النوع الثاني المخصِّص المنفصل،الدليل العقلي ،الدليل الحسي، الدليل السمعي،تعارض العام والخاص…العام الوارد على سبب خاص
النوع الثاني
في المخصص المنفصل
والمراد بالمخصِّص المنفصل ما يستقل بنفسه في إفادة المراد، ولا يحتاج إلى ذكر العام الذي سيخصصه، كما مر في الاستثناء وغيره (127).
وينقسم المخصص المنفصل إلى ثلاثة أقسام، لأنه إما أن يكون بالعقل، وإما أن يكون بالحس، وإما أن يكون بالسمع.
أ- الدليل العقلي:
التخصيص بالدليل العقلي ينقسم إلى قسمين، لأنه إما أن يكون التخصيص به ضرورة وإما أن يكون نظرا.
1. ما يدرك تخصيصه بالعقل ضرورة، وذك كقوله تعالى: ) الله خالق كل شيء ( .فان مقتضى هذه الآية أنه خالق لنفسه، إلا إننا ندرك بالعقل ضرورة أنه ليس بخالق لها، فهذا تخصيص للآية، لا علاقة له بها، ويمكن أن يفهم بدونها، ولولاه لكان الكلام شاملاً لنفسه تعالى، ولغيرها .
2. ما يدرك تخصيصه بالعقل نظرا، وذلك كقوله تعالى : ) ولله على الناس حج البيت ( .فان مقتضى هذه الآية انه يجب الحج على كل إنسان، إلا أن العقل أدرك نظراً إخراج الصغير والغافل، لما قام من الدليل العقلي النظري على استحالة تكليفهما.
ب- الدليل الحسي:
والمراد به المشاهدة، وذلك كقوله تعالى في وصف بلقيس : ) وأوتيت من كل شيء ( فإننا ندرك بالمشاهدة أنها لم تؤت شيئاً من الملائكة والشمس والقمر، ولا من مخترعات العصر ومكتشفاته، كالمذياع، والرائي، والهاتف وغير ذلك .
وكقوله تعالى في الريح المرسلة على عاد: ) تدمر كل شيء ( فإننا ندرك بالمشاهدة أنها لم تدمر السماء .
ج- الدليل السمعي:
والمراد به ما كان متوقفاً على السمع، من الكتاب والسنة وغيرهما، فيخص به العموم من الكتاب والسنة.
والبحث في هذا المخصص يتناول الفقرات الآتية :
1_ تعارض العام والخاص(128):
قبل الكلام على أنواع المخصصات من الدليل السمعي يجب معرفة قاعدة كلية مجملة وهي:
إذا عارض لفظٌ خاصٌ لفظاً عاماً، بأن دل على خلاف ما دل عليه العام، فإنا نقدم الخاص على العام، فنأخذ به، ونخصِّص به العام، سواء تقدم، أو تأخر، أو جهل حاله، فلم يعلم أمتقدم هو أو متأخر.
لأن أعمال الدليلين أولى من إهمالهما، أو إهمال أحدهما، ولو اعتبرنا الخاص المتقدم مثلاً منسوخا، لأهملنا الخاص، وعملنا بالعام على حسابه، ولا شك أن إعمال الدليلين أولى، فإننا إذا أعمالناهما نكون قد عملنا بالخاص، وبالعام في بعض ما دل عليه بعد التخصيص .
وقيل : يعمل بالمتأخر، خاصا كان أو عاما .
وعلى الأصح في تخصيص العام بالخاص تقدم أو تأخر، بشرط أن لا يتمادى تأخره حتى يعمل بالعام، فإذا تمادى إلى أن عمل بالعام ففي هذه الحالة يكون نسخاً لا تخصيصا، وله أحكام خاصة به.
2 – تخصيص الكتاب بالكتاب والسنة المتواترة والإجماع(129):
المراد بهذا تخصيص القطعي بالقطعي، وهو جائز على الأصح، والدليل عليه الوقوع، لأنه أقوى أدلة الجواز .
ومثاله في القرآن بالقرآن، قوله تعالى : ) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ( وهو عام في كل مطلقة، سواء أكانت من أولات الحمل أم لا، ثم خُصَّ بقوله تعالى : ) وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ( فجعل عدة الحامل بوضع حملها، ولو بعد لحظة .
ومثال تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة، قوله تعالى : ) الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ( وهو عام في كل زان وزانية، سواء أكانا محصنين أم بكرين، ثم خص هذا بالسنة الفعلية المتواترة عن رسول الله ـ r ـ إذ رجم المحصنين، فخصص بسنته الفعلية عموم القرآن .
ومثال تخصيص الكتاب بالإجماع تنصيف حد القذف على العبد فإنه ثابت بالإجماع، ولذلك خصص عموم قوله تعالى : ) والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ( فإنه يقتضي أن يجلد كل قاذف ثمانين جلدة، حراً كان أو عبدا، إلا أن الإجماع أخرج منه العبد، فنصف عليه الحد بالإجماع فجعله أربعين جلدة .
3. تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بخبر الواحد (130):
والمراد به تخصيص القطعي بظني، فإن الكتاب والسنة المتواترة قطعيا الثبوت وخبر الواحد ظني الثبوت، والأصح جواز التخصيص به، لأننا مكلفون بالعمل بمقتضاه، واجب علينا إقامته، وأعمال الدليلين ولو من وجه أولى من إهمالهما أو إهمال احدهما.
وأنكر الحنفية جواز التخصيص بخبر الواحد(131) :
ومحل الخلاف في أخبار الآحاد التي لم تجمع الأمة على العمل بها، فان أجمعت على العمل بها، فالتخصيص بها جائز اتفاقا، كتخصيص آية الوصية بقوله عليه السلام : ( لا وصية الوارث ) فهذا الحديث وان كان خبر واحد، إلا انه مجمع على العمل به عند الأمة، ولذلك اتفقوا على جواز التخصيص به .
ومثال تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد عند الجمهور قوله عليه السلام: ( لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم ) الذي خص به عموم آية المواريث.
وكقوله عليه السلام: ( أنا معشر الأنبياء لا تورث، ما تركناه صدقة ) الذي خص به أيضا قوله تعالى: ) يوصيكم الله في أولادكم .. ( في آية المواريث .
4- تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بالقياس(132) :
القياس إما أن يكون قطعياً وإما أن يكون ظنيا، فإن كان قطعيا، فلا خلاف بين الأصوليين في جواز التخصيص به.
وإن كان ظنيا فالجمهور على جواز التخصيص به، خفياً كان أم جليا. وهذه المسألة فرع عن مسألة التخصيص بخبر الواحد، فمن أنكر التخصيص بخبر الواحد أنكره هنا، ومن أجازه هناك غالباً يجيزه هنا.
ومنشأ التردد في الجواز هنا هو ظنية القياس وقطعية الكتاب والسنة المتواترة كما مرَّ في تخصيصهما بخبر الواحد.
ومثال تخصيص الكتاب بقوله تعالى: ) الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة ( فهذا عام في الحر والعبد، ثم خصه الله تعالى بغير الإناث من العبيد، إذ جعل لهن حكماً خاصا، فقال:
) فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ( . وبقي الذكور من العبيد في عموم الآية الأولى .
ثم قيس الذكور من العبيد على الإناث، ونُصِّفَ الحد عليهم، وخُصَّ بهذا القياس عموم الآية الأولى الشاملة للذكور من العبيد.
فصارت آية الجلد مخصوصة بكتاب الله في حق إناث العبيد، ومخصوصة بالقياس في حق ذكورهم. والله اعلم (133) .
5- تخصيص السنة بالسنة وبالكتاب(134) :
كما جاز تخصيص الكتاب بالسنة يجوز تخصيص السنة بالكتاب لأن الله أنزل الكتاب تبيانا لكل شيء مما يبينه القرآن، قال الله تعالى: ) ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء (.
ومثال ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ( ما قُطِعَ من حي، فهو ميت ) فإن هذا عام في كل مقطوع، سواء أكان عضواً، أم جلداً، أم قرناً، أم صوفاً، أم غير ذلك.
إلا إنه خص بقوله تعالى : ) ومن أصوافها، وأوبارها، وأشعارها، أثاثا ومتاعا إلى حين ( .
فأجاز الله قطع الصوف والوبر والشعر من مأكول اللحم، فلا تنجس بالقطع، لأن الله امتنَّ بها على عباده، وهو لا يمتن عليهم بنجس العين، وبقي ما سوى هذه الأمور على الحرمة لعموم الحديث لها .
وكذلك يجوز تخصيص السنة بالسنة كتخصيص حديث الصحيحين : ( فيما سَقت السماء العشر ) وهو عام فيما كان قليلا أم كثيرا بحديث الصحيحين : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ) فالأول عام خص بهذا الحديث الثاني .
6 – تخصيص المنطوق بالمفهوم(135) :
المفهوم سواء كان مفهوم موافقة، أو مفهوم مخالفة، دليل شرعي، يجب العمل به، ولذلك جاز التخصيص به للمنطوق، وإن كان أضعف منه، جمعاً بين الدليلين، لما مَرَّ من أن أعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما.
وكون المفهوم أضعف من المنطوق لا يضر، كما لم يضر ضعف خبر الواحد الظني عن القرآن القطعي.
ومثال ذلك قوله ـ r ـ : ( خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه، أو لونه، أو ريحه ) .
وهذا عام في القليل والكثير .
وقد خص بمفهوم حديث القلتين، وهو قوله عليه السلام: ( إذا بلغ الماء قلتين، لم يحمل خبثا ) الذي يدل بمفهومه أن الماء إذا كان أقل من قلتين يحمل الخبث ولا يدفعه عن نفسه، فينجس بالملاقاة، تغير لونه أو لم يتغير.
وأما التخصيص بمفهوم الموافقة فمثاله ما إذا قال: من دخل داري فاضربه، ثم قال: إن دخل زيد فلا تقل له أف.
فهذا تخصيص بالفحوى، لأن الأول عام في زيد وغيره، والثاني خاص، وأما كونه بالفحوى، فلأنه إذا نهاه عن أن يقول له: أف، فمن باب أولى ينهاه عن الضرب.
7- التخصيص بفعله وتقريره عليه السلام (136):
الجمهور على أنه يجوز التخصيص بفعله ـ r ـ وتقريره، وذلك كما لو قال ـ r ـ : ( الوصال حرام على كل مسلم، ثم فعله أو أقر من فعله ) ، فيكون إقراره تخصيصاً للفاعل،بمعنى أن حكم العام لا يثبت في حقه، لأنه عليه الصلاة والسلام لا يقر على الباطل .
وكالتخصيص بتقريره ـ r ـ على الفعل، التخصيص بتقريره على العادة، فإن كانت العادة موجودة في عصره عليه السلام، وعلم بها، وأقرها، جاز التخصيص بها.
وذلك كما لو اعتادوا بيع الموز بالموز متفاضلا، بعد ورود النهي، وأقرهم على هذه العادة، فإنها تكون مخصصة، والمخصص في الحقيقة تقريره عليه السلام لهم على هذه العادة بهذه الشروط، فإن فقدت هذه الشروط، فلا تخصيص، فالشرع حاكم، وليس محكوما عليه.
هذا ويشترط في التقرير ليكون مخصصا أن لا يكون للعلم بأن النهي لا يجدي مع الفاعل لأنه مصر على الفعل، لاعتقاده إباحته، كتردد اليهود والنصارى إلى البيع والكنائس، وتقرير الشارع له، فان هذا لا يكون تشريعا بإباحة الذهاب إلى الكنائس، وإنما تقريره للعلم بعدم جدوى الإنكار، لإصرار فاعله عليه باعتقاده إباحته .
8- عطف العام على الخاص(137):
إذا ورد لفظ عام وعطف عليه آخر خاص، أو ورد لفظ خاص وعطف عليه آخر عام فالأصح أنه لا يخصصه في كلا الحالين .
وذلك كقوله ـ r ـ: ( لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده )، يعني بكافر حربي، للإجماع على أنه يقتل بالذمي.
وبيان هذا أن قوله: ( بكافر ) نكرة، وقعت في سياق النفي، فتعم كل كافر، ذمياً كان أو حربيا، فلا يقتل المسلم لا بذمي، ولا بحربي.
وأما ذو العهد، فقد قام الإجماع على أنه إذا قتل ذمياً، يقتل به، فيحمل الحديث على أن ذا العهد لا يقتل بكافر حربي، فصار الكلام، لا يقتل مسلم بكافر، ذمياً كان أو حربيا، ولا يقتل ذو عهد في عهده بحربي.
وفيه عطف خاص على عام، فهل يقتضي التخصيص في العام أيضا فنقول : لا يقتل مسلم بحربي فقط كما في المعطوف، بناء على أن عطف الخاص على العام، أو العكس يخصصه، أم لا ؟
الجمهور على أن عطف الخاص على العام، أو العكس، لا يخصصه، بل يبقى العام على عمومه، والخاص على خصوصه، فلا الخاص يعم، ولا العام يخص .
والعطف إنما هو للاشتراك في الحكم، وهو عدم القتل بكافر، لا في صفته وهي الحرابة.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يخصصه، وأنه يجب أن يقدر في شطر الكلام الأول وهو المعطوف عليه، ما قدر في المعطوف، ويصير الكلام، لا يقتل مسلم بكافر حربي، ولا ذو عهد في عهده بكافر حربي .
وقد عرفنا أن الجمهور يمنعون الاشتراك في الصفة، فالعطف عندهم للاشتراك في ما يجب ويمتنع ويجوز من الإعراب وما يتعلق به، لا بجميع الصفات، ولهذا عطف القرآن الكريم بعض المتخالفات على بعض، كما عطف الواجب على المندوب في قوله تعالى : ) فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ( فالمكاتبة مندوبة، والإيتاء واجب .
وكقوله تعالى: ) كلوا من ثمره إذا أثمر، واتوا حقه يوم حصاده ( فالأكل مباح والإيتاء واجب . والله أعلم .
ومثال عطف العام على الخاص قولنا: لا يقتل الذمي بكافر، ولا المسلم بكافر، فالمراد بالكافر الأول الحربي، والكافر الثاني الحربي والذمي، ولا يخصص الخاص العام بالعطف.
9- رجوع ضمير خاص إلى بعض العام (138):
إذا ذكر لفظ عام، ثم ذكر بعده ضمير خاص، يعود على بعض أفراد العام، فالأصح أنه لا يخصصه.
مثال ذلك قول الله تعالى : ) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ( فإنه عام يشمل المطلقة البائن والرجعية .
ثم قال بعد ذلك : ) وبعولتهن أحق بردهن ( وهذا خاص، فالزوج لا يملك رد البائن، وإنما يملك رد الرجعية، والضمير في ( بعولتهن ) راجع إلى الرجعية فقط، فهل هذا يقتضي التخصيص في مرجع الضمير، وهو قوله تعالى: ) والمطلقات ( فيحمل على الرجعية فقط، أم أنه لا يخصصه ؟ الأصح أنه لا يخصصه، بل يبقى على عمومه يشمل البائن والرجعية، ولا محذور في مخالفة الضمير لمرجعه، لموجود القرينة الظاهرة .
ومثل هذا ما لو ورد بعد العام حكم لا يتأتى إلا في بعض أفراده، وذلك كقوله تعالى : ) يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ( ثم قال : ) لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ( يعني الرغبة في مراجعتهن، والمراجعة لا تكون إلا في الرجعية، لا في البائن، ومع ذلك يبقى الكلام الأول عاما يشمل الرجعية وغيرها .
10- التخصيص بمذهب الراوي(139):
الراوي إما أن يكون صحابياً أو غير صحابي.
وعلى كلا الحالين إذا روى الراوي حديثاً عاما، ثم عمل عملاً يخالفه، أو أفتى بما يخالفه فالأصح أن عمله وفتواه لا يخصصان العام، بل يبقى على عمومه، لأن عمل الراوي قد يكون ناشئا عن اجتهاده، وهو ليس بدليل، والمجتهد لا يقلد مجتهدا، فالدليل المروى أولى بالإتباع .
ومثال ذلك ما رواه عبدا لله بن عباس عن النبي ـ r ـ: ( من بدل دينه فاقتلوه )، إلا أن مذهبه أنه لا تقتل المرأة المرتدة بالردة، وهو مخالف لما رواه، لأن ( من ) من صيغ العموم الشاملة للإناث والذكور.
وربما كان يرى هو أن من الشرطية لا تتناول الإناث، والله أعلم.
11- إفراد فرد من أفراد العام بحكمه(140 ):
إذا ذكر الشارع لفظا عاما، وحكم عليه بحكم ما، فان الحكم يكون عاما شاملا لجميع الأفراد، فإذا عاد الشارع ثانية، وأفرد فرداً واحداً من أفراد العام الذين شملهم الحكم السابق، وأفرده بنفس الحكم، وذلك كأن يقول : اقتلوا المشركين، فهو عام لكل شرك، وثنياً كان، أو بوذياً، أو مجوسياً، أو يهودياً، أو نصرانيا، ثم عاد ثانية وقال : اقتلوا المجوس، فإنه أفرد فرداً واحداً من أفراد العام بحكمه السابق، وهو القتل .
فهل هذا يكون تخصيصا للعام، أم لا ؟
الأصح أنه لا يكون تخصيصاً له، لأنه لا منافاة بين الحكم على العام، وبين الحكم على بعض أفراده بنفس الحكم، وشرط التخصيص المنافاة.
وفائدة ذكر بعض الأفراد، وإفرادهم بالحكم، أنه ينفي عن الفرد الذي خُصَّ بحكم العام احتمال تخصيصه في المستقبل، فيما لو ورد المخصص.
ومثال هذا في حديث رسول الله ـ r ـ ما رواه الترمذي وغيره، أنه ـ r ـ قال : ( أيما أهاب دبغ فقد طهر ) وهو عام لجلد الشاة، والبقر، والإبل، وغيرها من غير مأكول اللحم، كالفيل، والدب، والنسور، وغير ذلك .
ثم مر ـ r ـ بشاة ميتة لمولاة ميمونة، فقال : ( هلا أخذتم أهابها فدبغتموه، فانتفعتم به ؟ فقالوا : إنها ميتة ؟ فقال: إنما حرم أكلها ) رواه الشيخان، وفيه إفراد لبعض أفراد العام ـ وهو الشاة ـ بحكمه، وهو الطهارة بالدباغ، وليس فيه تخصيص للحكم على الأصح والله اعلم.
12- العام الوارد على سبب خاص(141) :
الكلام الوارد جواباً لسؤال، إما أن يكون مستقلاً بإفادة المعنى بأن لا يحتاج إلى ذكر السؤال، وإما أن لا يستقل.
فإن كان لا يستقل بالإفادة إلا بذكر السؤال، فإنه في هذه الحالة يكون تابعا للسؤال في عمومه وخصوصه، فإن كان السؤال عاما،كان الجواب عاماً، وإن كان السؤال خاصاً، كان الجواب خاصا .
وذلك كقوله ـ r ـ وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر: ( أينقص الرطب إذا جف ؟ ) قالوا : نعم، قال : ( فلا إذن ) ، فإنه يعم كل بيعٍ للرطب بالتمر.
ومثال الخصوص كما لو قال قائل للنبي ـ r ـ : توضأت من ماء البحر، فقال له : يجزيك، فإن هذا يكون خاصا بالسائل، ولا يعم غيره، لأنه سأله عن وضوئه خاصة، فأجابه عنه، ولا عموم في اللفظ، فقد يكون الحكم على ذلك الشخص لأمر يخصه، كما خصص خزيمة بقبول شهادته وحده، وخص أبو الدرداء بإجزاء التضحية بالعناق، مع أنه لا يجزي أحداً غيره .
وان كان يستقل بإفادة المعنى دون السؤال، فهو إما أن يكون أعم من السؤال، وأما أن يكون أخص منه، وإما أن يكون مساويا.
إن كان يستقل بإفادة المعنى دون السؤال، فهو إما أن يكون أعم من السؤال، وإما أن يكون أخص منه، وإما أن يكون مساويا.
فان كان مساويا، فهذا واضح، كأن سئل عن الجماع في نهار رمضان، فقال: من جامع في نهار رمضان فعليه كفارة ككفارة الظهار.
وإن كان أخص من السؤال، كقوله: من أفطر في رمضان بجماع، فعليه الكفارة، جوابا لمن سأل عن مطلق الإفطار في رمضان.
فإن هذا لا يجوز إلا بثلاثة شروط :
1. أن يكون في المذكور تنبيه ودلالة على ما لم يذكر .
2. أن يكون السائل مجتهدا، يمكنه أن يعرف حكم المسكوت عنه من المنطوق .
3. أن لا تفوت المصلحة باشتغال السائل بالاجتهاد.
وأما إذا كان الجواب عاما، والسبب أو السؤال خاصا، فالأصح أن العبرة في هذه الحالة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، نظراً لظاهر اللفظ المقتضى للعموم ولأن الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم تمسكوا بالعموميات الواردة على أسباب خاصة، ولأن خصوص السبب لا يعارض عموم العام .
ومثال ذلك قوله ـ r ـ : ( الخراج بالضمان ) وقد سئل عمن اشترى عبداً فاستعمله، ثم وجد به عيبا فرده .
وكقوله:وقد سئل عن بئر بضاعة : ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) في جواب سؤالهم: أنتوضأ من بئر بضاعة،وهي بئر يلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب، والنتن).
فقوله: ( لا ينجسه شيء ) عام في الحيض، ولحوم الكلاب، والنتن، وغير ذلك من النجاسات، ولا عبرة بخصوص السبب.
وهذا الكلام إذا لم تكن هناك قرينة تدل على إرادة العموم، وإلا بأن كانت قرينة تدل على إرادته فالعبرة بالعموم في هذه الحالة أولى وأوضح من الحالة التي لا قرينة فيها.
وذلك كقوله تعالى: ) والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ( وسبب نزوله خاص إذ نزل في رجل سرق رداء صفوان، فذكر السارقة مع السارق قرينة دالة على إرادة العموم، وأنه ليس خاصاً بذلك الذي سرق رداء صفوان فقط .
وأما فائدة ذكر سبب النزول، الذي ورد عليه اللفظ العام فهي العلم بأن هذه الصورة قطعية الدخول في الحكم، وأنها لا يمكن أن تخصص بالاجتهاد.
والله أعلم.
(127) جمع الجوامع: 2/24، الأحكام: 2 / 459، المحصول: 3/ 111.
(128) التبصرة : 151 ، الأحكام ، المنتهي : 95 ، المحصول : 3/161 ، الإبهاج ونهايةا لسول :
2/105، مسلم الثبوت: 1/345، تيسير التحرير: 1/261، تقرير التحبير: 1/242/
المعتمد : 1/276 ، جمع الجوامع : 2/41 ، اللمع : 19 .
(129) المحصول: 3 / 17 – 120 – 124، الأحكام: 2 / 465، جمع الجوامع
2 / 26، المعتمد: 1 / 274.
(130) التبصرة : 132 ، اللمع : 14 ، البرهان : 1 / 426 ، المحصول : 3 /131 ،
الإبهاج ونهاية السول : 2 / 109 ، الأحكام : 2 / 472 ، ومنتهى السول : 2 / 50 ،
المنتهى: 96، المنخول: 174، رفع الحاجب: 2 / ق 8 – أ.
(131) كشف الأسرار : 1 / 294 ، أصول السرخسي : 1 / 141 ، تيسير التحرير :
1 / 267 ، التلويح : 1 / 204 ، وانظر شرحنا على التبصرة : 132 .
(132) التبصرة : 137 ، اللمع : 20 ، البرهان : 1/ 428 ، المحصول : 3 / 148 ،
الإ‘بهاج ونهاية السول : 2 / 112 ، الأحكام : 2 / 491 ، المنتهى : 98 .
(133) انظر شرحنا على التبصرة :138 .
(134) التبصرة : 136 ، الأحكام : 2/ 469 ، منتهى السول : 2/50 ، المنتهى : 96 .
(135) الأحكام: 2/ 478، المحصول: 3/ 159، جمع الجوامع: 2/30.
(136)الأحكام: 2/ 480، المحصول: 3 / 125، جمع الجوامع: 2 / 31.
(137) الأحكام: 2/ 376، المحصول: 3 / 205، جمع الجوامع: 2/ 32، المعتمد:
1/ 308 .
(138) جمع الجوامع : 2 / 33 .
(139) التبصرة : 149 ، البرهان : 1 / 442 ، المحصول : 3 / 127 ، الإبهاج ونهاية
السول : 2/120 ، الأحكام : 2 / 485 ، المنتهى : 97 ، اللمع : 20 . جمع الجوامع
: 2/ 33 .
(140 ) الأحكام: 2/ 488، جمع الجوامع: 2 / 32، المعتمد: 1 / 311.
(141) جمع الجوامع : 2/37 ، وانظر شرحنا على التبصرة : 144 ، حيث فصلنا فيه الكلام على الموضوع تفصيلا كاملا شاملا .