الفصل الثاني في النواهي/ المسألة الأولى/تعريفه وصيغته ومعانيه/ المسألة الثانية/ في دلالة النّهْي على الفساد
الفصل الثاني
في النواهي
وفيه مسائل
المسألة الأولى في تعريف النّهْي وصيغته
إن الكلام على النواهي يشابه إلى حد كبير الكلام على الأوامر، ولذلك سوف نكتفي في كثير من المباحث بالإشارة إليها، دون تفصيل أو بيان، بناء على أنها مرت مفصلة في مباحث الأمر .
فمن ذلك تعريف النهي، فمن عرَّف ما ذكرناه في تعريف الأمر عرف معنى النهي هنا، بدون جهد أو مشقة.
فالنهي: هو القول الطالب للترك، بلا علو، ولا استعلاء.
صيغته ومعانيه
وصيغته التي تدل عليه هي: ( لا تفعل ).
وهي ترد لسبعة معان(85) :
1. للتحريم : وذلك نحو قوله تعالى : ) ولا تقربوا الزنا ( ) ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلا بالحق ( ) ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء ( .
2. الكراهة : وذلك نحو قوله تعالى : ) ولا تيمَّموا الخبيث منه تنفقون ( وقوله ـ r ـ : ( لا يمسكنَّ أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ) .
3. الدعاء: وذلك نحو قوله تعالى: ) ربنا لا تزغ قلوبنا (.
4. الإرشاد : وذلك نحو قوله تعالى: ) لا تسألوا عن أشياء أن تبدَ لكم تسؤكم (.
والفرق بينه وبين الكراهة، أنَّ المفسدة المطلوب درؤها في الإرشاد دنيوية، وفي الكراهة دينية .
5. التقليل والاحتقار: وذلك نحو قوله تعالى: ) ولا تمدَّنَّ عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم ( أي فهو قليل حقير، بخلاف ما عند الله، فإنه كثير، مهم، باقي.
والتقليل يكون في الكمية والمقدار، والاحتقار يكون في الكيفية والقدر .
6. اليأس: وذلك نحو قوله تعالى: ) لا تعتذروا اليوم ( أي كونوا يائسين من العذر وقبوله، فالمراد إيقاع اليأس وتحصيله لهم، لا أنَّ ذلك حاصل.
7. بيان العاقبة: وذلك نحو قوله تعالى: ) ولا تحسبنَّ الله غافلاً عمَّا يعمل الظالمون ( وقوله تعالى: ) ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون (.
أي عاقبة الظالمين النار، وعاقبة الشهداء الحياة والجنة.
دلالة النهي على التحريم
اتفق العلماء على أنَّ صيغة النهي ليست حقيقة في كل المعاني التي ذكرناها في الفقرة السابقة.
والجمهور على أنها حقيقة في التحريم مجازٌ في غيره(86) .
وبناء عليه إذا وردت صيغة النهي مجردة عن القرائن، حملناها على التحريم، إذ هو الأصل في الإطلاق
ولا نعدل بها عن التحريم الذي هو حقيقة فيها إلا عند قيام القرينة الصارفة لها عن التحريم إلى غيره من المعاني التي ترد لها.
وأمَّا أنها حقيقة في التحريم فلقول الله تعالى: ) وما نهاكم عنه فانتهوا ( فالله تعالى أمرنا بالانتهاء عما نهانا عنه رسول الله ـ r ـ، فيكون الانتهاء واجباً، لأن الأمر كما مرَّ معنا للوجوب وإذا وجب الانتهاء، حرم الفعل.
النهي بعد الوجوب
قد مرَّ معنا أنَّ الأمر بعد الحظر للإباحة، وأن النهي بعد الوجوب للتحريم، وذكرنا الفرق بينهما، هناك في مباحث الأمر.
دلالة النهي على الفور والتكرار
قد مرَّ معنا في مباحث الأمر أنه لا يدل على الفور ولا التراخي كما أنه لا يدل على المرة أو التكرار، وإنما هو لطلب الماهية.
إلا أن النهي يختلف عن ذلك، فإنه يفيد الفور والتكرار، ما لم يقيد بمرة أو تراخي.
والفرق بين الأمر والنهي، أن الأمر يراد منه إثبات المأمور به وإيجاده، وهذا يتحقق بحصول الأمر مرة واحدة في الخارج، ولا حاجة معه إلى التكرار.
وأما النهي، فإنه يراد منه انتفاء المنهي عنه، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا انتفى في جميع الأوقات، لأنه لو فعل مرة واحدة لما وجدت حقيقة النهي.
مقتضى النهي فعل الضد
الشيء الذي يتعلق به النهي ويقتضيه إنما هو فعل ضد المنهي عنه، فإذا قال قائل: لا تتحرك، فمعناه: اسكن.
وذلك لأن العدم الأصلي المستمر حاصل، والحاصل لا يمكن تحصيله،
فمقتضى النهي ليس إعدام المنهي عنه، لأنه معدوم، وإنما هو أمر وجودي ينافي المنهي عنه، وهو فعل الضد.
أنواع المنهي عنه
النهي إما أن يرد على واحد بعينه وإما ان يرد على أشياء متعددة .
1. أن يرد على واحدٍ بعينه، وهذا يقتضي تحريمه ولا كلام.
2. أن يرد على أشياء متعددة وهو في هذه الحالة ينقسم إلى قسمين :
أ- أن ينهي عن الجمع بينها، مع إباحة كل واحدٍ منها على انفراده، وذلك كتحريم الجمع بين الأختين، وبين البنت وعمتها وخالتها، فإن نكاح كل واحدة منها مفردة جائز وإنما المحرم الجمع بينهما.
ب- أن ينهي عن الجميع دفعة واحدة، أي عن كل واحد بعينه، فلا يجوز عله بحال، كالمنهي عنه بعينه.
وذلك كالنهي عن السرقة، والزنا، وشرب الخمر، فإن مقتضاه تحريم الجميع، جمعاً وتفريقاً .
المسألة الثانية
في دلالة النّهْي على الفساد
قد عرفنا أن مطلق النهي عن القرائن يقتضي تحريم المنهي عنه، وأنه يفيد الفور والتكرار .
وهل يدل على فساد المنهي عنه أم لا ؟ له حالاتٌ يختلف الحكم باختلافها، على ما ذهب إليه الجمهور(87) .
وسواء في ذلك نهي التحريم، ونهي التنزيه .
والفساد المستفاد من النهي، شرعي، لا لغوي.
الحالة الأولى: أن يكون المنهي عنه عبادة:
إذا كان النهي راجعاً إلى العبادة، دل على فسادها، سواء نهى عنها لعينها، كصلاة الحائض وصومها .
أو نهى عنها لأمرٍ قارنها، وكان لازماً لها، وذلك كصيام يوم العيد، أو صلاة النفل المطلق في الأوقات المكروهة، المنهي عنها، لفساد الأوقات اللازمة لها بفعلها فيها، ولما في الصيام يوم العيد من الإعراض عن ضيافة الله .
فإن النهي عنها يقتضي فسادها، وعدم صحتها، وذلك لأن الصلاة لو صحَّت، لوقعت مأموراً بها، أمر ندب، لعموم الأدلة الطالبة للعبادة.
ثم الأمر بها يقتضي طلب فعلها، والنهي عنها يقتضي طلب تركها، وذلك جمع بين النقيضين، وهذا محال غير جائز.
الحالة الثانية : أن يكون المنهى عنه معاملة
وهذه الحالة لها أربع صور.
الصورة الأولى:
أن يكون النهي راجعاً إلى عين المعاملة ونفس العقد، وذلك كالنهي عن بيع الحصاة، كأن يقول إذا رميت بهذه الحصاة فهذا مبيع منك بعشرة مثلاً، على أحد التفسيرات في الحديث، فيجعلون نفس الرمي بيعاً، فالبيع في هذه الحالة باطل، لاختلال العقد باختلال الصيغة التي هي أحد أركانه .
فالنهي في هذه الصورة يفيد الفساد .
الصورة الثانية:
أن يكون النهي راجعاً إلى أمرٍ داخلٍ في المعاملة، وجزء العقد، وذلك كالنهي عن بيع الملاقيح، وهو بيع ما في بطون الأمهات من الأجنة، وذلك لانتفاء صفة مهمة معتبرة في البيع، الذي هو ركن من أركان البيع، داخل في ماهيته، وهذه الصفة هي كونه مرئياً، مقدوراً على تسلميه عند العقد .
والنهي في هذه الصورة أيضا يدل على الفساد، لفساد ركن البيع .
الصورة الثالثة:
أن يكون النهي لأمر خارج عن العقد إلا أنه لازم له، وذلك كالنهي عن بيع درهم بدرهمين.
فالنهي هنا وارد من أجل الزيادة في أحد العوضين، وهذا أمر خارج عن نفس العقد، لأن المعقود عليه، وهو الدرهم قابل للبيع في الأصل، وكونه زائداً أو ناقصاً صفة من أوصافه، لازمة له، فالنهي ليس لنفس العقد، وإنما لصفته اللازمة له .
والنهي أيضا في هذه الصورة يدل على الفساد .
الصورة الرابعة:
أن يكون النهي راجعاً لأمرٍ خارج عن العقد أو المعاملة غير لازم لها.
وذلك كالنهي عن البيع وقت النداء من يوم الجمعة، فإن النهي راجع إلى أمر خارج عن عين المعاملة، والعقد، وهو الخوف من تفويت صلاة الجمعة، وليس لذات البيع، لأن المحرَّم ليس خصوص البيع، وإنما هو كل عمل يؤدي إلى تضييع الصلاة يوم الجمعة .
وتفويت العبادة أمر مقارن للبيع، إلا أنه غير لازم له، فقد يكون بالبيع، وقد يكون بغيره.
والنهي في هذه الصورة لا يدل على الفساد، لأن النهي ليس لذات البيع، وإنما هو من أجل الحفاظ على الصلاة، وعدم تضييعها وقد يحصل البيع وهما في الطريق إلى الصلاة، ولا يؤدي إلى تضييعها .
وكالبيع وقت النداء، الصلاة في المكان المغصوب، والوضوء بماء مغصوب، والمسح على خف من الحرير المحرم على الرجال، وغير ذلك مما لم ينهَ عنه لعينه، وإنما لأمر خارج عنه غير لازم له.
فالنهي هنا ليس لذات الصلاة، ولا لذات الوضوء، وإنما هو لما قارنهما من الغصب المحرم فالصلاة صحيحة، والغصب حرام(88).
وذهب الإمام أحمد بن حنبل ـ رضي الله عنه ـ مع بعض الأصوليين إلى أن النهي يدل على الفساد مطلقاً .
وقيل غير ذلك، والله أعلم.
(85) جمع الجوامع : 1/ 391 .
(86) التبصرة : 99 ، اللمع : 13 ، المحصول : 2 / 469 ، البرهان : 1 / 283 ، جمع
الجوامع : 1 / 382 .
(87) نهاية السول : 2 /53 ، جمع الجوامع : 1 / 393 .
(88) هذا وفي المسألة خلاف منتشر طويل ، فانظر شرحنا في التبصرة : 100 ، والقواطع :
133 .
وذهب الغزالي في المنخول : 126 ، والآمدي في الأحكام : 2 / 276 ، والشيرازي في
التبصرة : 100 ، وابن السمعاني في القواطع : 113 ، والقرافي في شرح التنقيح :
173 ، ذهبوا إلى أنه يدل على الفساد مطلقا .
وذهب الغزالي في المستصفى : 2/25 إلى أنه لا يدل على الفساد تبعا لأبي الحسن الأشعري
والباقلاني ، وقيل :أنه مذهب إمام الحرمين ، إلا أن الظاهر من كلامه
يخالفه .