القياس ،تعريفه ، حجية القياس ودليلها ، أنواع القياس والأحكام التي تثبت به
الكتاب الرابع
في القيـــاس
القيـــاس
هو المصدر الرابع من المصادر التشريعية المتفق عليها، بعد الكتاب، والسنة، والإجماع.
وهذا الترتيب إنما هو من حيث القوة في حجيته، وإنما قدم الإجماع عليه لأن المخالف فيه أكثر من المخالف في الإجماع، ولأن دلالته لا تخرج عن دائرة الظن في الأعم الأغلب من صوره، بخلاف الإجماع كما مر معنا.
وأما ترتيبه من حيث الزمن ، فإنه في المرتبة الثالثة في مصادر التشريع المتفق عليها، وذلك لأنه يجوز وقوعه في زمان رسول الله – r – وقد وقع، بخلاف الإجماع ، فإنه لا ينعقد في عهده عليه الصلاة والسلام ، ومن ثم شرطوا فيه أن يكون في عصر غير عصر الرسول .
ومباحث القياس تعتبر ذروة مباحث الأصول وأدقها ، وذلك لأن القياس سبيل الاجتهاد والحوادث المجتهد فيها لا حصر لها ، مع ما فيها من التشابه والتباين ، مما قد يلتبس أمره إلا على من دق نظره وسدد الله رأيه ، ولذلك وجب أن تكون ضوابط القياس واضحة ، بينة ، مطردة لا لبس فيها ولا غموض ، تغطي كل ما يستجد من الحوادث وتشمل كل ما يحدث من الوقائع .
وكما أن القياس ذروة مباحث الأصول ، فالعلة ذروة مباحث القياس في مسالكها ، وقوادحها ، وأقسامها ، وهي أسُّه وعماده .
فمن هذه الأهمية لمباحث القياس، ومن هذا التشعب وهذه الدقة فيها، احتلت المكانة العالية في مباحث الأصول.
وسيكون بحثنا فيه في بابين:
الباب الأول: في تعريفه، وحجيته، وأنواعه.
الباب الثاني: في أركانه.
الباب الأول
في تعريف القياس، وحجيته، وأنواعه
وفيه فصول :
الفصل الأول: في تعريفه.
الفصل الثاني: في حجيته.
الفصل الثالث: في أنواع القياس، والأحكام التي تثبت به.
الفصـل الأول
في تعريـف القيـاس
القياس في اللغة: مصدر لقاس، بمعنى قدَّر، يقال قست الأرض بالقصبة، أي قدرتها بها، وقست الثوب بالذراع، أي قدرته به، وهو يتعدى بالباء ، كما مثلنا ، وكما قال الشاعر:
خف يا كريم على عرض يدنسه مقال كل سفيه لا يقاس بكا
إلا أنه في الشرع يتعدى بـ ” على ” فيقال: قاس النبيذ على الخمر، ليدل على معنى البناء والحمل.
وأما في الاصطلاح فهو: حمل معلوم، على معلوم، لمساواته له في علة حكمه، عند الحامل.(244)
شرح التعريف: وسأقتصر فيه على أهم ما يحتاج إليه المبتدى في فهمه، دون الخوض في تفاصيل معانيه، وما يرد عليه من اعتراضات.
1 – الحمل: هو الإلحاق والتسوية، أي إلحاق الفرع، بالأصل، ومساواته له في حكمه بجامع العلة.
ولا تنافي بين كون القياس دليلاً شرعياً ، وجد المجتهد أم لا ، وبين كون الحمل فعلاً للمجتهد ، لأنه لا مانع من أن ينصب الشارع حمل المجتهد دليلا ، على أن حكم الفرع في حقه وحق مقلديه ما وقع الحمل فيه من حل أو حرمة .
2 – معلوم على معلوم: المعلوم الأول هو الفرع الذي نبحث له عن حكم، والمعلوم الثاني هو الأصل الذي سيقاس الفرع عليه، والذي ثبت حكمه بالنص.
والتعبير بالمعلوم دون الشيء، من أجل أن يشمل كل ما يجري فيه القياس من موجود ومعدوم، إذ الشيء لا يطلق إلا على الأمر الوجودي دون العدمي، والمراد بالعلم مطلق الإدراك وإن كان ظناً.
3 – لمساواته له في علة حكمه: أي لوجود علة المحمول عليه بتمامها في المحمول.
4 – عند الحامل : الحامل هو المجتهد القائس ، وهذا القيد إنما زيد لإدخال القياس الفاسد في الواقع ونفس الأمر .
وذلك لأن القياس هو إثبات حكم الأصل في الفرع بجامع العلة في نظر المجتهد، سواء أكانت هذه العلة هي المزادة لصاحب الشرع في الواقع ، أم لا.
إذ لو كان القياس مقتصراً على الصحيح، والعلة مقتصرة على ما يريده الشارع في نفس الأمر، لما وجد في الدنيا قياس البتة ، بل لو كان واجب المجتهد أن يصيب في اجتهاده ما في علم الله لتعطلت الشرائع، لأنه لا سبيل إلى ذلك.
ونحن لما رأينا الفقهاء قد اختلفوا في علة الربا، هل هي الطعم أو الكيل أو القوت أو غير ذلك، ومن ثم قاس كل إمام بعلته التي اعتقدها، أجمعنا على أن الجميع أقيسة شرعية، لأنا إن قلنا، إن كل مجتهد مصيب فالأمر واضح.
وإن قلنا، إن المصيب واحد ، إلا أنه لم يتعين ، لعدم معرفتنا بما في علم الله ، تعين علينا أن يكون الجميع أقيسة شرعية ، مع القطع بأن جميع تلك العلل ليست مراده للشارع .
فالقياس بغير علة صاحب الشرع قياس فاسد ، وهو مع ذلك قياس شرعي ،عملاً ، بغلبة الظن التي أنيط بها لتكليف .
ومعنى التعريف إجمالا أن القياس هو إلحاق الفرع بالأصل، بأن ينقل حكم الأصل إليه، لاشتراكهما في علة حكم الأصل.
وقد شمل التعريف أركان القياس الأربعة وهي:
الفرع
والأصل
والعلة الجامعة
وحكم الأصل.
الفصل الثـاني
في حجيتــه
1 – حجية القياس:(245)
القياس هو المصدر الرابع من مصادر التشريع المتفق عليها، بعد كتاب الله، وسنة رسول الله، والإجماع .
والعمل به من ضروريات التشريع ، إذ أن الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة محصورة ،وحوادث الحياة غير محصورة، فالنصوص الشرعية قاصرة عنها ولا تفي بها، فكان لابد من مصادر أخرى يلجأ إليها المجتهدون في استنباطهم للأحكام، ولذلك جعل الله تعالى القياس هو هذا المصدر الذي تسد به الحاجة، وتستوفي الأحكام.
فهو من أوسع المصادر التشريعية فروعاً، وأكثرها تشعباً ،وأدقها مسلكاً، ولولاه لتوقفت حركة التشريع الإسلامي وجمدت ، ولوقع الناس في الضيق والحرج، إذ يجدون أنفسهم أمام حوادث ولا أحكام لها .
وحجية القياس عامة سواء أكان في الأمور الدنيوية أم الدينية وسواء أكان القياس جلياً أم خفياً، وسواء اضطر إليه أم لم يضطر إليه .
وسواء أكانت العلة منصوصة أم مستنبطة، على تفصيل في بعض صورة سنذكرها إن شاء الله .
وإن من عجائب الدنيا في العلماء أن ينكر داود الظاهري القياس، ويجمد على ظواهر النصوص، مما أوقعه في تناقضات يترفع عنها من كان دون داود في العلم والمعرفة .
وإن كل إنسان يسمع قوله : إذا بال الإنسان في الماء الدائم لا يغتسل فيه ، إلا أنه إذا بال في إناء ، ثم أراق البول في الماء اغتسل فيه ، لقول رسول الله – r – :
(( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه ))
إن كل من يسمع مثل هذا تأخذه الدهشة، ويملكه العجب، ولا يسعه إلا أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وسبحان خالق العقول وواهبها.
2 – دليل الحجية:
لقد استدل العلماء على وجوب العمل بالقياس شرعاً، بأدلة كثيرة من الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، لا سبيل إلى ذكر جميعها، ولذلك سأكتفي بأهمها.
فمن الكتاب، قال الله تعالى: ﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار﴾ في سياق الكلام على ما وصل إليه حال اليهود والأمم الماضية والاعتبار هو القياس، أي قيسوا أنفسكم بهم، فما نزل بهم بعصيانهم سينزل بكم بعصيانكم.
وذلك لأن القياس مجاوزة عن حكم الأصل إلى حكم الفرع ،والمجاوزة اعتبار، لأنها مشتقة من العبور وهو المجاوزة، يقال: عبرت النهر بمعنى جاوزته ، فالقياس والمجاوزة مترادفان، والمجاوزة هي الاعتبار، والاعتبار مأمور به، فالقياس مأمور به.
وأما من السنة فما أخرجه الترمذي ،وأبو داود ، وأحمد ، والبيهقي ، والدرامي ، عن معاذ رضي الله حين بعثه رسول الله – r – إلى اليمن إذ قال له: (( بم تحكم ؟ قال: بكتاب الله تعالى، قال: فإن لم تجد؟ قال : بسنة رسول الله – r – قال : فإن لم تجد؟ قال : اجتهد رأيي ولا آلو فقال النبي – r -: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يحبه ويرضاه رسول الله)) .
والاجتهاد هو القياس ،وقد أقره عليه – r – .
وقد عمل به أصحاب رسول الله – r – من مفتتح أمرهم في بيعة السقيفة إلى موت آخرهم، وهو أبو الطفيل عامر بن الأسقع، دون اعتراض أو نكير، فلو كان العمل به غير صحيح، لأنكر على العاملين به ولو واحداً من الصحابة، إلا أن هذا لم يقع، فدل على أن العمل به جائز بإجماع أصحاب رسول الله – r – وليس بعد هذا المستند من مستند .
ولو ذهبت أذكر وقائع المسائل التي ورد فيها القياس عن الصحابة رضوان الله عليهم لذكرت ما يخرج بنا عن دائرة الاختصار التي ألتزمتها في هذا الكتاب.
قال الزركشي: إن أول من باح بإنكار القياس النظَّام ،وتابعه قوم من المعتزلة، وداود من أهل السنة
ثم قال في مذاهب المنكرين: إن هذه المذاهب كلها مهجورة، وهو خلاف حادث بعد أن تقدم الإجماع بإثبات القياس من الصحابة والتابعين، قولاً وعملاً أ هـ.
وقال الغزالي : ومن ذهب إلى ردِّ القياس فهو مقطوع بخطئه من جهة النظر ، محكوم بكونه مأثوما . أ هـ
وأما النظَّام هذا فقد كان زنديقاً ، وإنما أظهر الاعتزال خوفاً من القتل ، وله كتاب (( نصر التثليث على التوحيد )) كما قال ابن السبكي .
وما يروي عن بعض الصحابة، أو التابعين، من إنكار للقياس وذمه، إنما هو للقياس المبني على الشهوة والهوى، البعيد عن سنن الأصول، المخالف للسنة.
وأما القياس الشرعي الصحيح، فقد أقره جميع الصحابة والتابعين – رضوان الله عليهم – قولاً وعملاً.
3 – الظنية والقطعية في حجية القياس:
قد ذكرنا في الفقرة السابقة أن القياس حجة شرعية يجب العمل بها، ولا يجوز الإعراض عنها، وذكرنا الدليل الشرعي الذي دل على ذلك.
وهل هذه الدلالة قطعية أم ظنية .
الجمهور على أن حجية القياس حجية قطعية، يقينية ، وذلك لإجماع السلف على القطع بتخطئة مخالف القياس ومنكره ، ولو لم يكن دليلهم على حجيته قاطعاً لما قطعوا بتخطئة المخالف .
فإن قيل: إن ما ذكرتموه من الأدلة لا يفيد غير الظن، فكيف يستفيدون منه القطع.
قلنا: إن وقوع الظن مقطوع به، ووجوب العمل عنده مقطوع به، تلقيا من إجماع قاطع.
وهذا كوجوب الإتمام في الصلاة على المقيم إذا تحققت إقامته بخبر الواحد العدل، فهذا الخبر وإن كان لا يفيد إلا الظن، إلا أن وجوب إتمام الصلاة بسببه قطعي.
وكذلك العمل بأخبار الآحاد في السنن، فإنها لا تفيد إلا الظن، ومع ذلك فالعمل بهذا الظن قطعي عند وقوعه.
وهذا القطع إنما هو في حجية القياس، لا في الحكم المستفاد منه، أما الحكم المستفاد منه فقد يكون قطعياً، وقد يكون ظنياً كما سنبينه في أقسام القياس وأنواعه.
4 – حكم القياس:( 246 )
القياس فرض كفاية على المجتهدين، إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين، فيما إذا احتاج المقلد إلى الفتوى وأراد العمل، ويتعين على المجتهد إجراؤه إذا لم يوجد غيره، وهذا ما لم يرد المجتهد العمل به لخاصة نفسه، بل للفتوى، وأما إذا احتاج هو إليه، ليعمل بمقتضاه فيصير فرض عين عليه أيضاً، وذلك لأنه لا يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهداً.
5 – التنصيص على العلة:(247)
إذا حكم الشارع بحكم في عين ، ونص على علة ذلك الحكم ، هل يكون نصه على العلة أمراً بالقياس فيجب إثبات هذا الحكم في كل موضوع وجدت فيه العلة ، أم لا يكون أمراً بالقياس ، بل لا بد للقياس من دليل يدل عليه ؟ في المسألة خلاف منتشر.
وقد ذهب كثير من نفاة القياس إلى أن التنصيص على العلة أمرٌ بالقياس مع مخالفتهم في حجيته، والصحيح الذي عليه الجمهور، أنه ليس أمراً بالقياس بمفرده، بل لا بد للقياس من دليل شرعي يرد به ويدل عليه.
وسواء في ذلك جانب الفعل ، كقولنا : تصدق على هذا لفقره ، أو جانب الترك كقولنا : حرمت الخمر لإسكارها .(**)
الفصل الثـالـث
في أنوَاعِ القِيَاِس والأحْكام الّتي تَثبُتُ بهِ
أولاً: أنواع القياس:
أ – ينقسم القياس من حيث هو إلى قسمين، قياس قطعي، وقياس ظني.(248)
1 – القياس القطعي:
القياس القطعي هو القياس الذي يقطع فيه بعلة الحكم في الأصل أنها هي العلة الفلانية، كما يقطع بوجود مثل تلك العلة في الفرع، فعند ذلك يقطع القائس بثبوت الحكم في الفرع، فهو يتوقف على مقدمتين الأولى العلم بعلة الأصل، والعلم بوجودها في الفرع.
وذلك كتحريم ضرب الولدين قياساً على تحريم التأفيف، فإنا نقطع بأن علة تحريم التأفيف هي الأذى، كما نقطع بأن هذه العلة بذاتها موجودة في الفرع وهو الضرب ، وعند ذلك نقطع بحرمته قياساً على تحريمه في الأصل ، فهذا هو القياس القطعي .
وهذا بغض النظر عن الحكم هل هو ظني أو قطعي، فقد يكون القياس قطعياً والحكم ظنياً، وقد يكون القياس قطعياً والحكم قطعياً.
فالمهم عندنا أن نقطع بإجراء القياس للقطع بالعلة ، بغض النظر عن الحكم الثابت ، فقد نقطع بإلحاق مظنون بمظنون ، أو مقطوع بمقطوع .
2 – القياس الظني:
وهو القياس الذي لا يقطع فيه بعلة الأصل ، أو يقطع بها إلا أنه لا يقطع بوجودها في الفرع ، وقد تكون مظنونة فيهما معاً.
وذلك كقياس السفرجل، أو التفاح على البُر في الربا، فإن الحكم بأن العلة في تحريم بيع بعضه ببعض متفاضلاً هي الطعم ، ليس مقطوعاً به ، إذ يحتمل أن تكون هي الكيل أو القوت .
وبناء على ذلك فإن إلحاق السفرجل بالبر في تحريم بيع بعضه ببعض متفاضلاً إنما هو ظني .
ب – كما ينقسم القياس من حيث الحكم الثابت في الفرع إلى ثلاثة أقسام:
أولوى، ومساوي، وأدْوَن.(249)
1 – القياس الأولوي :
ويسمى القياس الجلي، وهو ما يكون الفرع فيه أولى من الأصل بالحكم، لوضوح العلة وظهورها فيه.
وذلك كتحريم الضرب للوالدين قياساً على تحريم التأفيف فإن الضرب وهو الفرع أولى بالتحريم من التأفيف، وهو الأصل، وذلك لكون الأذى الذي علل به حكم الأصل أشد ظهوراً في الفرع منه في الأصل .
2 – القياس المساوي:
وهو ما تكون العلة فيه متساوية الظهور في الفرع والأصل ، وذلك كقياس الأمة على العبد في سراية العتق من البعض إلى الكل فيما لو أعتنق أحد الشريكين حصته فيهما .
وذلك كقول رسول الله – r -: (( من أعتق شركاً له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوِّم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاؤه حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق )).
فقد ثبت النص على السراية في العبد ، ثم قسنا عليه الأمة ، لوجود نفس العلة فيها ، وهي تشوف الشارع إلى العتق ، مما يتفق فيه العبد والأمة ، إذ لا فارق بينهما سوى الذكورة والأنوثة، وهذا لا تأثير له في الرغبة في العتق وتحرير العبيد، ولذلك تساويا في الحكم ، ويسمى هذا القياس أيضاً بالقياس الجلي .
فالقياس الجلي ما كانت العلة فيه في الفرع أشد ظهوراً منها في الأصل أو مساوية له في الظهور
وكما يسمى بالقياس الجلي يسمى بالقياس في معنى الأصل .
3 – القياس الأدون :
وهو ما سوى هذين القسمين من الأقيسة التي شاع استعمال الفقهاء لها ، وهو ما كانت العلة فيه في الفرع أخفى منها في الأصل، أو احتمل عدم وجودها فيه وذلك كقياس البطيخ أو السفرجل على البر في تحريم بيع بعضه ببعض متفاضلاً .
فقد ثبت النص عن رسول الله – r – في تحريم بيع البر بالبر إلا مثلاً بمثل، يداً بيد ثم قسنا عليه البطيخ، فحرمنا بيع بعضه ببعض متفاضلاً بجامع الطعم في كل إذا عللنا به، إلا أن الطعم في البر أشد ظهوراً منه في البطيخ وأولى .
ويحتمل أن تكون علة الأصل هي القوت ، دون الطعم ، وعند ذلك لا يكون حكم الربوية ثابتاً في البطيخ على هذا التقدير .
ولذلك كان الحكم في الفرع أدون من الحكم في الأصل ، لأدونية العلة .
جـ – وينقسم القياس أيضاً من حيث ثبوت مثل أو نقيض حكم الأصل في الفرع، إلى قسمين: قياس الطرد، وقياس العكس.(250)
1 – قياس الطرد:
وهو القياس الذي ذكرناه في التعريف وشرحناه، وهو أن نثبت مثل حكم الأصل في الفرع لاشتراكهما في العلة.
2 – قياس العكس:
وهو إثبات نقيض حكم معلوم في معلوم آخر، لوجود نقيض علته فيه، وذلك كقول من شرط الصوم في صحة الاعتكاف مطلقاً قياساً على الصلاة:
لو لم يشترط الصوم في صحة الاعتكاف مطلقاً، لما اشترط بالنذر، كالصلاة، فإنها لم تكن شرطاً في صحة الاعتكاف مطلقاً، لم تصر شرطاً في حالة النذر، والجامع بينهما عدم كونهما شرطين حالة الإطلاق.
وبيان هذا أنه إذا نذر المكلف أن يعتكف صائماً ن فإنه يشترط الصوم في صحة اعتكافه اتفاقاً، ولو نذر أن يعتكف مصلياً، لم يشترط الجمع اتفاقا، بل يجوز التفريق.
ثم اختلف الفقهاء في اشتراط الصوم في صحة الاعتكاف إذا لم ينذره معه، فذهب أبو حنيفة إلى أن الصوم شرط في صحة الاعتكاف مطلقاً، نذره معه أو لم ينذره، وذهب الإمام الشافعي إلى عدم اشتراطه.
ومستند أبي حنيفة رضي الله عنه في اشتراطه، قياس العكس الذي نحن بصدده، إذ قال لو لم يكن الصوم شرطاً لصحة الاعتكاف عند الإطلاق لم يصر شرطاً له بالنذر قياساً على الصلاة، فإنها لما لم تكن شرطاً لصحة الاعتكاف حالة الإطلاق ، لم تصر شرطاً له بالنذر .
فالحكم الثابت في الأصل، وهو الصلاة، عدم كونها شرطاً في صحة الاعتكاف، والعلة فيه كونها غير واجبة بالنذر، والحكم الثابت في الفرع كون الصوم شرطاً في صحة الاعتكاف، والعلة فيه وجوبه بالنذر، فافترقا في الحكم والعلة.
د – كما ينقسم من حيث العلة إلى قياس علة، وقياس دلالة، وقياس في معنى الأصل.(251)
1 – قياس العلة:
وهو ما ذكرت فيه العلة صراحة، كأن يقال إن البيرة محرمة قياساً على الخمر ، بعلة الإسكار .
2 – قياس الدلالة:
وهو ما لم تذكر فيه العلة وإنما ذكر لازمها، أو أثرها، أو حكمها.
مثال ما صرح فيه لازمها قولنا : النبيذ حرام ، كالخمر ، بجامع الرائحة المشتدة ، وهي لازمة للإسكار .
ومثال ما ذكر فيه أثرها قولنا: القتل بمثقل يوجب القصاص، كالقتل بمحدد، بجامع الإثم، فالإثم أثر العلة، وليس هو العلة، وإلا فالعلة هي القتل العمد العدوان.
ومثال ما ذكر فيه حكمها قولنا: تقطع الجماعة بالواحد، قياساً على قتلهم به، بجامع وجوب الدية عليهم في ذلك، حيث كان غير عمد.
3 – القياس في معنى الأصل :
وهو الجمع بين الأصل والفرع بنفي الفارق، وذلك كقياس البول في إناء، وصبه في الماء الراكد، على البول في الماء الراكد في المنع منه، بجامع أنه لا فرق بينهما في مقصود المنع الثابت بنهيه – r – عن البول في الماء الراكد.
ثانيا: الأحكام التي تثبت بالقياس
إن ضابط إجراء القياس في الأحكام الشرعية هو إدراك العلة، فإن أدركت صحَّ القياس وجرى وإلا فلا، وبناء على ذلك فالصحيح المعتمد عند الأصوليين أن القياس لا يجري في جميع أحكام الشريعة، وذلك لأن من هذه الأحكام ما لا يدرك معناه ولا تعرف علته كوجوب الدية على العاقلة وغير ذلك من الأحكام، وأما ما تدرك علته، ويعرف معناه، فلا شك في جريان القياس فيه.
إلا أن يكون ثمة مانع يمنع منه، كما سنبينه في الصور الآتية.
القياس في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات:(252)
بناء على ما ذكرناه من ضابط إجراء القياس في الأحكام الشرعية ، وهو معرفة المعنى وإدراك العلة ، لم يمنع الجمهور من إجراء القياس في الحدود، والكفارات ، والرخص ، والتقديرات ، إذا عرفت علتها .
وما قاله الحنفية من أنه لا يجوز إثبات مثل هذه الأمور بالقياس لما فيه من شبهة الظن ، والحدود تدرأ بالشبهات كلام غير سديد ، وذلك لأن الظن وعدم القطع ليس بشبهة ، وإلا لما ثبتت هذه الأحكام بأخبار الآحاد لما فيها من الظن، لكننا اتفقنا على إثبات الحدود بأخبار الآحاد ، فليكن القياس كذلك ، ومدار القياس على العلة وعدمها ، لا على الظن والقطع ، والحدود وغيرها في ذلك سواء .
فمثال القياس في الحدود قياس نباش القبور وسارق الأكفان على السارق في وجوب قطع اليد، بجامع أخذ مال الغير خفية.
ومثال القياس في الكفارات قياس القاتل عمداً على القاتل خطأ في وجوب الكفارة ، بجامع القتل بغير حق .
ومثال القياس في الرخص، قياس غير الحجر على الحجر في جواز الاستنجاء به، بجامع كونهما جامدين طاهرين قالعين للنجاسة، مع أن استعمال الحجر في الاستنجاء ورد رخصة.
ومثال التقديرات، قياس نفقة الزوجة على الكفارة، بجامع أن كلا منهما مال يجب بالشروع، ويستقر في الذمة.
وأكثر ما وجب في الكفارة لكل مسكين مُدَّان من الطعام ، وذلك في كفارة الأذى في الحج ، وأقل ما وجب له مُد ، وذلك في كفارة الظهار ، فأوجبوا على الموسر الأكثر ، وهو مدَّان ، لأنه قدر الموسع ، وعلى المعسر الأقل ، وهو مُد ، لأن المُدَّ الواحد يكتفي به الزهيد .
وأصل التفاوت في النفقة ثابت في قوله تعالى: ﴿ لينفق ذو سعة من سعته﴾.
2 – القياس في اللغة:(253)
اتفق العلماء على أن القياس لا يجري في الأعلام ، لأنها غير معقولة المعنى ، ولم توضع لمناسبة بينها وبين غيرها .
كما أنه لا يجري فيما ثبت بالاستقراء ، كرفع الفاعل ، ونصب المفعول ، ولا فيما ثبت تعميمه بالوضع ، نحو أسماء الفاعلين والمفعولين ، وأسماء الصفات ، كالعالم والقادر ، لأنها واجبة الاطراد نظراً إلى تحقق معنى الاسم ، فإن اسم العالم لمن قام به بالعلم ، فإطلاقه على كل من قام به العلم – بالوضع لا بالقياس .
وإنما الخلاف في الأسماء الموضوعة للمعاني المخصوصة ، الدائرة مع الصفات الموجودة فيها وجوداً وعدماً، كالخمر فإنها اسم للمسكر المتخذ من عصير العنب قبل أن يتزبب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد ، وهذا الاسم دائر مع الإسكار وجوداً وعدماً ، فهل يقاس عليه ما اتخذ من غير العنب في كونه مشاركاً له في وصف الإسكار ،ويقال له الخمر ؟ فتثبت له جميع أحكام الخمر ؟ فيه خلاف منتشر .
والأكثرون على أنه لا يجري القياس في اللغات ، وإلا لاضطربت قاعدة الوضع الأصلي للغة ، لأن العرب لم يضعوا الأسامي بناء على القياس ، ولذلك خالفوا بين المتشاكلين ، فسموا الفرس الأسود أدهم ، ولم يسموا الحمار الأسود أدهم ، وسموا الفرس الأبيض أشهب ، ولم يسموا الحمار الأبيض أشهب ، وهذا يدل على أنه لا مجال للقياس في اللغة .
ولو جاز القياس فيها لجاز تسمية البحر ، والنهر ، والمسبح ، بالقارورة ، لأن القارورة سميت بهذا الاسم لاستقرار الماء فيها، والبحار، والأنهار، والمسابح ، تستقر المياه فيها، ومع ذلك لا تسمى بالقارورة اتفاقاً . والله أعلم .
وفائدة الخلاف في هذه المسألة أننا لو قلنا بالقياس اللغوي لثبتت الأحكام في جميع الفروع بالنص الأصلي، فإذا سمينا المسكر المتخذ من غير العنب خمراً لم نحتج إلى القياس لإثبات الحرمة فيه وإنما نستدل عليه بقوله تعالى: ﴿ إنما الخمر والميسر…﴾.
3 – القياس في العقليات:(254)
قد ذكرنا أن مدار القياس على إدراك العلة الجامعة بين الأصل والفرع، وبناء عليه فإن القياس يجري في العقليات، إذا تحققت فيها العلة، كما يجري في الشرعيات.
وذلك كإلحاق الغائب بالشاهد بجامع من العلة، أو الحد، أو الشرط، أو الدليل، والمعنى بالشاهد هو المخلوقات.
فمثال الجمع بالعلة قولنا: العالمية في الشاهد معللة بالعلم، فكذلك في الغائب سبحانه وتعالى .
ومثال الجمع بالحد قولنا: حد العالم شاهداً من له العلم، فكذلك حده في الغائب.
ومثال الجمع بالدليل قولنا: التخصيص والإتقان يدلان على الإرادة والعلم في الشاهد، فكذلك في الغائب.
4 – القياس في التوحيد.
إن أمور العقيدة قائمة على التوقيف والسمع مما يفيد القطع لا على الاجتهاد والاستنباط مما يفيد الظن فأسماء الله تعالى وصفاته والأمور الغيبية كلها تتوقف على السمع ، من نص الكتاب أو السنة ، وبناء على ذلك فلا يجري فيها القياس كما يجري في الأحكام الشرعية القائمة على الاجتهاد والاستنباط .
5 – القياس في الأمور العادية والخلقية:(255)
والمراد بها ما يرجع إلى العادة والخلقة كأقل الحيض، أو النفاس، أو الحمل، وأكثره وهذه أيضاً لا يجري فيها القياس، لأنه لا تدرك عللها ، وتختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمزجة ، فلا يقاس أقل الحيض على أقل النفاس مثلا، وإنما يرجع فيه إلى النص أو غيره من المصادر الأخرى كالاستقراء .
6 – القياس على حكم منسوخ :
ولا يجوز القياس على حكم قد ثبت نسخه، وذلك لأن العلة الجامعة بين الأصل والفرع تابعة لثبوت الحكم، فإذا نسخ حكم الأصل تبينا أن العلة الجامعة غير معتبرة عند الشارع.
7 – القياس على ما ثبت بالإجماع:(256)
قد مرَّ معنا أن الإجماع أصل من الأصول المتفق عليها في إثبات الأحكام الشرعية، وأنه لا ينعقد إلا عن دليل، سواء ذكر معه أم لم يذكر.
وبناء على ذلك فإنه يجوز إثبات القياس على ما ثبت حكمه بالإجماع ، لأنه إذا جاز القياس على ما ثبت بخبر الواحد وهو مظنون ، فلأن يجوز على ما ثبت بالإجماع – وهو مقطوع بصحته – أولى ، والله أعلم .
(244) جمع الجوامع : 2 /202 .
(245) انظر شرحنا على التبصرة : 424 ، حيث فصلنا فيها الكلام على حجية القياس
والمذاهب فيه، وانظر كتاب نبراس العقول للشيخ عيسى منون
( 246 ) جمع الجوامع : 2 /339 .
(247) التبصرة : 436 ، المستصفى : 2 /270 ، المنخول : 326 ، المعتمد : 2 /753 ،
الأحكام : 4 /72 ، المحصول : 5 /164 ، الإبهــــــاج ونهايــة الســــول : 3 /6
و3 /15 ، جمع الجوامع : 2 /210 .
(**) وانظر ما كتبناه حول هذه المسألة في ( الشيرازي حياته وآراؤه الأصولية ) ص 262.
(248) المحصول : 5 /172 ، نهاية السول : 3 /26 ، المستصفى : 2/281 .
(249) المحصول : 5 /173 ، نهاية السول : 3/29 ، الأحكام : 4 /2 .
(250) نهاية السول : 3 /7 ، جمع الجوامع :2/343.
(251) الأحكام: 4 /4.
(252) التبصرة : 440 ، اللمع : 54 ، المستصفى : 2/334 ، الأحكام : 4 /82 ،
المحصول : 5 / 471 ، نهاية السول : 3 /31 ، جمع الجوامع : 2 /204 .
(253) التبصرة : 444 ، المستصفى : 1/331 ، المنخول : 71 ، الأحكام : 1 /78 ،
المحصول : 5 /457 ، الإبهاج ونهاية السول : 3 /24 ، المنتهي : 18 ، فوائح
الرحموت : 1 /185 .
(254) المحصول : 5 /449 ، جمع الجوامع : 2/207 ، نهاية السول : 3 /32 .
(255) المحصول : 5 /477 ، جمع الجوامع : 2/208 ، نهاية السول : 3 /34 .
(256) التبصرة : 447 ، اللمع : 58 .