تعريف أصول الفقه
تعريف أصول الفقه
قبل الخوض في الكلام على مقدمات الأصول ومباحثه، يجب علينا أن نقف على حده وتعريفه، لأنه لا يمكن للإنسان أن يخوض في أي علم من العلوم إلا بعد أن يتصوره تصوراً صحيحاً سليماً.
والطريق إلى التصور الصحيح، هو التعريف السليم، الذي يوضح المراد من المعرف ويشرحه
وكلمة ” أصول الفقه ” ـ ككل كلمة إصلاحية ـ لها معنيان، معنى لغوي، ومعنى اصطلاحي.
ولنبدأ بالمعني اللغوي لأنه هو الأصل. ثم نتبعه بالمعني الاصطلاحي .
أصول الفقه لغة :
قبل أن تصبح كلمة ” أصول الفقه ” لقبا لفن مخصوص كانت مركباً إضافيا مكوناً من كلمتين ” أصول ” و ” فقه ” ولكل منهما معنى في اللغة ومعنى في الإصلاح، ولا بدد من الوقوف على معناها، لأن معرفة المركب متوقفة على معرفة مفرداته .
الأصل لغة :
والأصول جمع أصل، وله معان متعددة في اللغة أقربها معنيان:
1. ما يبنى عليه غيره، كما قاله أبو الحسين البصري في ( المعتمد ) .
2. منشأ الشئ .
والأول أشهر .
الأصل اصطلاحاً :
والأصل في الاصطلاح له معان متعددة أيضا نذكر منها:
1. الدليل: كقولهم، أصل هذه المسألة الكتاب والسنة، ومنه أيضا أصول الفقه، أي أدلته.
2. الرجحان: كقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة، أي الراجح عند السامع والمتبادر إلى ذهنه هو الحقيقة لا المجاز.
3. القاعدة المستمرة: كقولهم: إباحة الميتة للمضطر على خلاف الأصل، أي على خلاف القاعدة المستمرة.
4. الصورة التي قيس عليها: وهي أحد أركان القياس، إذ لا بد فيه من أصل يقاس عليه، وفرع يلحقه حكم الأصل.
وأما الفقه فله أيضا معنيان معنى لغوي، ومعنى اصطلاحي.
أما معناه في اللغة: فقد وردت فيه عبارات أصحها: أنه بمعنى الفهم مطلقاً، سواء أكان الأمر دقيقاً، أم بديهياً.
ومنه قول الله تعالى : ) قالوا يا شُُعيب ما نَفْقَهُ كثيرا ًمما تقول ( وقوله : ) ما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ( .
وأما معناه في الاصطلاح: فهو العلم بالأحكام، الشرعية، والعملية، المكتسب، من أدلتها التفصيلية. (2)
كما عرفه الإمام فخر الدين الرازي، ومختصرو كلامه كصاحبي الحاصل والتحصيل، والبيضاوي صاحب ” المنهاج ” وابن السبكي في ” جمع الجوامع ” وغيرهم .
شرح التعريف :
فالعلم: هو الإدراك الجازم المطابق للواقع عن دليل.
ولما كان الفقه من قبيل الظنون، وردت عدة اعتراضات على تعريفه بالعلم، وأجيب عنها بأجوبة لا يمكن للمبتدئ الوقف عليها و استيعابها وسأذكر منها ما يناسب المقام.
قالوا : إن المراد من العلم هو الظن القوي، وعبر عنه العلم مجازاُ، وهو جائز مع وجود القرينة .
والعلم: جنس تدخل فيه سائر العلوم.
والأحكام : النسب التامة، قيد خرج به العلم بالذوات، والصفات، والأفعال . والألف واللام فيه للجنس، لأن الحد إنما وضع لحقيقة الفقه، ولا يرد عليه أن أقل جمع الجنس ثلاثة، فيلزم منه أن العامي يسمى فقيها إذا عرف ثلاث مسائل بأدلتها.
لأن فقيها اسم فاعل من فقه، بضم القاف، والذي صار الفقه سجية له.
وليس اسم فاعل من فقه ـ بكسر القاف ـ بمعنى فهم، ولا من فقه ـ بفتح القاف ـ بمعنى سبق غيره إلى الفهم، لأن قياس اسم الفاعل منهما فاقه كما هو مقرر في علم العربية.
ولا يمكن أن تكون الألف واللام للعهد، لأنه لا معهود.
ولا يمكن أن تكون للاستغراق، لأنه يلزم منه ألا يوجد في الدنيا فقيه، لأنه ما من فقيه إلا وتوقف في بعض المسائل ولم يجب عنها، وقد تكون له، ويكون معنى العلم بالأحكام التهيؤ لها، بحصول الملكة، أو علمها بالقوة لا بالفعل .
والحكم قد يكون شرعياًََ، وغير شرعي، ولذلك قيده بالشرعية.
فالشرعية : قيد يخرج به، الأحكام العقلية، كالحكم بأن العالم حادث، وأن الواحد نصف الاثنين، والأحكام الحسية، كالحكم بان الشمس مشرقة، والتجريبية، كالحكم بأن السقمونيا مسهلة، والهندسية كالحكم بأن مجموع زوايا المثلث يساوي 180 درجة والأحكام الوضعية الاصطلاحية كالحكم بان الفاعل مرفوع في النحو، وأن الكلي متوطئ ومشكك في المنطق .
والشرعي: هو ما تتوقف معرفته على الشرع.
ولما كان الحكم الشرعي يشمل الأحكام العملية والاعتقادية، والفقه خاص بالأحكام العملية قيد بها .
فالعملية : قيد أخرج به الأحكام العلمية، الاعتقادية، وهي أصول الدين، وتدرس في علم التوحيد، لا الفقه، كالعلم بأن الله واحد، سميع، بصير .
ولما كانت الأحكام الشرعية العملية، منها ما هو مكتسب، ومنها ما هو غير مكتسب والفقه خاص بالمكتسب قيد في التعريف به.
فالمكتسب: قيد خرج به علم الملائكة، وعلم النبي ـ r ـ الحاصل بالوحي ، بخلاف علم المجتهد، فإنه حاصل بالاستنباط من الأدلة .
والتفصيلية: وهي التي ترد حكماً لجزئية معنية أو فعل معين، كقوله تعالى: ) وأقيموا الصلاة ( فإنه دليل جزئي خاص بالصلاة، ولا يتعداها إلى الصيام، أو غيره .
وخرج بهذا القيد العلم الحاصل للمقلد في المسائل الفقهية، فإن المقلد اذاعلم أن هذا الحكم أفتى به المفتى، وعلم أن ما أفتى به المفتي هو حكم الله تعالى في حقه، علم بالضرورة أن ذلك حكم الله في حقه، فهذا وأمثاله علم بأحكام شرعية عملية مكتسبة، ولكن لا من دليل تفصيلي، وإنما من دليل إجمالي، فإن المقلد لم يستدل على كل مسألة بدليل مفصل يخصها، بل بدليل واحد إجمالي يعم الجميع .
و موضوع علم الفقه هو: فعل المكلف من حيث الحل والحرمة. أي من حيث عروض الأحكام الشرعية له.
واستمداده: من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وغيرها من الأدلة المعروفة.
وفائدته : امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، المحصلان للفوائد الدنيوية والأخروية .
أصول الفقه اصطلاحاُ:
والآن وبعد معرفة معنى أصول الفقه لغة، بمعرفة أجزائه، على انه مركب إضافي، قبل أن يصبح لقباً على الفن المخصوص، يجدر بنا أن نعرف معناه اللقبي الذي لا ينظر فيه إلى أجزائه التي ركب منها، بل صارت كلمة الأصول فيه كالزاي من زيد، لا تدل على معنى خاص، وإنما مجموع الكلمتين ( أصول الفقه ) يدل على الفن المخصوص، كما أن مجموع حروف زيد يدل على المسمى المخصوص.
وللأصوليين في معناه اللقبي عدة تعاريف، نختار منها تعريف الإمام البيضاوي في ( المنهاج )(3)..وهو :
معرفة دلائل الفقه إجمالا، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد .
شرح التعريف :
1. المعرفة: وهي شاملة لأصول الفقه وغيره.
والفرق بينها وبين العلم من وجهين:
أ- العلم يتعلق بالنسب، أي وضع لنسبة شئ لآخر، ولهذا تعدى إلى مفعولين، بخلاف عرف، فإنها وضعت للمفردات، تقول عرفت زيداً .
ب- العلم لا يستدعى سبق الجهل، بخلاف المعرفة، ولهذا لا يقال لله تعالى عارف، ويقال له عالم.
2. دلائل الفقه :
أ- الدلائل جمع دليل، وهو في اللغة الموصل إلى الشئ .
وفي الاصطلاح : ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري.
ب- والدلائل: جمع مضاف إلى الفقه، فيفيد العموم، فيعم الأدلة المتفق عليها، والمختلف فيها.
ج- وهذا قيد خرج به معرفة غير الأدلة، كمعرفة الفقه مثلاً، كما خرج به معرفة أدلة غير الفقه، كأدلة النحو والكلام.
د- والمراد بمعرفة الأدلة أن يعرف أن الكتاب، والسنة والإجماع والقياس، أدلة يحتج بها، وان الأمر مثلاً للوجوب، وليس المراد به حفظ الأدلة.
3. إجمالا: أي أن المعتبر في حق الأصولي إنما هو معرفة الأدلة من حيث الإجمال، ككون الإجماع حجة، والأمر للوجوب، والنهي للتحريم.
وهذا القيد احترز به عن علم الفقه، لأن الفقيه يبحث عن الدلائل من جهة دلالتها على المسألة المعينة، أي في الدلائل التفصيلية، كما مر في تعريف الفقه.
4. وكيفية الاستفادة منها : أي معرفة كيفية استفادة الفقه من تلك الدلائل الإجمالية، أي كيف يستنبط الأحكام الشرعية منها في حالة تعارضها وتعادلها، كتقديم النص على الظاهر، والمتواتر على الآحاد، وحمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص، وغير ذلك مما يذكر في أبحاث التعادل والترجيح .
وإنما كان هذا من أصول الفقه، لأن أدلة الفقه ظنية، يقع فيها التعارض، والذي يريد استنباط الأحكام منها لا بد له من معرفة التعارض، والترجيح ليعرف كيف يستفيد الحكم الشرعي.
5. وحال المستفيد: أي معرفة حال المستفيد، وهو طالب حكم الله تعالى، فيدخل فيه المجتهد والمقلد.
ولذلك يذكر الأصوليون في كتبهم شرائط الاجتهاد، والتقليد، ليعرف المجتهد من المقلد .
والخلاصة أن أصول الفقه يشتمل على ثلاثة أمور.
الأول: دلائل الفقه الإجمالية.
والثاني: كيفية الاستفادة منها.
والثالث: حال المستفيد وصفته.
ولذلك قال: أصول الفقه، ولم يقل أصل الفقه.
وأما موضوع علم الأصول فهو: أدلة الفقه من حيث العوارض اللاحقة لها من كونها عامة، وخاصة، وأمرا، ونهياً وغير ذلك.
وأما غايته فهي: الوصول إلى الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية بواسطته.
على معنى انه لا بد من العلم به لنستفيد الحكم الشرعي من الدليل التفصيلي، لأن الدليل التفصيلي وحده لا يفيد، فلا بد من الدليل الإجمالي لنصل إلى النتيجة.
ومثال ذلك أن قوله تعالى ) أقيموا الصلاة ( أمر بإقامتها، إلا أننا لا نعرف ما المراد بالأمر، هل هو الوجوب أو غيره، فإذا عرفنا أن الأمر للوجوب انتظم من هذين الدليلين التفصيلي، والإجمالي، قياس اقتراني نتيجة الحكم الشرعي، فنقول:
أقيموا الصلاة، أمر، والأمر للوجوب، فتخرج معنا نتيجة هي: الصلاة واجبة.
فقد تبين لنا من المثال انه لا بد من ا لدليل الإجمالي، وإلا لما وصلنا إلى الحكم الشرعي، لأن المقدمة الواحدة لا توصل إلى النتيجة.
وقوله تعالى: ) لاَ رَيْبَ فِيْهِ ( نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، إذن فقوله ) لا ريب ( عام لجميع أنواع الريب، فلا يوجد أي نوع منها في القرآن.
وقوله تعالى: ) اُقتُلوا المشركين ( جمع حُلِيٌ بالألف واللام، والجمع المحلى بالألف واللام يفيد العموم، فالمشركون هنا عام يشمل كل مشرك كتابي أو غيره.
وبهذا نعلم أنه لولا الأصول لما عرفت الأحكام.
وللجهل بالأصول ضل كثير من الناس، فأحلوا الحرام، وحرموا الحلال، ظناً منهم بأن، معرفة ا لدليل التفصيلي كافية جهلاً وغروراً.
فلو أنهم عرفوا أصول الفقه لأعرضوا عن كثير مما افتروا به على شرع الله بجهلهم، ولأمسكوا كثيراً من سهامهم التي يفوقونها لأئمة هذا الدين بغرورهم .
عصمنا الله وجميع المسلمين من الزلل، وأرشدنا إلى سبل الهدى في القول والعمل .
هذا ما يتعلق بتعريف الأصول، وموضوعه، والغاية منه على سبل الاختصار والإيجاز.
وأما موضوعاته فسيكون بحثنا فيه على النحو التالي :
1. الأدلة المتفق عليها.
2. الأدلة المختلف فيها.
3. كيفية الاستفادة من الأدلة وهي أبحاث التعادل والترجيح .
4. صفات المجتهد والمفتي والمستفتي.
إلا أنه جرت عادة الأصوليين في كثير من مؤلفاتهم على ذكر مقدمات ضرورية يجب الوقوف عليها قبل الخوض في المباحث الأصولية سموها بالمقدمات الأصولية. كالحكم الشرعي وتقسيماته، وما يتعلق به.
لأنه لما كان المقصود من هذه الأدلة هو استنباط الأحكام بالإثبات تارة، وبالنفي أخرى، كحكمه على الأمر بأنه للوجوب لا للندب، وعلى النهي بأنه للتحريم لا للكراهة، والحكم على الشيء بالنفي والإثبات فرع عن تصوره، لذلك احتاج الأصولي إلى تصور الأحكام الخمسة الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم، وما يتعلق بالحكم من مباحث كأقسام الحكم، وأركانه وغير ذلك …
ولذلك سنقدم على المباحث الأصولية مقدمة نعرف من خلالها أهم الأمور التي يجب على الأصولي الوقوف عليها قبل الخوض في هذا الفن.
(2) نهاية السول 1 /19
(3) نهاية السول : 1/13 .