأول والثاني وهي :
أ – اجتهاد الحاكم ونقضه :
إذا اجتهد الحاكم في واقعة ما وحكم بها، ثم تغير اجتهاده بعد ذلك، وبان له أن اجتهاده الأول خطأ أو جاء حاكم آخر بعده، وحكم بنقيض حكمه فإنه في كلا الحالتين لا يجوز نقض ما حكم به في الاجتهاد الأول، ما دامت المسألة في مظنة الاجتهاد سواء أكان هو الذي تغير اجتهاده، أم الحاكم الجديد الذي جاء بعده.
وإنما منعنا نقض الاجتهاد الأول لمصلحة الحاكم لأننا لو فتحنا هذا الباب ونقضنا الحكم الأول لا نأمن أن يأتي حاكم ثالث فيخالف في الاجتهاد أو يتغير اجتهاد الحاكم نفسه ثانية وهذا سيؤدي إلى نقض ما نقضنا به وهذا ممتنع لأنه قد يجرنا إلى ما لا نهاية له من التناقضات ويؤدي إلى اضطراب أحوال القضاء وعدم استقرار الحقوق ونزع الثقة من الحكام والقضاة .
ونحن إنما منعنا نقض الاجتهاد بالاجتهاد ما دام الاجتهاد في المسائل المظنونة ، فأما إذا تغير الاجتهاد بقاطع وبان لنا خطأ الاجتهاد الأول قطعاً فإنا في هذه الحالة ننقض الاجتهاد الأول وفي هذه الحالة لا يكون نقض اجتهاد باجتهاد وإنما هو نقض اجتهاد بقاطع أبان لنا خطأ الاجتهاد الأول ولا عبرة بالظن البين خطأه ، والقواطع هي :
1 – مخالفة نص .
2 – مخالفة إجماع صحيح صريح .
3 – مخالفة قياس جلي .
4 – مخالفة ظاهر جلي .
كما أننا ننقض حكم الحاكم في الحالات التالية:
1 – إذا كان مجتهداً، إلا أنه لم يعمل باجتهاده، وإنما قلد غيره في الواقعة التي حكم فيها، وذلك لأنه لا يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهداً.
2 – إذا كان الحاكم مقلداً لإمام مُعيَّن كالشافعي مثلاً، إلا أنه حكم بخلاف نصوصه في المسألة، دون أن يقلد الشافعي أو غيره من الأئمة، وإنما نقضنا حكمه هنا، لأنه استقل برأيه، مع أنه لا يجوز له الاستقلال فيه، لعدم بلوغه رتبة الاجتهاد.
3 – إذا حكم بخلاف نصِّ إمامه الذي يقلده مقلداً غيره من الأئمة ، في المسائل التي لا يجوز الانتقال بالتقليد فيها ، وسنأتي في الباب الثاني إن شاء الله .
ب – الاجتهاد في حق النفس وتغيُّره:
ما ذكرناه في الفقرة السابقة إنما هو اجتهاد الحاكم بالنسبة للآخرين، وما معنا الآن في اجتهاد المجتهد من أجل أن يعمل هو، أي في حق نفسه.
فإذا اجتهد في مسألة ، وأدَّاه اجتهاده فيها إلى حكم ما ، كأن كان اجتهاده أنه يجوز النكاح من غير ولي ، فنكح امرأة بناء على هذا الاجتهاد ، بدون وليِّها ، ثم تغير اجتهاده وصار يعتقد أنه لا يجوز النكاح بغير ولي بناء على الاجتهاد الجديد ، وفي هذه الحالة تحرم عليه المرأة ويلزمه مفارقتها وإلا كان مستديماً لِحِلِّ الاستمتاع بما يعتقد تحريمه .
وما ذكرناه في حق المجتهد يُطَبَّق على مقلده، فيجب عليه ما يجب على المجتهد وبناء على ذلك، إذا اجتهد المجتهد في مسألة، وأفتى بها مقلده، ثم تغير اجتهاده، يجب عليه أن يخبر مقلده، باجتهاده الثاني ليعمل به.
وأما ما ترتب على الاجتهاد الأول بعد العمل به فإنه لا ينقض، بل يبقى على ما هو عليه، حتى لا يُنقض اجتهاد باجتهاد.
وكذلك لا يضمن المجتهد ما حدث من المتلفات بسبب اجتهاده الأول، لأنه معذور شرعاً، والمسألة في محل النظر.
وأما إذا تغير اجتهاده يقاطع مما ذكرناه في الفقرة السابقة فإنه يضمن، لأنه يُنسَب في هذه الحالة إلى التقصير في عدم البحث عن النصوص وغيرها.
جـ – اختلاف الاجتهاد بين مجتهدين:
إذا كان الزوجان الرجل والمرأة مجتهدين ، فقال الرجل لامرأته ، أنت بائن من غير نية للطلاق مثلاً ، وكان اجتهاده أن هذا للفظ الذي صدر منه كناية لا يقع بها الطلاق إلا إذا اقترن بالنية وبناء على ذلك فهو يعتقد أن نكاحه باقٍ وكان اجتهادها هي أنه صريح ، لا يحتاج إلى نية ، وأن الطلاق قد وقع به ، فما العمل في هذه الحالة ؟
قالوا: للزوج حق طلب الاستمتاع بها، بناء على اجتهاده، وهي لها حق الامتناع منه بناء على اجتهادها.
وفي هذه الحالة يجب عرض المسألة على الحاكم ليحكم بينهما ، فما حكم به وجب اتباعه .
(286) جمع الجوامع : 2/382، نهاية السول : 3/199 ، المحصول : 6/30 ، الأحكام : 4/218
( 287) جمع الجوامع : 2/384 ، نهاية السول : 3/201
(288) جمع الجوامع : 2/385.
(289) جمع الجوامع : 2/385
(290) جمع الجوامع : 2/386.
(291) جمع الجوامع : 2/386، المحصول : 6/9، نهاية السول : 3/192، الحكام : 4/222
(292) المحصول : 6/25، نهاية السول : 3/196 ، الأحكام : 4/235 ، جمع الجوامع : 2/387 .
(293) المستصفى : 2 /359 ، التبصرة ، 401 ، الأحكام : 4 / 239 ، المنتهى : 163 ،
المحصول : 6 / 41 ، الإبهاج ونهاية السول : 3 /189 ، فواتح الرحموت :
2/401 ، جمع الجوامع : 2 /388 .
(294) جمع الجوامع: 2 /389، الأحكام: 4 / 246، المحصول.
(295) جمع الجوامع : 2 /390 .
(296) جمع الجوامع : 2/391 ، المحصول : 3 /90 ، الأحكام : 4 / 273 ، نهاية السول :
3/209 .