الصفحة الرئيسية » كتب للقراءة والتحميل » الوجيز في أصول التشريع الإسلامي » الكتابُ السادسُ في التعادُل والترجيحْ ، البــاب الأول في التعـــادل ، البـــاب الثـــاني في الترجـــيح ، مقـــدمة في الأحكام الكليـــة للترجيح

الكتابُ السادسُ في التعادُل والترجيحْ ، البــاب الأول في التعـــادل ، البـــاب الثـــاني في الترجـــيح ، مقـــدمة في الأحكام الكليـــة للترجيح

الكتابُ السادسُ في التعادُل والترجيحْ

قد ذكرت في مقدمة الكتاب عند الكلام على تعريف أصول الفقه أن علم الأصول يشمل ثلاثة مباحث.

الأول: الأدلة الإجمالية.

الثاني: طرق استفادتها.

الثالث: حال المستفيد.

وقد تكلمت في الكتب الخمسة السابقة على الأدلة الإجمالية بقسميها، المتفق عليها، والمختلف فيها.

وسأتكلم في هذا الكتاب على المبحث الثاني من مباحث علم الأصول، وهو طرق استفادة الدلائل الإجمالية، وذلك بمعرفة الطرق المؤدية إلى ذلك عند تعارضها، بترجيح بعضها على بعض.

وسيكون البحث في بابين :

الباب الأول: في التعارض.

الباب الثاني: في الترجيح.

البــاب الأول

في التعـــادل

التعادل في اللغة هو التساوي نقول: تعادل الخصمان، إذا تساويا، وتعادلت الأمارتان إذا استوتا.

وفي الشرع استواء الأدلة دون أن يكون لبعضها مزية على بعضها الآخر فإن كان لبعضها مزية على الآخر رجح به ، فهو الترجيح .

والتعادل لا يتصور في كل الأدلة بل هو جائز في بعضها ومستحيل في بعضها الآخر مما سنراه في الصور الآتية :

1 – تعادل القاطعين:(272)

الدليلان إما أن يكونا ظنيين وإما أن يكونا قطعيين ، فإن كانا قطعيين – سواء أكانا عقليين ، أم نقليين – فإنه يمتنع تعادلهما ، بأن يدل كل منهما على نقيض ما يدل عليه الآخر .

لأنه لو وقع التعارض بينهما للزم منه اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما وذلك لأنه لا يجوز للمجتهد أن يعمل بأحدهما دون الآخر ، لأنه تحكم ، إذ لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر لأنهما قطعيان ، ولا ترجيح بين القطعيات ، لأنهما من قبيل العلوم ، والعلوم لا تتفاوت .

ولا يجوز للمجتهد أن يثبت مدلوليهما، لأنه جمعٌ بين النقيضين، وهذا محال، كما لا يجوز له أن يرفع مدلوليهما، لأنه رفعٌ للنقيضين، وهو أيضاً محال ولذلك لا يجوز وجود قاطعين متنافيين، كقاطع يدل على حدوث العالم، وقاطع يدل على قدمه.

إلا أن القاطعين إذا كان نقليين، فإنه يجوز تعارضهما إذا كان أحدهما متأخراً والمتأخر منهما ناسخ للمتقدم .

2 – تعادل الأمارتين في نفس الأمر:(273)

ونعني بالأمارتين الدليلين الظنيين .

فالصحيح الذي اختاره الإمام أحمد ، والكرخي من الحنفية ، وقرره الشافعي ، وابن السمعاني ، والإمام الرازي ، ومختصروا كلامه ، وابن السبكي – أنه يمتنع تعادل الأمارتين في الواقع ونفس الأمر من غير مرجح لأحدهما على الآخر ، لأن ذلك يؤدي إلى التناقض في كلام الشارع ، وهذا محال .

ولأن المجتهد إذا عمل بهما لزم اجتماع المتنافيين، كالحل والحرمة، وإن لم يعمل بهما، لزم أن يكون الشارع قد نصبهما عبثاً، وهذا محال أيضاً، وإن عمل بأحدهما دون الآخر، كان ترجيحاً من غير مرجح، وقولا في الدين بالتشهي والهوى.

3 – تعادل الأمارتين في ذهن المجتهد:(274)

وهذا الامتناع الذي ذكرناه في الفقرة السابقة إنما هو لتعادل الأمارتين في الواقع ونفس الأمر، وأما بالنسبة للمجتهد، فقد يتوهم تعادل الأمارتين، بعجزه عن ترجيح إحداهما على الأخرى، وهذا جائز.

وفي هذه الحالة إما أن يسقط الدليلين لتعارضهما، كما هو الحال في البينتين ، وهو أقرب الأقوال في المسألة وإما أن يتخير بينهما في العمل.

4 – تعادل القطعي والظني: (275)

وكما أنه لا يتصور التعارض بين الدليلين القطعيين، كذلك لا تعارض بين الدليل القطعي والظني إذا كانا عقليين.

وذلك كما إذا رأى إنسان مركب زيد أمام بابه ، فظن أنه في البيت ، لوجود مركبه ، ثم رآه في نفس الوقت يمشي في الشارع فإنه في هذه الحالة لا يمكن أن تعارض تلك الدلالة المظنونة الأمر اليقيني المشاهد ، بل نعتبرها كأن لم تكن ، وتلغى دلالتها .

وأما إذا كانا نقليين إنه يتصور التعارض بينهما ، لبقاء دلالة كل منهما على ما هي عليه ، ويرجح القطعي على الظني منهما لقوته .

5 – نقل القولين عن المجتهد في مسألة:(276)

نجد في كثير من كتب الفقه أن المصنفين ينقلون عن المجتهد الواحد في المسألة الواحدة قولين وهذان القولان لهما حالان .

الحالة الأولى : أن يكون قد قالهما في موضع واحد بأن قال هذه المسألة فيها قولان، فيستحيل أن يكون مراده أنهما له في ذلك الوقت ، لاستحالة اجتماع النقيضين ، كالحل والحرمة ، ولذلك يجب علينا أن ننظر فيهما لنعرف مذهبه منهما .

فإن وجدناه قد ذكر بعد ذلك ما يشعر بترجيح أحدهما على الآخر، كأن قال : والأول منهما أشبه بالصحة، أو فرَّع على أحدهما، فإنا نجعل هذا الذي ذكر فيه ما يشعر بقوته ورجحانه هو المذهب المختار له.

وإن لم نجد شيئاً من هذا القبيل، فإنا نستدل على أنه قد توقف في المسألة لفقدان الراجح عنده فيها، ويكون معنى قوله : فيها قولان، أي فيها احتمالان، كل منهما جائز، لوجود دليلين متساويين، أو لاحتمال الدليل لكلا الوجهين.

وقد وقع للإمام الشافعي – رضي الله عنه – مثل هذا فتوقف في سبع عشرة مسألة دون أن يرجح شيئاً فيها، هذا إن دل على شيء فإنما يدل على متانة الدين وقوة التقوى والورع فإن من تمام دين المرء وكمال ورعه أن يتوقف حيث توقف نظره وأن لا يتجرأ على الفتوى بالشهوة والهوى كما يفعل جهلة العصر ، إذ وضعوا أنفسهم في غير مواضعها ، فشوهوا وجه الشرع ، وأحالوا حلاله إلى حرام ، وحرامه إلى حلال ، والى الله المشتكى من جاهل يتنطع أو أحمق يتفيهق .

الحالة الثانية : أن يكون قد قالهما في مجلسين مختلفين، أو كتابين متعاقبين، وفي هذه الحالة يكو المتأخر منهما ناسخاً للمتقدم، إن علم المتأخر، وإلا فيحكى عنه القولان دون ترجيح، كالحالة السابقة.

وفي حالة عدم معرفة الراجح منهما بالنسبة للإمام المجتهد يبقى الأمر خاضعاً للنظر فيهما بالنسبة لمن يأتي بعده ، فما اقتضى ترجيحه منهما كان راجحاً ، وقيل يرجح ما وافق رأي مجتهد آخر كأبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، لقوته في هذه الحالة بتعدد قائله ، وقيل غير ذلك .

6 – هل يعطي النظير حكم نظيره :(277)

إذا لم يعرف للمجتهد قول في مسألة ما من المسائل، إلا أنه عُرف أن له قولا ًفي نظير تلك المسألة، ففي هذه الحالة ننظر.

فإن لم نجد فرقاً يمكن أن نفرق به بين المسألتين، خرَّجنا للمسألة التي لا قولَ له فيها قولا ًمن نظيرها.

وفي هذه الحالة لا يُنسب هذا القول المخرَّج للإمام مطلقاً بل مقيداً بأنه مخرَّجٌ حتى لا يلتبس بالمنصوص.

وإن وجدنا فرقاً بين المسألة ونظيرها لم نحكم بأن قوله في المسألة كقوله في نظيرها، لجواز أن يكون قد ذهب إلى الفرق بينهما وإذا وجدنا مسألتين متناظرتين، إلا أنه أعطى كل مسألة منهما حكماً مخالفاً لحكم الأخرى ففي هذه الحالة تنشأ الطرق في نقل المذهب من قبل أصحاب الإمام المجتهد ومقلدته.

فبعضهم يحكي النصين كما وردا ، ويفرق بينهما وبعضهم يخرِّج لكل منهما قولاً من المسألة الأخرى، فيكون في المسألة قولان، أحدهما منصوص، والآخر مخرَّج.

وفي هذه الحالة تارة يرجح النص على المخرج، ويذكر الفرق بينهما وتارة يرجح النص في مسألة والمخرج في أخرى.

وقد كان الإمام أبو عمر بن سريج رحمه الله مغرماً بهذا ، فقد خرَّج كثيراُ من أقوال الشافعي – رحمه الله – في نظائرها .

وفي شرح جلال الدين المحلي على منهاج النووي المئات من الأمثلة على هذا التخريج.

البـــاب الثـــاني

في الترجـــيح

ويشتمل على مقدمة وفصلين:

1 – المقدمة: في تعريف الترجيح، وحكمه، والأحكام الكلية للتراجيــح

2 – الفصل الأول: في ترجيح الأخبـــار.

3 – الفصل الثاني : في ترجيح الأقيـــسة .

مقـــدمة

في الأحكام الكليـــة للترجيح

1 – تعريف الترجيح

الترجيح في اللغة : هو التغليب .

وفي الاصطلاح : تقوية إحدى الإمارتين على الأخرى ليعمل بها .

ويفهم من هذا التعريف :

أ – أن الترجيح إنما يكون بين الأدلة الظنية ، إذ هي التي تقبل التقوية ، فترجح بالتقوية على معارضتها ، وأما القطعيات فلا ترجيح فيها ، لعدم إمكان تعارضها كما مر معنا في الباب الأول ولعدم إمكان تقويتها ، لأن العلوم لا تتفاوت .

ب – أن الترجيح أنما يراد من أجل العمل بإحدى الأمارتين دون الأخرى، فإذا لم يكن من أجل العمل، بل من أجل بيان أن الإمارة الأولى أفصح من الثانية، فهذا ليس من الترجيح المصطلح عليه.

2 – حكم العمل بالراجح:(278)

والعمل بالدليل الراجح واجب بالنسبة إلى المرجوح، سواء أكان الرجحان قطعياً أم ظنياً، وعليه فيمتنع العمل بالدليل المرجوح.

3 – دليل العمل بالراجح:

وأما الدليل على وجوب العمل بالراجح فهو إجماع الصحابة والسلف الصالح في الوقائع المختلفة على وجوب العمل بالدليل الراجح، وتقديمه على المرجوح.

وذلك كتقديم الصحابة خبر عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل من التقاء الختانين أنزل أو لم ينزل ، على خبر أبي هريرة ، (( إنما الماء من الماء )) .

وما روت أنه كان يصبح جنباً وهو صائم على ما رواه أبو هريرة من قوله: (( من أصبح جنباً، فلا صوم له )).

وإنما قدموا خبرها على خبر أبي هريرة لكونها أعرف بحال النبي – r -.

كما أنه مما لا خلاف فيه بين العقلاء أنه إذا تعارض دليلان ظنيان، وكان أحدهما راجحاً على الآخر بمرجحات أنه يجب العمل بالراجح منهما.

4 – العمل بالدليلين ولو من وجه أولى من إهمال أحدهما:(279)

إذا تعارض دليلان فإنه يجب علينا أن نرجح أحدهما على الآخر إذا لم يمكن الجمع بينهما والعمل بهما ، فأما إذا أمكن الجمع بينهما والعمل بهما ولو من وجه واحد دون وجه فلا يصار إلى الترجيح لأن إعمال الدليلين ولو من وجه أولى من إهمال أحدهما بالكلية بواسطة الترجيح .

وذلك لأن الأصل في كل واحد منهما هو الإعمال لا الإهمال ، وإنما لجأنا إلى الترجيح للضرورة ولا ضرورة هنا .

مثال ذلك : إذا أوصى إنسان بعين لزيد، ثم أوصى بنفس العين لعمرو، فالصحيح التشريك بينهما في الوصية، لاحتمال إرادته.

وهذا بخلاف ما لو قال الذي أوصيت به لزيد قد أوصيت به لعمر أو قال أوصيت لك بالعبد الذي أوصيت به لزيد فإنه في هذه الحالة رجوع عن الوصية الأولى على الصحيح .

لأنه هناك يجوز أن يكون قد نسي الوصية الأولى فاستصحبناها بقدر الإمكان وأما هنا فلا لأنه ذاكرٌ لها قطعاً.

ومثاله أيضاً أن تقوم بينة على أن جميع الدار الفلانية لزيد، ثم تقوم بينة أخرى على أن جميعها لعمرو، فإنها تقسم بينهما.

ويمكن أن يمثل له بما ورد في الحديث الصحيح من (( أنه – r – كان لا يحرك أصبعه في تشهده )) مع ما ورد في الصحيح أيضاً من (( أنه كان يحركها )) فقد جمع العلماء بينهما بأنه كان يحركها عند التشهد ، ثم لا يحركها بعد ذلك .

وبهذا تكون قد عملنا بالحديثين معاً ـ وهو أولى من إهمال أحدهما وعدم العمل به.

كما مثل بقوله – r : (( أيما إهاب دبغ فقد طهر )) مع قوله : (( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب )) الشامل للمدبوغ وغيره ، فحملوه على غيره جمعاً بين الأدلة .

5 – تعارض النصين مع تأخر أحدهما وعدمه :(280)

إذا تعارض نصان متساويان في القوة والعموم ، بأن كانا معلومين أو مظنونين وكل منهما يدل على ما يدل عليه الآخر، فلهما أحوال :

1 – فإن علم أن أحدهما متأخر عن الآخر، فالمتأخر ناسخ، والثاني منسوخ.

2 – وإن لم يعلم المتأخر منهما فإن كانا معلومين تساقطا، لعدم جواز الترجيح بينهما، كما مر معنا.

3 – وإن كانا مظنونين لجأنا إلى الترجيح ، فإن أمكن ، وإلا فالتخيير بينهما .

4 – وإن كان أحدهما قطعياً، والأخر ظنياً، رجح القطعي على الظني.

5 – وإن كان أحدهما أخص مطلقاً من الآخر، رجح الخاص على العام وعمل به.

6 – وإن كان بينهما عموم وخصوص من وجه ، وهما اللذان يجتمعان في صورة ، وينفرد كل منهما عن الآخر في صورة ، كالحيوان والأبيض ، فإنهما يجتمعان في الحيوان الأبيض ، وينفرد الحيوان بالحيوان الأسود ، وينفرد الأبيض بالجص والثلج مثلا.

وفي هذه الحالة يطلب الترجيح بينهما، لأنه ليس تقديم خصوص أحدهما على الآخر بأولى من العكس.

ومثال ذلك تفضيل فعل النافلة في البيت على المسجد الحرام، فإن قوله – r : ((صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام)) يقتضي تفضيل فعلها فيه على فعلها في البيت، لعموم قوله فيما عداه.

وقوله – r : (( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )) يقتضي تفضيل فعلها فيه على فعلها في المسجد الحرام ومسجد المدينة.

وقد رجح فقهاؤنا الثاني كما جزم به النووي في ((التحقيق )) و (( شرح المهذب )).

وسببه أن حكمة اختيار البيت هو البعد عن الرياء المؤدي إلى إحباط الأجر بالكلية .

وأما حكمة المسجدين فهو الشرف المقتضي لزيادة الفضيلة على ما عداهما مع اشتراك الكل في الصحة وحصول الثواب.

6 – الترجيح بكثرة الأدلة:(281)

والصحيح الذي ذهب إليه الجمهور تبعاً للإمام الشافعي أنه يجوز الترجيح بكثرة الأدلة، فإذا تعارض دليلان، وكان لأحدهما أدلة أخرى توافقه، رجح بهذه الكثرة على معارضه لأن كثرة الأدلة تفيد قوة الظن، وما كان كذلك كان أرجح من غيره قطعاً.

(272) المحصول : 5 / 532 ، نهاية السول : 3 / 156 ، جمع الجوامع : 2/357 .

(273) جمع الجوامع : 2/359 ، نهاية السول : 3 / 150 .

(274) المحصول: 5 /506، جمع الجوامع: 2 / 359.

(275) نهاية السول : 3 /156 .

(276) المحصول : 5 / 522 ،جمع الجوامع : 2 / 359 ، نهاية السول : 3 / 152 .

(277 ) نهاية السول : 3 / 154 ، جمع الجوامع : 2 /360 ، المحصول : 5 / 523 .

(278) جمع الجوامع: 2 /361، المحصول: 5 / 529.

(279) المحصول : 5 / 542 ، نهاية السول : 3 /157 ، جمع الجوامع : 2 / 361 .

(280) نهاية السول : 3/159 ، المحصول : 5/544 ، جمع الجوامع : 2/362 .

(281) جمع الجوامع : 2/361 ن نهاية السول : 3 /162 .