التقليد وأحكامه ، ما يجوز في التقليدُ ، التقليد في أصول الدين ، تتبع الرخص
الباب الثاني في التلقيد
وفيه فصلان :
الفصل الأول: في التقليد وأحكامه.
الفصل الثاني: فيما يجوز فيه التقليد.
الفصل الأول
في التقليد وأحكامه
التقليد لغة : مأخوذ من القلادة التي يقلد غيره بها فيجعلها في عنقه، وكأن المقلد جعل الحكم الذي قلد فيه المجتهد كالقلادة في عنقه .
واصطلاحاً : أخذ قول الغير من غير معرفة دليله .
فليس منه أخذ قول النبي – r – لأن قوله عليه الصلاة والسلام هو الدليل نفسه ولا يحتاج إلى دليل كما أنه ليس منه أخذ القول مع معرفة دليله، لأنه في هذه الحالة يكون اجتهاداً وافق اجتهاداً، بناء على أن معرفة الدليل السالم عن المعارضة بعد البحث عن أحواله، لا يصدر إلا عن مجتهد.
وللتقليد صور وأحكام سنجملها في الفقرات التالية .
1- من لم يصل رتبة الاجتهاد :(297)
إذا لم يصل الإنسان إلى رتبة الاجتهاد، سواء أكان عامياً، أم عالماً، إلا أنه ليست عنده الأهلية للاجتهاد، فالجمهور على أنه يلزمه تقليد مجتهد فيما يحدث له من مسائل، لعدم تمكنه من درك الحكم فيها باجتهاده.
قال الله تعالى : } فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون { .
ومما لا شك فيه ولا خلاف أن العامة ومن لم يتمكن من الاجتهاد ، كان يسأل العلماء المجتهدين في زمن الصحابة والتابعين ، وكانوا يتبعونهم في الأحكام الشرعية ، والعلماء يبادرون إلى إجابتهم على أسئلتهم ، من غير إشارة إلى ذكر الدليل عليها ، ولم نجد أحداً من الصحابة أو التابعين أنكر على السائل سؤاله ، أو أنكر على العالم فتواه ، فكان هذا إجماعاً على جواز إتباع من لم يصل إلى رتبة الاجتهاد والمجتهدين في الإسلام .
2- تقليد المجتهد مجتهداً:(298)
قد عرفنا أنه يجب على العامي وغير المجتهد أن يقلد المجتهد، وهل يجوز للمجتهد أن يقلد غيره من المجتهدين أم لا ؟
والجواب على هذا يحتاج لتفصيل .
وذلك لأن المجتهد، إما أن يكون قد اجتهد في الواقعة، ووصل إلى الحكم الشرعي، أو لا يكون.
فإن كان قد اجتهد فيها، ووصل إلى الحكم الشرعي، فإنه في هذه الحالة لا يجوز له التقليد، لأن المجتهد لا يقلد المجتهد إجماعاً.
وأما إذا كان مجتهداً، ووقعت له واقعة، إلا أنه لم يجتهد فيها بعد، ولم يعرف حكمها، فقد اختلف في جواز تقليد لغيره.
والجمهور على أنه لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين، لأنه متمكن من الاجتهاد، فلا يجوز له العدول عنه إلى فرع انعدامه، وهو التقليد.
ونحن إنما جوزنا للعامي وغير المجتهد التقليد، لأنه غير قادر على الاجتهاد، ولو قدر عليه، لمنعناه منه.
وسواء في ذلك أكان يريد تقليد الأعلم أم المساوي ، وسواء أكان قاضياً أم غيره ، وسواء أضاق الوقت أم اتسع .
3- تقليد المعروف بالعلم والمجهول :(299)
اتفق القائلون بوجوب التقليد للعامي على أنه يجوز له أن يستفتي من عرف بين الناس بالعلم، والاجتهاد، والعدالة، وصار أمره مشهوراً بينهم، بأن كان منتصباً فيهم للفتوى.
واختلفوا فيمن جُهل حاله، فلا يعرف هل هو عالم مجتهد أو جاهل.
والجمهور على امتناع استفتائه في هذه الحالة ، لأنه لا يُؤمن أن يكون جاهلاً ، بل هو الغالب من حال المجهول ، إذ لو كان عالماً لشاع أمره بين الناس وذاع .
ولذلك لا يجوز استفتاؤه إلا بعد التأكد من حاله، فإن عرف عالماً استفتى، وإلا فلا.
4- تقليد المفضول مع وجود الفاضل :(300)
إذا وجد في عصر واحد عدد من المجتهدين والمفتين، وكانوا على درجة واحدة من العلم، والورع، وغير ذلك من صفات الكمال، فإنه في هذه الحالة يختار الأكمل، ويسأله، ويعمل بفتواه.
وإذا كان أحدهم أكثر علماً، والآخر أكثر ورعاً وتقوى، قدم الأعلم، لأن مدار الفتوى على العلم، لا على الورع، على أن الفرض استواؤهم في العدالة والدين والثقة، وفي هذه الحالة لا أثر لزيادة الورع مع قلة العلم.
وهل يجوز للمستفتي أن يستفتى المفضول منهم مع وجود الفاضل ، أم لا ، بل يجب عليه البحث والتنقيب حتى يعرف الأعلم ويقلده ؟
الصحيح أنه يجوز له أن يقلد المفضول مع وجود الفاضل إذا كان قد اعتقد فيه الأفضلية أو المساواة لغيره ، بغلبة ظنه في ذلك ، ولا يلزمه البحث عن أحوال المجتهدين ولم يزل العامة سلفاً وخلفاً يستفتون الأئمة مع تفاوت مراتبهم في العلم دون نكير عليهم من قبل أحد من العلماء .
5- تقليد الميت:(301)
قال الإمام الشافعي – : المذاهب لا تموت بموت أصحابها.
والصحيح الذي عليه الجمهور أنه يجوز للحيِّ أن يقلد الميت بفتواه ، ما دامت الفتوى معروفة ومنقولة ومدونة، وهذا ما عليه المسلمون في مختلف الأعصار والأمصار .
6- ترك العامي العمل بما أفتى به :(302)
إذا استفتى عامي مجتهداً في حكم واقعة ، وأفتاه بحكمها ، فإما أن يكون هذا المستفتي قد عمل بمقتضى الفتوى ، وإما أنه لم يعمل .
فإن كان قد عرفها إلا أنه لم يعمل بمقتضاها، فإنه يجوز له أن يتركها، ويسأل مجتهداً آخر عنها، ويجوز له أن ينتقل إلى قول المجتهد الآخر.
وأما إذا كان قد عمل بمقتضى الفتوى الأولى، فإنه يمتنع عليه في هذه الحالة أن يرجع عنها، ويعمل بغيرها، حتى لا يكون قد عمل في مسألة واحدة بحكمين متناقضين.
7- التزام مذهب معين :(303)
الصحيح الذي عليه الجمهور أنه يجب على من لم يبلغ رتبة الاجتهاد أن يلتزم مذهباً معيناً من المذاهب المعروفة ، المضبوطة ، المنقولة بالتواتر، وذلك من أجل أن تنضبط أعماله ، وتحكم تصرفاته، بما يأمن معه من الخبط والاضطراب والزلل .
ويجوز له مع هذا أن يترك مذهبه إلى غيره من المذاهب المعتبرة إن رجح عنده.
كما يجوز له أن يترك مذهبه في بعض المسائل التي رجحت عنده من مذهب غيره إن كان من أهل النظر ، بناء على جواز تجزئ الاجتهاد ، كما مر معنا ، على أن لا يكون قد عمل بالجزئية كما مر معنا في الفقرة السابقة ، وعلى أن لا يتتبع الرخص كما سنذكره في الفصل الثاني إن شاء الله .
وكما يجب علينا أن نفهم جميعاً أننا لا نريد بهذا أن نمنع الناس من الاجتهاد، بل أننا نحث كل إنسان على طلب العلم، والنبوغ فيه، من أجل أن يصل الإنسان إلى درجة الاجتهاد فيجتهد.
فالاجتهاد أمنية يتمناها كل مسلم عاقل، إلا أننا ماذا نعمل وقد كلَّت الهمم، وعجزت العقول، وسيطر الجهل، وقل العلم.
إننا لا نجد بُدَّاً من التقليد لمن لم يصر إلى تلك الدرجة العلمية النفيسة التي يتمناها كل إنسان.
لأننا لو فتحنا باب الاجتهاد لمن لم يصل إلى درجته لصار الأمر إلى الفساد والفوضى ، ولأدَّى إلى تدمير الإسلام ، كما نجد ظواهره في كثير من الجهلة المعاصرين ، الذين أتوا باجتهاداتهم المزعومة بما لم ينزل به الله من سلطان .
8- تناقض الفتوى أمام العامي :(304)
قد ذكرنا أنه يجوز للمستفتي إذا سأل عن واقعة ولم يعمل بها أن يسأل مجتهداً آخر عنها.
فإذا تناقض الجوابان نفياً وإثباتاً، ففي هذه الحالة يجب على المستفتي أن يتبع الأعلم والأورع منهما.
فإن استويا في العلم والفضل وكان أحدهما أورع ، أتبعه ، فإن استويا فيه ، وفي كل مزية بحيث لم يستطع ترجيح أحدهما على الآخر ، فقيل : يتبع الأشد ، وقيل : يتبع ما تطمئن إليه نفسه ، وقيل : يتخير .
ولم يرتضِ أمام الحرمين واحداً من هذه الثلاثة، وإن كان قد جعل أقربها إلى الصواب التخيير، وقد أطال في هذا البحث بما لا يحتمله هذا المختصر.
9- سؤال العامي عن الدليل :(305)
عرفنا من تعريف التقليد أنه أخذ قول الغير من غير دليل، وبناء على ذلك فيجوز للمقلد أن يعمل بمقتضي فتوى العالم ، وإن لم يعرف دليلها ، لأن الله أمره بسؤاله .
إلا أنه لا مانع من أن يسأل العامي عن الدليل ليعرفه، فتكون معرفته أدعى لقبول الحكم الشرعي، وتصير عنده طمأنينة تبعد عنه التفكير بأن هذه الفتاوى إنما هي من تعنت العلماء.
كما أنه يستحب للمفتي أن يبين له الدليل، ووجه الدلالة إن لم يكن فيهما دقة وخفاء.
10- تكرر الواقعة التي أفتى بها المفتي:(306)
إذا استفتى العامي عالماً في مسألة ، فأفتاه بها ، ثم حدث مثل تلك الواقعة مرة ثانية ، فهل يجب على المجتهد أن يكرر نظره ، ويجتهد فيها من جديد أم لا ؟ بل يجيب بما أجاب به أول مرة ؟ في الجواب تفصيل .
وذلك أنه إذا لم يتجدد للمجتهد ما يقتضي منه النظر، من حدوث دليل، أو اضطلاع على أمر خفي، وكان ذاكراً للدليل الأول، فإنه في هذه الحالة ليس بحاجة إلى تجديد الاجتهاد.
وإن حدث له ما يقتضي تجديد الاجتهاد، أو كان ناسياً للدليل الذي أفتى به أول مرة وجب عليه أن يكرر النظر والاجتهاد.
11- الإفتاء بمذاهب المجتهدين :(307)
إذا لم يصل الإنسان إلى درجة الاجتهاد ، إلا أنه كان عالماً بمذهب من المذاهب الفقهية المعتبرة المدونة ، مطلعاً عليه ، متبحراً فيه ، قادراً على التفريع على قواعده ، متمكناً من الفرق بين المتشابهات والجمع بين المتناظرات ، فإنه يجوز له والحالة هذه أن يفتي بمقتضى مذهب الإمام الذي أتقن مذهبه وإن لم يكن كذلك فلا تجوز له الفتوى فيه.
وهذا ما عليه جماهير المسلمين سلفاً وخلفاً ، ولا سيما بعد أن ثبتت المذاهب الفقهية ، ودونت وعرفت مصادرها ومواردها .
الفصل الثاني
فيما يجوز في التقليدُ
إن مما لا خلاف فيه كما عرفنا في الفصل السابق أنه يجوز للعامي أن يقلد المجتهد فيما يحدث له من الوقائع، وفيما هو متعلق بفروع الشريعة عل التفصيل الذي ذكرناه في الفقرات السابقة.
وهل يجوز له أن يقلد غيره في أمور العقيدة وأصول الدين ؟ هذا ما نريد أن نتكلم عنه الآن.
التقليد في أصول الدين :(308)
والمراد به مسائل الاعتقاد، كوجود الصانع، ووحدته، واثبات صفاته، وما يجب له ويمتنع عليه وغير ذلك من الأمور.
فذهب الأكثرون على ما حكاه الآمدي واختاره هو والرازي ، وابن الحاجب ، أنه لا يجوز للمجتهد ولا للعامي أن يقلدوا في مسائل الاعتقاد لأن الواجب فيها العلم، والتقليد لا يفيد الظن.
قال الله تعالى لرسوله – r -: ) فاعلم أنه لا إله إلا الله (.
وقال تعالى: ) واتبعوه لعلكم تهتدون ( .
ولذلك يجب على كل إنسان أن ينظر في ملكوت السموات والأرض ليصل إلى العلم بوجود الباري .
إلا أن الصحيح الذي لا إفراط فيه ولا تفريط أن العامي إذا أخذ بقول غيره من العلماء، بدون شك أو تردد، جازماُ بما نقله إليه من المعتقد كفاه.
وإذا أخذه مع التردد والشك فإنه لا يكفيه، ويكون إيمانه غير صحيح، والله أعلم.
فإن مما نقطع به، ولا شك فيه أن كثيراً من الناس أن لم نقل أكثرهم، لا يستطيعون النظر الذي يرشدهم إلى الإيمان.
ولذلك كان لا بد لهم من التقليد ، إلا أننا نأمرهم بالجزم فيما يسمعون من العقائد ، ولعل العامة في مثل هذه الأمور أشد من بعض العلماء جزماً ، لأنهم لا ريبة عندهم ولا شك ، بخلاف بعض العلماء الذين يخوضون في الآيات والصفات ، فإنهم في كثير من الحالات يتمنون إيمان العامة .
تتبع الرخص :(309)
قد ذكرنا في الفصل السابق أن الإنسان المقلد يجوز له أن يعمل بغير مذهبه الذي التزمه فيما عدا الجزئية التي كان قد عمل بها ، ما دامت المسألة قد رجحت عنده ، أو كان عامياً فأفتاه بها من ليس على مذهبه .
إلا أنه هل يجوز للإنسان أن يتتبع المذاهب الفقهية، ويبحث عن الرخص فيها، ويعمل بمقتضاها، فيأخذ من كل مذهب أخفه وما رخص فيه ؟
الحق الذي لا يجوز العدول عنه ، ولا المماراة فيه ، أنه لا يجوز له أن يعمل مثل هذا ، لما يترتب عليه من خروج الإنسان من ربقة التكليف في كثير من الأمور التكليفية .
ومن فعل هذا فقد عصى بل حكم الإمام أبو إسحق المروزي بفسقه .
* * *
هذا ما يسر الله لي جمعه من مباحث الأصول ، على الشرط الذي التزمته في صدر الكتاب.
وإني لأسأل الله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم ، وأن يجعله في صحيفة أعمالي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، أن ينفع به قارئه ومقرئه إنه على ما يشاء قدير .
راجياً ممن وقف فيه على خطأ أن يرشدني إليه، فإن السهو، والذهول، والنسيان، والخطأ، من لوازم البشر، والمعصوم من عصمة الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
(297) التبصرة : 414، المستصفى : 2/389، المنتهى : 164، نهاية السول : 3/212 ، جمع الجوامع : 2/393 ، فواتح الرحموت : 2/402
(298) التبصرة : 403،اللمع : 71 ، المستصفي : 2/384 ، الأحكام : 4/274 ، المنتهى : 161، المحصول : 6/114 ،
الإبهاج ونهاية السول : 3/186 ، جمع الجوامع : 2/394 ، فوات الرحموت : 2/392 .
(299) المحصول: 6/112، الأحكام: 4/311.
(300) جمع الجوامع : 2/395 .
(301) جمع الجوامع : 2/396 ، نهاية السول : 3/211 .
(302) جمع الجوامع : 2/399 ، المحصول : 6/115 ، الأحكام : 4/318 ، نهاية السول : 3/218 .
(303) جمع الجوامع: 2/400، الأحكام: 2/306.
(304) الأحكام: 4/316
(305) جمع الجوامع : 2/397
(306) المحصول : 6/95 ، نهاية السول : 3/217 ،الأحكام :4/312 ، جمع الجوامع : 2/394.
(307) الأحكام : 4/315 ، المحصول : 6/97 ، نهاية السول : 3/210 ، جمع الجوامع : 2/397.
(308) الأحكام: 4/300، المحصول: 6/ 125، جمع الجوامع: 2/401.
(309) جمع الجوامع : 2/400