الباب الرابع في العموم والخصوص / العموم، تعريف العام، دلالة العام، صيغ العموم، معيار العموم،….
الباب الرابع
في العموم والخصوص
وفيه فصلان
الفصل الأوّل
في العموم
وفيه مسائل
المسألة الأولى
في تعريف العــام
العام: لفظ، يستغرق الصالح له، من غير حصر(89).
فقولنا: لفظ، يخرج المعنى، لأن العموم من عوارض الألفاظ على الأصح، دون المعاني.
يستغرق الصالح له: أي يتناول كل فرد مما يصلح لدخوله فيه دفعة واحدة.
فخرج بذلك المطلق، لأنه لا يدل على شيء من الأفراد فضلاً عن أن يستغرقها .
وخرجت النكرة في سياق الإثبات، مفردة كانت، أو مثناة، أو مجموعة، أو اسم عدد، كرجل، ورجلين، ورجال، وعشرة، فإنها تتناول ما تصلح له، ولكن على سبيل البدل، لا على سبيل العموم والاستغراق، وذلك نحو قولك : أكرم رجلا، وتصدقْ بعشرة دراهم، فإن الرجل لا يستغرق جميع الرجال، وكذلك العشرة، لا تستغرق جميع العشرات، والمأمور يخرج من العهدة بإكرامه رجلا واحداً، دون تعيين له، وبتصدقه بعشرة واحدة، دون تعيين لها .
من غير حصر: هذا قيد خرج به اسم العدد من حيث استغراقه لآحاده، فإنه لا شك يستغرقها، ولكن بحصر، كالعشرة مثلاً، فإنها تستغرق آحادها، ولكن لا تزيد عليها، فهي محصورة، ولا كذلك العموم، فإنه يستغرق كل ما يصلح له من غير حصر . وذلك كما لو قال القائل : لا تكرم الملاحدة، فإنه نهي عن إكرام كل من يصدق عليه أنه ملحد، بدون استثناء .
ويدخل في هذا الحد
اللفظ المستعمل في حقيقته كالقرء مثلاً الشامل لأفراد الحيض والطهر، كما يدخل فيه اللفظ المستعمل في حقيقته ومجازه، فيكون اللفظ شاملاً لأفراد المعنى الحقيقي، والمعنى المجازي، وذلك كاللمس، فإنه يراد به الجس باليد، والوطء.
ويدخل فيه اللفظ المستعمل في مجازيه، فيكون شاملاً لأفراد المعنيين المجازيين، كالشراء، المراد به السوم، والشراء بالوكيل .
كما يدخل فيه أيضا المشترك المستعمل في أحد معنييه، إذا قامت القرينة على أن المراد به أحد المعنيين، إذ هو مع قيام القرينة لا يصلح للمعنى الثاني. فإذا كان عاماً استغرق جميع ما يصلح له .
دخول الصورة النادرة وغير المقصودة في العموم
عرفنا أنَّ العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له،إلا أنه في بعض الحالات يطلق اللفظ العام، وتكون هناك بعض الأفراد النادرة، التي لا يتبادر إلى الذهن إرادتها، كما يوجد بعض الأفراد التي لم يقصدها المتكلم في كلامه، فهل تدخل هذه الصورة النادرة، بناء على استغراق اللفظ لجميع ما يصلح له ندر أو اشتهر، قصده، أم لم يقصده، أم لا تدخل، بناء على ندرتها وعدم قصدها .
اتفق الأصوليون على أن هذه الصورة النادرة، والصورة التي لم تقصد تدخل في العموم قطعاً إذا قامت القرينة على قصدها، وتخرج منه قطعاً، إذا قامت القرينة على عدم إرادتها .
وبقي ما إذا لم تقمْ القرينة، وذلك كالفيل في الصورة النادرة، فإنه ذو خف، وقد تقع المسابقة به إلا أنها نادرة، فهل يدخل في قول رسول الله ـ r ـ : ( لا سبق إلا في خف، أو نصل، أو حافر ) فيشمله الحكم، ويصح السبق به، بناء على عموم اللفظ وتناوله، أم لا يدخل بناء على ندرته .
جمهور الأصوليين على أنه داخل، مراعاة لشمول اللفظ وعمومه، ما لم تقم القرينة على عدم إرادته.
ومثال الصورة التي لم تقصد، وتدرك بالقرينة، ما لو قال الموكل لوكيله: اشترِ عبيد فلان، وفيهم من يعتق عليه من أب أو أم، إلا أنه لم يعلم به حالة التوكيل.
فالصحيح عند الأصوليين دخول الصورة التي لم تقصد، وعليه يصح الشراء، ويعتق عليه من يعتق بالملك (90) .
دلالة العام(91):
العام إما أن تقوم دليل على انتفاء تخصيصه، أو لا يقوم، فإن قام دليل على انتفاء تخصيصه، فإنه يكون قطعي الدلالة على كل أفراده، اتفاقاً، وذلك كقوله تعالى : ) والله بكل شيء عليم ( فقد قام الدليل العقلي على انتفاء تخصيصه، وعليه فإن علمَ الله متعلق بكل شيء قطعاً، وكقوله تعالى : ) ولله ما السموات وما في الأرض ( فقد قام الدليل العقلي على عدم تخصيصه، وعليه فإن دلالة الآية على ملكية الله لكل شيء في السموات والأرض قطعية، اتفاقا .
وأما إذا لم يقم الدليل على انتفاء التخصيص عن العام، فإنه في هذه الحالة يدل على أصل المعنى دلالة قطعية، وذلك كدلالة العموم على الواحد، فيما ليس بجمع، ودلالته على الثلاثة فيما هو جمع.
لأنه لا يحتمل خروجه بالتخصيص، كما سيأتي، بل ينتهي إليه التخصيص، ولو خرج من الحكم لكان نسخاً لا تخصيصاً، ولذلك كانت الدلالة عليه قطعية.
وأما دلالته على جميع الأفراد، فدلالة ظنية، لاحتمال ورود التخصيص عليها، وإن لم يظهر لنا المخصِّص الآن، وذلك لكثرة التخصيصات في العمومات .
وذهب الحنفية إلى أن دلالة العام على جميع أفراده، فيما لم يقم الدليل على انتفاء التخصيص عنه، أيضا قطعية، للزوم معنى اللفظ له قطعاً، حتى يظهر خلافه، من تخصيص في العام، أو غير ذلك.
عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأزمنة والبقاع(92) :
إذا كان اللفظ عاماً في الأشخاص، كقوله تعالى : ) الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ( ) السارق والسارقة فاقطعوا ( فإن الزاني، والسارق، وغيرهما من الأشخاص لا غنى له عن الزمان، والمكان، والحال، إذ هذه الأمور لازمة له، ولذلك كان العموم في الأشخاص يستلزم العموم في الأحوال، والأزمنة، والبقاع، أي فاجلدوا واقطعوا على أي حال، وفي أي زمان ومكان .
وقوله تعالى : ) لا تقربوا الزنا ( أي لا يقربه كل منكم على أي حال وفي أي زمان ومكان .
وقوله تعالى: ) فاقتلوا المشركين ( أي اقتلوا كل مشرك، على أي حال وفي أي زمان ومكان .
ويستثنى من ذلك ما يخصه الدليل، كأهل الذمة، والزاني المحصن إذ يرجم بدلا من أن يجلد.
المسألة الثانية
في صيغ العموم
العموم الثابت بالألفاظ ـ على ما ذكرناه من أنه من عوارض اللفظ حقيقة ـ ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون ثابتاً بنفسه لغة.
القسم الثاني: أن يكون ثابتاً عرفاً.
القسم الثالث: أن يكون ثابتاً عقلاً.
وسنتكلم على كل قسم من هذه الأقسام(93) .
القسم الأول : وهو في العموم المستفاد من وضع اللغة، وله حالان :
الحالة الأولى: أن يكون مستفاداً من وضع اللغة بنفسه، بدون قرينة يحتاج إليها، وهو أنواع، منها ما يكون عاماً في غير العاقل، ومنها ما يكون عمومه في الزمان أو المكان.
النوع الأول: وهو ما يكون عاماً في العاقل وغيره على السواء، وله ألفاظ تدل عليهن وهي:
1. كل : وهي أقوى صيغ العموم، وذلك نحو قوله تعالى : ) كل نفس ذائقة الموت ( وقوله : ) كل حزب بما لديهم فرحون ( وقوله : ) إنْ كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً ( .
2. أي : سواء أكانت استفهامية، وذلك نحو قوله تعالى : ) أيكم زادته هذه إيمانا ( أم شرطية، وذلك نحو قولنا : ( أي رجل جاهد فله الجنة ) وفي غير العاقل : ( أي ثوب تلبسه يناسبك ) .
3. الذي : مفرداً كان نحو قولنا : ( أكرم الذي جاءك ) أو مثنى نحو قوله تعالى : ) واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ( أو جمعاً نحو قوله تعالى : ) والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ( .
4. التي: نحو: قولنا: ( أكرم التي تأتيك ) أي كل آتية.
5. جميع: نحو: ( جاء جميع القوم ).
6. سائر : المأخوذة من سور المدينة نحو : ( خرج سائر القوم للجهاد ) لا المأخوذة من السؤر، وهو البقية .
النوع الثاني : وهو ما يكون عاماً في العاقل خاصة، حقيقة، وقد يستعمل في غيره مجازاً، وهو ( من )، وهي تعم الذكور والإناث، والأحرار والعبيد، شرطية كانت نحو قوله تعالى : ) من يعمل سوء يجز به ( أم استفهامية، نحو قوله تعالى : ) من بعثنا من مرقدنا (، أم موصولة نحو قوله تعالى:) ولله يسجد من في السموات والأرض ( .
النوع الثالث: وهو ما يكون عاماً في غير العاقل حقيقة، وقد يستعمل في غيره مجازاً، وهو: ( ما ).
شرطية كانت نحو قوله تعالى: ) وما تفعلوا من خير يعلمه الله (. أو موصولة نحو قوله تعالى: ) ما عندكم ينفد وما عند الله باق ( أو استفهامية نحو قوله تعالى : ) ما خطبكم أيها المرسلون ( .
النوع الرابع: وهو ما يكون عاماً في الأزمنة خاصة، وهو ( متى ) استفهامية، نحو قوله تعالى: ) متى هذا الوعد ( أو شرطية وذلك نحو قولنا: (متى جئتني أكرمتك) .
النوع الخامس : وهو ما يكون عاماً في الأمكنة مثل : ( أين ) استفهامية كانت نحو قوله تعالى : ) أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ( أو شرطية، نحو قوله تعالى ) أين ما تكونوا يأت بكم الله ( .
وكذلك ( حيثما ) الشرطية، في قوله تعالى ) وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره(.
الحالة الثانية: أن يكون العموم مستفاداً من وضع اللغة، ولكن لا بنفسه، وإنما بقرينة تنضم إليه، وهذه القرينة قد تكون في الإثبات، وقد تكون في النفي.
أ- العموم المستفاد من القرينة في الإثبات :
1. الجمع إذا دخلت عليه الألف واللام، أي الجمع المعرف، وذلك نحو قوله تعالى: ) قد أفلح المؤمنون ( وقوله : ) وخسر هنالك المبطلون ( .
2. الجمع المعرف بالإضافة، كما في قوله تعالى : ) يوصيكم الله في أولادكم ( وقوله : ) أباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم اقرب لكم نفعاً ( ومنه قوله تعالى : ) خذ من أموالهم صدقة ( أي من كل نوع من أموالهم .
3. المفرد المعرف بالألف واللام، ويعبر عنه باسم الجنس نحو قوله تعالى: ) وأحل الله البيع ( وقوله : ) أن الإنسان لفي خسر ( وقوله : ) الزانية والزاني ( .
4. المفرد المعرف بالإضافة، كقوله تعالى: ) فليحذر الذين يخالفون عن أمره (، أي عن كل أمر الله .
ب- العموم المستفاد من القرينة في النفي :
ويكون هذا في النكرة إذا وقعت في سياق النفي، سواء أكان بـ ( ما ) أو ( لم ) أو ( لن ) أو ( ليس ) أو غير ذلك.
إلا أن دلالته على العموم تكون نصاً إن بنيت على الفتح نحو ( لا رجل في الدار ).
وتكون دلالتها عليه ظاهراً، إن لم تبن على الفتح نحو: ( ما في الدار رجل ).
ويشرك النفي ما في معناه، كالنهي في قولنا: ( لا تضرب أحدا ) والاستفهام الإنكاري، نحو قوله تعالى: ) هل تعلم له سمياً ( وقوله: ) هل من خالق غير الله ( وقوله: ) هل تحس منهم من أحد ( .
وكالنكرة في سياق النفي النكرة في سياق الشرط، كما في قوله، تعالى : ) وإنْ أحد من المشركين استجارك فأجرْه ( .
القسم الثاني: وهو في العموم المستفاد لا من وضع اللغة، وإنما من العرف. ويكون ذلك في مفهوم الموافقة الأولى والمساوى، وذلك في نحو قوله تعالى : ) فلا تقل لهما أف ( فاللفظ وارد في التأفيف، إلا أن العرف نقله إلى جميع أنواع الأذى التي تكون الإيذاء فيها أوضح وأبين، كالضرب وغيره .
ونحو قوله تعالى : ) إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ( فان اللفظ ورد في الأكل، إلا أن العرف عمَّّّّمَه على جميع الاتلافات التي تساوي الأكل في إلحاق الضرر بمال اليتيم، وهذا بناء على أن المفهوم مستفاد من العرف .
كما يكون ذلك في نحو قوله تعالى : ) حرمت عليكم أمهاتكم ( ) وحرمت عليكم الميتة ( مما ورد الحكم فيه على العين، إذ نقله العرف من تحريم العين إلى تحريم جميع وجوه الاستمتاع، وذلك لأن الحكم يتعلق بأفعال العباد، لا بالأعيان، كما أن المقصود من النساء هو الاستمتاع دون غيره .
القسم الثالث: وهو في العموم المستفاد من العقل.
وضابط هذا القسم، هو أن يرتب الحكم على الوصف، فيشعر بعلية الوصف لذلك الحكم.
وذلك نحو ( اقطع يد السارق ) و( أكرم العالم ) و ( حرمت الخمر للإسكار ) فإن الحكم وهو القطع، والإكرام، والحرمة، مرتب على وصف وهو السرقة، والعلم، والإسكار، وهذا يشعر بأن هذه الأوصاف هي العلة التي من أجلها شرع الحكم، وهذا يقتضي عقلاً وجود الحكم كلما وجدت العلة، وانعدامه عند انعدامها، شأن العلة مع المعلول، وهذا هو العموم المستفاد بواسطة العقل، إذ لا تدل هذه الألفاظ على العموم لغة لولاه .
معيار العموم
إن الميزان الذي نعرف به أن اللفظ عام أولا، هو جواز الاستثناء منه، فكل ما جاز الاستثناء منه، كان عاماً، وما لا يجوز الاستثناء منه فليس بعام. وذلك كما في قوله تعالى : ) إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( فإن الاستثناء في الآية دلنا على أن كلمة ( الإنسان ) عامة، وهي اسم جنس حلِّى بالألف واللام، إذا لو لم تكن عامة لما جاز الاستثناء منها، أو بالأحرى لولا الاستثناء لكان كل إنسان في خسر، سواء أكان مؤمناً أم كافراً، وهذا هو العموم، ولذلك جاء الاستثناء لإخراج المؤمن من الخسار .
وهذا معنى قولهم: ( معيار العموم الاستثناء ) (94).
الجمع المنكر
وبهذه القاعدة عرفنا أن الجمع المنكر ليس بعام، إذ نص النحاة على عدم جواز الاستثناء في قولنا: ( جاء رجال إلا زيداً ) ولو كان عاماً لجاز الاستثناء منه على القاعدة في معيار العموم(95).
أقل الجمع :
ولما كان الجمع المنكر ليس بعام وجب حمله على أقل الجمع، لأنه هو المحقق فيه، والأصح أن أقل الجمع ثلاثة (96) .
والكلام في جمع القلة لا جمع الكثرة .
وأما جمع الكثرة فأقله أحد عشر، إلا أنه جرى في العرف إطلاق دراهم على ثلاثة، مع أنها جمع كثرة، ولذلك يقبل تفسير من أقر بدارهم ـ أنها ثلاثة عرفاً ـ.
وقد يقال: إن جمع القلة والكثرة متفقان في المبدأ وهو الثلاثة، فيجوز حملها عليه، إلا إنهما مختلفان في المنتهى، فمنتهى جمع القلة العشرة، ولا نهاية لجمع الكثرة.
فإذا ما أقر إنسان بدراهم، جاز تفسيرها على هذا القول، من غير حاجة إلى التجوز والعرف، بل بطريق الحقيقة .
وعلى كلا الحالين يجوز في الأصح إطلاق الجمع المنكر ولو على الواحد مجازاً، والله أعلم .
العام المسوق لغرض(97)
العام إذا سيق لغرض، كالمدح، والذم غير ذلك، فهل يعتد بعمومه، ويعمل به، بناء على مقتضى الصيغة، أم لا يعمل به، لغرض المدح أو الذم الذي سيق من أجله، ويكون هذا قرينة تصرفه عن العموم ؟
الجمهور على أنه إذا سيق لغرض كالمدح والذم، يبقى على عمومه، ولا يكون المدح أو الذم صارفاً للصيغة عن عمومها.
وذلك كقوله تعالى: ) إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم ( وقوله تعالى: ) والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ( .
فالأبرار، جمع حلى بالألف واللام، فأفاد العموم، وهو شامل لكل بار، وكونه سيق للمدح لا يصرف الصيغة عن مدلوله، وكذلك الفجار، وكونه سيق للذم لا يخرج الصيغة عن مدلولها.
وهذا كله إن لم يعارضه عام آخر، فإن عارضه، لم يعم فيما عورض فيه، وهذا كقوله تعالى: ) والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت إيمانهم ( . فظاهر هذه الآية وقد سيقت لمدح المؤمنين يعم الأختين بملك اليمين إذا جمع بينهما، إلا أن هذا معارض بعموم آخر، وهو قوله تعالى : ) وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ( فإنه حرَّم الجمع بين الأختين، ولو كانتا مملوكتين، ولذلك حمل عموم الأول على ما إذا لم تكونا أختين .
التعميم في نفي المساواة بين شيئين(98)
إذا وردت صيغة تنفي المساواة بين شيئين كقوله تعالى : ) أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون ( وقوله تعالى:) لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ( فهل هو عام في كل الأمور التي يمكن نفيها، فننفي جميع وجوه الاستواء، أو ليس بعام، فننفي بعضها ؟ .
ذهب الجمهور إلى أنه عام، وعليه فهو لنفي جميع وجوه الاستواء الممكنة.
وذلك لأن النكرة في سياق النفي للعموم، والفعل في سياق النفي، كالنكرة في سياقه، لأن الفعل يتضمن مصدراً منكراً منسبكاً من جملته، فمعنى لا يستوون : أي لا يثبت استواء بينهما، أو لا استواء بينهما، وهذا معنى قولهم : الفعل في سياق النفي للعموم، لأنه نكرة، أي لأنه متضمن لها، وإلا فالتنكير من خواص الأسماء .
وينبني على هذا أنه لا يقتل المسلم بالذمي، لأنه لا استواء بينهما، إذ الأول من أصحاب الجنة، والثاني من أصحاب النار، وقد نفى الله استواءهما.
العموم في لا أكلت(99)
إذا حلف الإنسان على الأكل فقال: والله لا آكل، فإن قصد شيئاً معيناً وتلفظ به، كالتمر مثلاً في قوله، والله لا آكل التمر، فإنه لا يحنث بأكل غيره اتفاقاً.
وكذلك إذا لم يتلفظ به، لكن أتى بمصدر، ونوى به شيئاً معيناًن وذلك كقوله: والله لا آكل أكلاً، إلا أنه نوى به شيئاً معيناً، فإنه لا يحنث بالأكل من غيره، اتفاقاً.
وأما إذا لم يأت بالمصدر، بل قال : والله لا آكل، إلا أنه نوى به شيئاً كالتمر مثلاً، فالأصح انه لا يحنث بالأكل من غيره، لأن لا آكل للعموم، فهو قابل للتخصيص بالنية، وهنا خصَّه بها .
إذن فالصيغة دالة على نفي جميع المأكولات، عامة فيها، وإلا لما جاز تخصيصها.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه يحنث بالتمر وغيره، لأن هذه الصيغة لا تفيد العموم، وعليه فهي غير قابلة للتخصيص.
وكقوله: لا آكل، قوله: إن أكلت فعبدي حر، فهو للمنع من جميع المأكولات، فيجوز تخصيصه بالنية، ويصدق في إرادته التخصيص.
فالفعل في سياق النفي أو الشرط يعم عموم النكرة في سياقهما.
العطف على العام(100)
إذا ورد لفظ عام، وعطف عليه لفظ آخر، فالأصح أنه لا يقتضي العموم في المعطوف، والاشتراك بين المعطوف عليه والمعطوف إنما هو في الحكم فقط، لا في صفته .
وعليه فقول رسول الله ـ r ـ : ( لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده ) لا يقتضي العموم في المعطوف، وهو قوله : ( ولا ذو عهد في عهده ) فيصير معناه : ولا ذو عهد في عهده بكافر، وإن كان المعطوف عليه عاماً .
ومقتضاه أنه لا يقتل المسلم بالكافر، سواء أكان حربياً أم ذمياً، أم غير ذلك.
لأن النفي سلط على الكافر، وهو نكرة والنكرة في سياق النفي تعم فيعم كل كافر، ذمياً كان أو حربياً.
وليس كذلك ذو العهد، فإنه يقتل بالذمي إجماعا، ويحمل الحديث على أنه لا يقتل ذو العهد في عهده بحربي.
فالاشتراك بينهما في الحكم وهو عدم القتل بالكافر، لا في صفته، وهي الحرابة وخالف في ذلك الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه.
وستأتي هذه المسألة في التخصيص .
العموم في الفعل المثبت(101)
قد عرفنا أن الفعل المنفي يعم، لأنه في قوة النكرة، وأما الفعل المثبت فإنه لا يعم، سواء اقترن بـ ( كان ) أو لم يقترن بها.
وبناء على ذلك فإن قول بلال ( إن النبي ـ r ـ صلى داخل الكعبة ) لا يعم صلاة الفرض والنفل، إذ لا يدل اللفظ على أكثر من صلاة واحدة صلاها في الكعبة، ويستحيل أن تكون الصلاة الواحدة فرضاً ونفلا .
وكذلك حديث أنس ( أن النبي ـ r ـ كان يجمع بين الصلاتين في السفر ) لا يعم جميع التقديم والتأخير، لأن اللفظ لا يدل على أكثر من جمع واحد، ويستحيل أن يكون الجمع الواحد جمع تقديم وتأخير في وقت واحد .
وأما ما ورد من إفادة كان للتكرار في قوله تعالى في حق إسماعيل عليه السلام : ) وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة ( فإن التكرار هنا لم يستفد من اللفظ، وإنما استفيد بواسطة القرائن المحتفة بالكلام، إذ من المعروف أن الصلاة يجب تكرارها، وليس من المحتمل أن تكون لمرة واحدة .
العموم في اللفظ المعلق على على علة :(102)
إذا ورد لفظ علق حكمه على علة ما، فإن الحكم يوجد كلما وجدت العلة، إلا أن هذا ليس من قبيل العموم اللفظي، وإنما هو عموم من قبيل القياس.
وذلك كما لو قال الشارع : حرمت الخمر لإسكارها، فإن هذا لا يعم كل مسكر لفظاً، وإنما يعمه بواسطة القياس .
ترك الاستفصال(103) :
إذا وقعت واقعة مع شخص ما، ثم سأل عنها رسول الله ـ r ـ، فأجابه عليه السلام بحكمها، دون أن يسأله عن أحوالها، وعن كيفية وقوعها، أفادنا هذا أن الحكم عام، شامل لجميع أحوالها، وهو المعبر عنه بقول الشافعي رضي الله عنه ( ترك الاستفصال، في حكاية الحال، ينزل منزلة العموم في المقال ) .
ومثال ذلك أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم على عشر نسوة، فقال له رسول الله ـ r ـ : ( أمسك أربعاً، وفارق سائرهن ) ولم يسأله رسول الله ـ r ـ هل تزوجهن معاًً، أو مرتباً، فلو لم يكن الحكم عاماً للحالتين، لسأله رسول الله واستفصل عن حاله، ليعطيه حكم كل حال على حدة، فتركه للسؤال دليل على عموم الحكم للحالتين معاً، وأنه يجب عليه أن يمسك أي أربع شاء، سواء تزوجهن معاً أو مرتباً .
الخطاب الخاص بالنبي ـ r ـ(104):
إذا ورد الخطاب خاصاً بالنبي ـ r ـ ، نحو قوله تعالى: ) يا أيها النبي اتق الله ( وقوله تعالى : ) يا أيها المزمل قم الليل ( فالأصح انه لا يتناول أمته ـ r ـ، وأنه خاص به، إلا إذا قامت القرينة على إرادة دخول أمته في خطابه ـ r ـ ، وذلك كقوله تعالى : ) يا أيها النبي إذا طلقتم النساء( فإن القرائن دلت على دخول أمته ـ r ـ في خطابه، وأنها يجب عليها ما يجب عليه .
وعلى العكس من ذلك إذا قامت القرينة لتدل على أنه لا يراد من الخطاب رسول الله، وإنما المراد أمته، فإنه في هذه الحالة تكون الأمة هي المكلفة، وإن كان الخطاب موجهاً إليه، وذلك كقوله تعالى: ) لئن أشركت ليحبطن عملك ( .
إذن فخطاب النبي ـ r ـ حال الواحد بخصوصه، بحكم مسألة من المسائل، لا يتعداه إلى غيره على الأصح .
خطاب الناس يشمل رسول الله ـ r ـ(105):
إذا ورد الخطاب من الشارع إلى الناس، نحو قوله تعالى: ) يا أيها الناس ( فإنه يشمل رسول الله ـ r ـ، لأنه ممن يتناوله اللفظ لغة لعمومه، وليس بآمر، ولا مبلغ، بل الآمر الله، والمبلغ جبريل.
وسواء في ذلك اقترن اللفظ بـ ( قل ) أو لم يقترن، لأن لفظ ( قل ) مختص بالرسول ـ r ـ من جهة أمره بتبليغ غيره، وكأن معناه : بلغني من أمر ربي كذا، فاسمعوه وأطيعوه، والذي بلغه في نفسه عام، فلا يغيره أمر مختص بالرسول ـ r ـ في التبليغ .
وكما أن الخطاب بـ ( يا أيها الناس ) يشمل النبي ـ r ـ لعمومه، فإنه يشمل العبد الرقيق، والكافر، لدخولهما في عموم الناس.
وهذا الكلام فيمن كان حاضراً وقت الخطاب، وأما من لم يكن حاضراً، وإنما جاء بعد الخاطبين، فإن الخطاب لا يتناوله، لأنه لا يقال للمعدوم الذي لم يوجد يا أيها الناس.
وإذا كان هذا الخطاب لا يتناول الصبي والمجنون، مع وجودهما، لقصورهما عن الخطاب، فالمعدوم أولى بأن لا يتناوله هذا الخطاب.
ولا يعترض على هذا بأنهم مكلفون بالشريعة، كمن كلف في الصدر الأول على السواء، لأن تكليفهم إنما ثبت بدليل آخر، كالإجماع والقياس، لا بنفس الصيغة.
عموم جمع المذكر السالم للنساء(106) :
إذا ورد الخطاب بلفظ يختص الذكور، ويمتاز عن الإناث بعلامة، كالمسلمين في جمع المذكر السالم، فإنه لا يشمل النساء، ولا يدخلن فيه ظاهراً على الأصح عند الجمهور.
لأن الله تعالى عطفهن على الذكور في القرآن الكريم فقال: ) إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ( والعطف يقتضي المغايرة.
وأما دخولهن في معظم التكاليف التي وردت بمثل هذه الصيغة إنما هو بالقرينة، وهي أن اللفظ بهذه الصيغة ورد تغليباً للذكور، لا لاختصاص الحكم بهم دون النساء، فهذه القرينة هي التي أدخلتهن وليس الصيغة.
وهذا الكلام إنما هو في الجمع الذي يوجد فيه وصف يناسب الإناث كالمسلمين، إذ وصف الإسلام يناسب الإناث كالذكور، وأما ما ليس فيه هذا الوصف، فإنه لا يشملهن قطعاً، ولا خلاف فيه، وذلك كالزيدون مثلا .
وكذلك لا خلاف في عدم دخولهن في اسم الجمع كالقوم، وجمع المذكر المكسر كالرجال.
خطاب أهل الكتاب(107) :
إذا ورد الخطاب خاصاً بأهل الكتاب، وذلك كقوله تعالى: ) يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ( فإنه لا يشمل المسلمين، لتخصيص الشرع له بأهل الأديان السابقة ممن كان قبلنا من اليهود والنصارى.
وسواء أكان المخاطب به مما نشترك به معهم، أم ينفردون به عنا، وسواء أكان الخطاب من الله أم رسوله ـ r ـ .
وأما خطابهم على ألسنة أنبيائهم، فإنه مسألة شرع من قبلنا هل هي شرع لنا أم لا، وستأتي أن شاء الله .
دخول المتكلم في عموم متعلق خطابه(108):
إذا ورد الخطاب نحو المكلف بصيغة عامة، فهل يدخل المخاطب في عموم خطابه، كبقية المكلفين، أم لا ؟
الأصح عند جمهور الأصوليين انه يدخل، وانه يلزمه ما أمرهم به. وسواء في ذلك رسول الله ـ r ـ وغيره .
وعلى كل حال فالحكم في هذه المسألة القرائن، فإن من كان يتصدق بدراهم من ماله، فقال لمأموره: من دخل الدار فأعطه درهماً، فلا خلاف في أنه ينبغي أن لا يتصدق عليه من ماله، فحكمت القرينة هنا مع أن اللفظ صالح لأن يشمله مع غيره
ولو قال: من وعظك فاتعظ، ومن نصحك فاقبل نصيحته، فلا قرينة تخرج المخاطب، ولذلك إذا نصحه وجب عليه قبول نصيحته، بمقتضى أمره. والصيغة صالحة له .
العموم في قول الصحابي نهى رسول الله(109) :
إذا قال الصحابي: ( نهى رسول الله ـ r ـ عن بيع الغرر ) مثلا وقوله: ( قضى بالشاهد واليمين ) وما شابهما، لا يفيد العموم، لأن الحجة في الكلام المحكي، وهو كلام رسول الله ـ r ـ لا في الحكاية والمحكي قد يكون خاصاً فيتوهم الصحابي عمومه.
وكذا قوله قضيت بالشفعة للجار، لاحتمال كون أل العهد.
وأما إذا كان منوناً كقوله: ( قضيت بالشفعة لجار ) وقول الراوي: ( قضى بالشفعة لجارٍ ) فجانب العموم أرجح، والله أعلم.
(89) جمع الجوامع : 1/ 398 ، و المعتمد : 1 / 203 ، والقواطع : 145 ، والأحكام :
2 /286 .
(90) جمع الجوامع : 1 / 400 .
(91) جمع الجوامع 1 / 407 .
(92) جمع الجوامع : 1 / 408 .
(93) المحصول / 2 / 516 ، نهاية السول : 2 / 61 ، المعتمد : 1 / 206 ، الأحكام :
2 / 289 .
(94) جمع الجوامع : 1 / 417 ، نهاية السول : 2 /68 .
(95) التبصرة : 118 ، الإبهاج ونهاية السول : 2 / 68 ، المحصول : 2 / 614 ، جمع الجوامع
: 1 / 418 .
(96) جمع الجوامع : 1 / 419 ، الإبهاج ونهاية السول : 2 / 77 ، التبصرة : 127 ،
المحصول : 2 / 605 ، الأحكام : 2 / 324 ، وابن الحاجب : 1 / ق 368 – أ ، رفع
الحاجب ، المعتمد : 1 / 248 .
(97) التبصرة : 193 ، اللمع : 15 ، المعتمد : 1 /302 ، جمع الجوامع : 1 / 422 ،
الأحكام : 2 / 406 ، منتهى السول : 2 / 40 ، المنتهى : 87 ، رفع الحاجب : 1/ ق
435 – أ ، فواتح الرحموت : 1 / 283 .
(98) المعتمد : 1 / 249 ، المحصول : 2 /617 ، الأحكام : 2 / 360 ، جمع الجوامع : 1 / 422 .
(99) المحصول : 2 / 626 ، جمع الجوامع : 1 / 423 .
(100) الأحكام : 2 / 376 ، المحصول : 2 / 633 ، جمع الجوامع : 1 / 424 ، شرح
التنقيح : 191 .
(101) المحصول : 2 / 648 ، جمع الجوامع : 648 .
(102) جمع الجوامع : 1 / 425 .
(103) المحصول : 2 / 631 ، جمع الجوامع : 1 / 426 ، القرافي شرح التنقيح : 186 .
(104) البرهان : 1 /367 ، الأحكام : 2 / 379 ، المحصول : 2 /620 ، جمع الجوامع :
1 / 426 .
(105) البرهان : 1/ 365 ، الأحكام : 2 / 397 ، جمع الجوامع : 1/ 427 ، شرح
التنقيح : 197 .
(106) التبصرة : 77 ، البرهان :1 / 358 ، المعتمد : 1 / 250 ، الأحكام : 2 / 386 ،
المحصول : 2 / 623 ، المنتهى : 84 .
(107) جمع الجوامع : 1 / 429 .
(108) التبصرة : 73 ، البرهان : 1/ 263 ، المنخول : 143 ، الأحكام : 2 / 403 ، جمع
الجوامع : 1 / 429 ، المنتهى : 86 .
(109) الأحكام : 2 / 372 ، المحصول : 2 / 642 ، جمع الجوامع : 2 / 35 .