مسالك العلة،الإجماع،النص،الإيماء،السبر والتقسيم،المناسبة،أقسام المناسب….
المبحث الثاني
في مسـالك العِـلة(261)
والمراد به الطرق الدالة عليها، إذ لا يكتفي في القياس بمجرد وجود العلة الجامعة في الأصل والفرع، بل لا بد من دليل يدل عليها، وهو ما سنتكلم عليه الآن.
1 – الإجماع:
فإذا أجمعت الأمة على الوصف الفلاني علة للحكم، ثبتت عِلِّيته له، إلا أن الإجماع قد يكون على علة معينة، وقد يكون على أصل التعليل.
أما الأول فهو إجماع الأمة على عين العلة ، وذلك كتعليل ولاية المال بالصغر ، وكإجماعهم على أن علة تقديم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب في الإرث ، هو امتزاج النسبين ، أي كونه من الأبوين ، وحينئذ يقاس عليه تقديمه في ولاية النكاح ، والصلاة عليه ، وتحمل العقل ، بجامع امتزاج النسبين .
وكالإجماع على أن العلة في قوله – r -: (( لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان )) هي تشويش الغضب للفكر، وقيس عليه كل مشوش للفكر، كالجوع المفرط وغيره، فيمتنع معه الحكم.
وأما الثاني، وهو الإجماع على أصل التعليل دون تعيينه، فكإجماع السلف على أن الربا في الأصناف الأربعة معلَّل، إلا أنهم اختلفوا في عين العلة، فقيل: الطعم، وقيل: القوت، وقيل الكيل، وقيل غير ذلك.
2 – النص:
وهو ما يدل بالوضع من الكتاب والسنة على علية وصف الحكم، وينقسم إلى قسمين:
قاطع: وهو الذي لا يحتمل غير العلية، ويعبر عنه بالصريح.
وظاهر: وهو الذي يحتمل غيرها احتمالاً مرجوحاً.
أولاً: النص الصريح: وله ألفاظ تدل عليه منها:
أ – النص على العلة بالاسم الصريح كقوله: العلة كذا،أو لعلة كذا،أو لسبب،أو لمؤثر أو لموجب كذا، أو لأجل كذا، كقوله تعالى: ) من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل ( وكقوله عليه الصلاة والسلام: (( إنما جعل الاستئذان من أجل البصر )).
ب – كي: كقوله تعالى: ) كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم (.
جـ – إذن: كقوله تعالى: ) إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات(.
ثانياً: النص الظاهر: وله أيضاً ألفاظ تدل عليه منها:
أ – اللام : سواء أكانت ظاهرة ، نحو قوله تعالى: )أقم الصلاة لدلوك الشمس(
وقوله تعالى: ) كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور(
أم مقدرة نحو قوله تعالى: ) ولا تطع كل حلاف مهين ، هماز مشاء بنميم ( …. إلى قوله تعالى: ) أن كان ذا مال وبنين ( أي لأن كان ذا مال وبنين .
ب – الباء : كقوله تعالى: ) فبظلم من الذين هادوا حرَّمنا عليهم طيبات أحلت لهم (
وقوله تعالى: ) ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ( .
جـ – إن : كقوله تعالى: ] رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ( .
وقوله عليه الصلاة والسلام في تعليل طهارة سؤر الهرة : ) إنها من الطوافين عليكم والطوافات (.
د – إذ : كقولنا : ضربت العبد إذ أساء ، أي لإساءته .
3 – الإيماء:
ويسمى بالتنبيه أيضاً، وهو اقتران وصف بحكم، لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيداً من الشارع لا يليق بفصاحته وإتيانه بالألفاظ في مواضعها، وهو أنواع منها:
أ – الحكم بعد سماع وصف ، كما في حديث الأعرابي الذي واقع أهله نهار رمضان :
(( واقعت أهلي في نهار رمضان ، فقال له – r – أعتق رقبة )) والاقتران الذي تضمنه هذا الكلام هو أمره بالإعتاق عند ذكر الوقاع، وهذا يدل على أنه علة له، وإلا لخلا السؤال عن الجواب ، وهذا بعيد جداً من الشارع ، فيقدر السؤال في الجواب ، فكأنه قال : واقعت فأعتق .
ب – أن يذكر في الحكم وصفاً لو لم يكن علة له لَعَرِىَ عن الفائدة ، وذلك كقوله – r -:
(( لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان )) فقد قيد رسول الله – r – المنع من الحكم بحالة الغضب المشوش للفكر، وهذا التقييد يدل على أنه علة للحكم ، وإلا لخلا ذكره عن الفائدة ، وهذا بعيد عن كلام الشارع .
جـ – تفريق الشارع بين حكمين بصفة ، مع ذكرهما أو ذكر أحدهما، فمثال ذكرهما ما في الصحيحين (( من أنه – r – جعل للفرس سهمين وللرجل سهماً )) فتفريقه – r – بين هذين الحكمين ، بهاتين الصفتين ، وهما الفرسية والرجولية ، لو لم يكن لعلية كل منهما ، لكان بعيداً .
فالفرسية علة استحقاق خصوص السهمين والرجولية علة استحقاق خصوص السهم ، أما علة الاستحقاق في الجملة فالقتال، أو الحضور بنيته وإن لم يقاتل.
ومثال ذكر أحدهما قوله – r – : (( القاتل لا يرث )) ومفهومه أن غير القاتل يرث وهذا المفهوم معلوم في الأصل ، فالتفريق بين عدم الأرث المذكور والأرث المعلوم بصفة القتل المذكور مع عدم الارث ، لو لم يكن للتعليل لكان بعيداً من كلام الشارع .
د – التفريق بين حكمين بشرط أو غاية أو استثناء أو استدراك فمثال التفريق بين حكمين بشرط قوله – r – : (( الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل ، سواء بسواء ، يداً بيد ، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد )) .
فالتفريق بين منع البيع في هذه الأشياء متفاضلاً ، وبين جوازه عند اختلاف الجنس ، لو لم يكن لعلية الاختلاف للجواز ، لكان بعيداً .
ومثال الغاية ، قوله تعالى: ] ولا تقربوهن حتى يطهرن [ أي: فإذا طهرن، فلا مانع من قربانهن، فتفريقه بين المنع من قربانهن في الحيض، وبين جوازه في الطهر، لو لم يكن لعلية الطهر للجواز، لكان بعيداً.
ومثال الاستثناء، قوله تعالى: ] فنصف ما فرضتم، إلا أن يعفون [ أي الزوجات عن ذلك النصف، فإن عفون فلا شيء لهن، فتفريقه بين ثبوت النصف لهن، وبين انتفائه عند عفوهن، لو لم يكن لعلة العفو للانتفاء لكان بعيداً.
ومثال الاستدراك ، قوله تعالى: ] لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان [ فتفريقه بين عدم المؤاخذة بالأيمان وبين المؤاخذة بها عند تعقيدها لو لم يكن لعلية التعقيد للمؤاخذة ، لكان بعيداً .
هـ – بناء الحكم على الوصف بالفاء ، وهو أن يذكر حكم ووصف وتدخل الفاء على الثاني منهما سواء كان هو الوصف أو الحكم وسواء كان من كلام الشارع أو الراوي.
فمثال دخول الفاء على الوصف في كلام الشارع قوله عليه السلام : (( لا تقرِّبوه طيباً فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً )) فالعلة بعثه ملبياً .
قال الإسنوي : ولم يظفروا بمثالٍ لدخول الفاء على الوصف في كلام الراوي .
ومثال دخولها على الحكم في كلام الشارع، قوله تعالى: ] والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ فالعلة السرقة.
ومثال دخولها على الحكم في كلام الراوي قول عمران بن حصين : (( سها رسول الله – r – فسجد )) وقول غيره : (( زنى ماعز فرجم )) فالعلة السهو والزنى .
ولا فرق بين الراوي الفقيه وغيره، إلا أن الوارد في كلام الشارع أقوى في العلية من الوارد في كلام الرواي ، والوارد في كلام الراوي الفقيه أقوى في العلية من الوارد في كلام غير الفقيه .
و – ترتيب الحكم على الوصف بدون فاء ، وهو أيضاً يقتضى عليه الوصف ، سواء أكان الوصف مناسباً أم لا .
وذلك نحو قل القائل: أكرم العلماء، فترتيب الإكرام على العلم لو لم يكن لعلية العلم للإكرام، لكان بعيداً.
وأما أنه لا تشترط فيه المناسبة فلأنه لو قال قائل: (( أكرم الجاهل، وأهن العالم، لكان ذلك قبيحاً في العرف، وليس قبحه لمجرد الأمر بالإكرام للجاهل ، وإهانة العالم ، فإن الأمر بإكرام الجاهل قد يحسن لدينه ، أو شجاعته ، أو غير ذلك
والأمر بإهانة العالم قد يحسن أيضا لفسقه أو بدعته،أو غير ذلك، وإذا لم يكن القبح لمجرد الأمر ، فهو إذن لسبق تعليل هذا الحكم بهذا الوصف إلى الأفهام ، لأن الأصل عدم علة أخرى ، وإذا سبق التعليل إلى الأفهام مع عدم المناسبة لزم أن يكون حقيقة ، لأن التبادر من أمارات الحقيقة )) .
ز- المنع مما قد يفوت المطلوب ، وذلك نحو قوله تعالى : ] فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ فالبيع وقت النداء يوم الجمعة قد يؤدي إلى فوات صلاة الجمعة ، ولذلك منع منه ، فلو لم يكن هذا المنع لمظنة تفويتها ، لكان بعيداً .
ح – ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الشرط والجزاء، نحو قوله تعالى: ] ومن يتق الله يجعل له مخرجاً [ أي لأجل تقواه.
ط – تعليل عدم الحكم بوجود المانع منه، نحو قوله تعالى: ] ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض [.
والجمهور على أنه لا يشترط أن تكون هناك مناسبة بين الوصف المومي إليه وبين الحكم في جميع الصور التي ذكرناها ، بناء على أن العلة هي المعرِّف كما مر معنا .
هذا وهناك وجوه أخرى للإيماء لا سبيل الآن لحصرها، قال الغزالي: إن وجوه الإيماء لا تنحصر فيما يذكره الأصوليين ، وإنما يذكرون ما يذكرون تنبيهاً على ما لم يذكر .
4 – السِّبر والتقسيم:
وهو المسلك الرابع من مسالك العلة، والسِّبر لغة الاختبار، ومنه سمي ما يعرف به طول الجرح وعرضه مسباراً، ويقولون هذه القضية يسبر بها غور العقل أي يختبر .
وأما التقسيم لغة فهو الافتراق ، ولذلك عبر بعض الأصوليين عنه بالافتراق .
وحاصل هذا المسلك أن الناظر يحصر الأوصاف الموجودة في الأصل المقيس عليه ، بأن يقول مثلاً: علة تحريم البيع في الربويات الطعم أو الاقتيات، أو الادخار، أو الكيل وهذا هو التقسيم ، ثم يختبر الصالح للعلية من غيره ، وهذا هو السبر ، فيعين الصالح كالطعم مثلاً ، ويبطل ما عداه بالطرق المعتبرة .
وهو ينقسم إلى قسمين حاصر وغير حاصر.
فالتقسيم الحاصر هو الذي يكون دائراً بين النفي والإثبات، وذلك كقول الشافعي مثلاً:
ولاية الإجبار على النكاح، إما أن لا تعلل بعلة أصلاً، أو تعلل، وعلى التقدير الثاني ، إما أن تكون معللة بالبكارة ، أو الصغر، أو غيرهما، والأقسام الأربعة باطلة سوى التعليل بالبكارة
أما الأول وهو أن لا تكون معللة، والرابع وهو أن تكون معللة بغير البكارة والصغر فباطلان بالإجماع
وأما الثالث، وهو التعليل بالصغر فباطل أيضاً، لأنها لو كانت معللة بالصغر فباطل أيضا، لأنها لو كانت معللة بالصغر لثبتت الولاية على الثيب الصغيرة لوجود العلة، وهو باطل لقوله عليه الصلاة والسلام: (( الثيب أحق بنفسها )).
وهذا القسم يفيد القطع إن كان الحصر في الأقسام، وإبطال غير المطلوب قطعياً.
وإلا فهو يفيد الظن وهو الأكثر في الشرعيات.
وأما التقسيم الذي ليس بحاصر، فهو الذي لا يكون دائراً بين النفي والإثبات، ويسمى بالتقسيم المنتشر، وهو لا يفيد إلا الظن، وهو حجة في الشرعيات لا العقليات
ومثاله قولنا : علة حرمة الربا في الربويات إما الطعم ، أو الكيل ، أو القوت ، أو الادخار ، ومن ثم نبطل ما عدا الطعم بالطرق المعروفة للإبطال ، فيتعين الطعم ، وهو المطلوب .
وأما طرق إبطال العلية لوصف فكثيرة منها:
أ – بيان أن الوصف طرد، من جنس ما علم من الشارع إلغاؤه، كالذكورة والأنوثة في العتق، والطول والقصر، فهذه أمور لم يعتبرها الشارع.
ب – أن يكون في الوصف نقض .
جـ – أن يكون فيه كسر أو خفاء أو اضطراب ، وستأتي معانيها في قوادح العلة إن شاء الله .
5 – المناسبة:
المسلك الخامس من المسالك الدالة على العلة هو المناسبة ، ويعبر عنها بالإخالة، والمصلحة ، والاستدلال ، ورعاية المقاصد .
والمناسبة لغة: الملائمة، واصطلاحاً: ملائمة الوصف المعين للحكم.
وسميت مناسبة الوصف للحكم بالإخالة لأن بها يخال أي يظن أن الوصف علة للحكم.
واستخراج المناسبة الحاصل بإبداء الوصف المناسب يسمى تخريج المناط
والمناط : هو العلة التي نيط بها الحكم أي علق .
وسمي استخراج المناسبة بتخريج المناط ، لأنه استخراج ما نيط الحكم به .
ويعتبر تخريج المناط من أدق مباحث القياس، بل الأصول وأغمضها، ولذلك كان اهتمام الأصوليين به أكبر من اهتمامهم بغيره، فأشبعوه بحثاً، وتحقيقاً، وتفصيلاً.
وسأتكلم عنه إن شاء الله بما يفي بغرض الكتاب ويكفي القارئ المبتدئ .
فتخرج المناط هو: تعيين المجتهد العلة بإبداء مناسبة بينها وبين الحكم مع الاقتران بينهما في دليل حكم الأصل والسلامة عن قوادح العلة .
والاقتران معتبر في كون الوصف المناسب علة لا في كون الوصف مناسبا، وصورته أن يحكم الشارع في صورة بحكم، ولا يتعرض لبيان علته، فيبحث المجتهد عن علة ذلك الحكم ويستخرج ما يصلح أن يكون مناطا له.
وذلك كالإسكار في حديث مسلم (( كل مسكر حرام )) فهو لإزالته العقل المطلوب حفظه، مناسب للحرمة قد اقترن بها في دليل الحكم، وهو الحديث، وسلم من القوادح.
ويتحقق استقلال الوصف المناسب بالعلية بنفي غيره من الأوصاف بواسطة السبر المتقدم في المسلك السابق .
والمناسب: المأخوذ من المناسبة هو الملائم لغة وأما اصطلاحاً، فقد عرَّفه ابن الحاجب بأنه وصف، ظاهر، منضبط، يحصل عقلاً من ترتب الحكم عليه ما يصلح كونه مقصوداً للشارع، من حصول مصلحة، أو دفع مفسده.
وذلك كالقتل العمد العدوان فإنه وصف ظاهر منضبط، يلزم من ترتب الحكم عليه وهو إيجاب القصاص على القاتل ، حصول منفعة ، وهو حفظ الحياة وبقاؤها، ودفع مضرة وهي التعدي ، فإن الإنسان إذا عرف أنه سيقتص منه إذا قتل ، أحجم عن القتل ، وقد يقدم عليه وهو موطِّن نفسه على الهلاك والتلف .
والمناسب كما يكون وصفاً ظاهراً منضبطاً ، قد يكون خفياً ، أو غير منضبط ، وفي هذه الحالة لا يمكن أن يكون علة ، لأن العلة هي المعرِّف للحكم ، وما كان خفياً ، أو غير منضبط ، لا يكون معرفاً، ولذلك اعتبروا ما يلازمه عقلاً أو عرفاً أو عادة ، مما هو ظاهر منضبط ، وهو المظنة له ، فيكون هو العلة ، وذلك كالسفر ، الذي يعتبر مظنة للمشقة التي ترتب عليها الترخيص أصلاً ، لأنها هي الوصف المناسب ، إلا أنها لما كانت غير منضبطة لاختلافها باختلاف الأشخاص ، والأحوال ، نيط الترخيص بمظنتها ، وهو السفر.
أقسام المناسب
ينقسم المناسب باعتبارات وحيثيات متعددة إلى أقسام متعددة، فهو باعتبار إفضائه إلى المقصود له أقسام، وباعتبار نفس المقصود له أقسام أخرى، وباعتبار اعتبار الشارع له ينقسم أيضاً إلى أقسام.
أولا: أقسام المناسب باعتبار حصول المقصود:
هذا هو التقسيم الأول للمناسب، وهو باعتبار إفضائه إلى المقصود، وذلك لأن الحكمة التي هي مقصود الشارع من شرع الحكم أي من ترتبه على العلة قد يكون حصولها يقيناً وقد يكون مظنونا، بأن يكون حصولها أرجح من انتفائها، وقد يكون مشكوكاً فيه بأن يكون حصولها وانتفاؤها على حد سواء ، وقد يكون نفيها أرجح من حصولها.
الأول : وهو ما يكون حصوله يقينا، وذلك كالحكمة المقصودة من ترتب حِلِّ البيع على وصفه المعلل به، وهو الاحتياج إلى المعاوضة في الجملة.
والحكمة الحاصلة هي الملك يقينا .
الثاني : وهو ما يكون حصوله مظنونا، وذلك كالحكمة المقصودة من ترتب وجوب القصاص على القتل العمل العدوان .
والحكمة هي انزجار الناس عن الإقدام على القتل مما يحفظ الحياة ويضمن بقاءها وهذه الحكمة مظنونة الحصول ، فإن الممتنعين عن القتل أكثر من المقدمين عليه ، فالذي يغلب على الظن أن الإنسان إذا عرف القصاص أحجم عن القتل .
الثالث : وهو ما يستوي حصوله وانتفاؤه ، وذلك كالحكمة المقصودة من ترتب الحدِّ على شرب الخمر، لأجل الإسكار ، فإن المقصود من شرع الحد هو الانزجار عن شربها ، وحصول هذا المقصود وانتفاؤه متساويان ، بتساوي الممتنعين عن شربها والمقدمين عليه، فيما يظهر للناظر، لا بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، لتعذر الاطلاع عليه، مما جعل بعض الأصوليين يقول : إن هذا النوع لا مثال له على التحقيق .
الرابع : وهو ما يكون النفي فيه أرجح ، وذلك كنكاح الآيسة من أجل التولد ، الذي هو المقصود من النكاح ، فإن انتفاء هذا المقصود أرجح من حصوله في حق الآيسة .
التعليل بهذه المراتب:
اتفق القائلون بالمناسب على جواز التعليل بالمرتبة الأولى والثانية ، وهي ما كان حصول المقصود فيها يقينا أو مظنونا .
واختلفوا في الثالث والرابع، وهو ما كان المقصود فيه مشكوكاً فيه، أو موهوما، والصحيح جواز التعليل بهما، نظراً إلى حصول المقصود في الجملة.
وبناء على ذلك فإنه يجوز للمسافر المترفِّهِ في سفره، كالمسافر بالطائرة، أو ما يشابهها، مما يظن فيه انتفاء المشقة التي هي حكمة شرع الترخيص يجوز له أن يترخص فيقصر الصلاة، ويفطر.
وإنما قلنا : المظنون معه انتفاء المشقة ، لأن الترفه لا ينافي المشقة ، فقد توجد المشقة مع الرفاهية في السفر إلا أنها تختلف باختلاف وسيلة السفر وطبيعة الشخص المسافر فالسفر في الجو فيه من المشقة ما لا يوجد في سفر البر ، مما يترتب على ارتفاع الضغط وانخفاضه ،وصحة المسافر ومرضه ، وغير ذلك من الأمور ، فالوسيلة فيها رفاهية ، إلا أنها لا تمنع من المشقة على الجملة .
ولذلك نيطت الرخصة بالسفر الذي هو مظنة هذه المشقة .
انتفاء المقصود يقينا :
وأما إذا انتفى المقصود من شرع الحكم يقينا، فلا يعلل به، ولا يعتبر.
وذلك كلحوق نسب ولد المغربية بالمشرقي فيما لو تزوج رجل بالمشرق امرأة بالمغرب فأتت بولد، فإن الولد لا يلحقه نسب أبيه ، للقطع عادة بعدم تلاقي الزوجين مما لا يحتمل معه حصول المقصود من النكاح، وهو حصول النطفة في الرحم، مما يحصل معه العلوق والولد ، خلافاً للحنفية في ذلك .
ثانيا : أقسام المناسب باعتبار نفس المقصود:
هذا هو التقسيم الثاني للمناسب، وذلك باعتبار نفس المقصود، وهو هنا الحكمة المقصودة من الوصف المناسب فقط، بينما كان التقسيم السابق للوصف نفسه وهو العلة، كما هو شأن التقسيم الثلاثي الآتي:
والوصف المناسب في تقسيمنا هذا وهو باعتبار نفس المقصود وهي الحكمة إما أن يكون حقيقياً وإما أن يكون إقناعيا .
فالحقيقي : هو ما لم يظهر بعد البحث حقيقة أنه غير مناسب.
والإقناعي : هو ما يظهر بعد البحث والتأمل أنه غير مناسب .
والحقيقي أما أن يكون دنيوياً، وأما أن يكون أخروياً.
فالدنيوي: ما كانت مصلحته متعلقة بالدنيا.
والأخروي: ما كانت مصلحته متعلقة بالآخرة.
المناسب والحقيقي الدنيوي:
وينقسم إلى ثلاثة أقسام، ضروري، وحاجي، وتحسيني، لأن الوصف المشتمل على المصلحة إن انتهت مصلحته إلى محل الضرورة فضروري، أو محل الحاجة فحاجي أو كانت مستحسنة في العادات فعادي.
1 – الضروري:
وهو ما تصل الحاجة إليه إلى حد الضرورة، وهو متضمن لحفظ الكليات الخمس، أو الضروريات الخمس، التي روعيت في كل ملة وشرع، ولم تنسخ بحال من الأحوال، وهي: الدين والنفس والعقل والنسب، والمال.
أ – حفظ الدين: ويكون ذلك بمشروعية القتال مع الحربيين، وقتل المرتدين والزنادقة وأصحاب البدع المكفرة، فإن الحرابة والردة والزندقة والبدعة أمور مناسبة لوجوب القتال والقتل.
فحفظ الدين هو الحكمة المقصودة من ترتب القتال أو القتل على الوصف المناسب، وهو الكفر، أو الحرابة أو غير ذلك.
ب – حفظ النفس: وهو الحكمة المقصودة من ترتب وجود القصاص على القتل، فإن القتل العمد العدوان مناسب لوجوب القصاص، لأنه مقرر للحياة.
جـ – حفظ العقل: ويكون بمشروعية الحدود على المسكرات، فحفظ العقل هو الحكمة المقصودة من ترتيب الحد على الإسكار .
د – حفظ النسب: ويكون بمشروعية الحد على الزنا، فإن الزنا المؤدي إلى اختلاط الأنساب ، وهتك الأعراض ، مناسب لوجوب الحد ، وهو الجلد أو الرجم ، المؤدي إلى انزجار الناس عن هذه الجريمة النكراء ، فحفظ الأنساب هو الحكمة المقصودة من ترتب الحد على الزنا .
هـ – حفظ المال: وهو الحكمة المقصودة من ترتب حد السرقة، وقطع الطريق، على السرقة وقطع الطريق، كما أنه هو الحكمة المقصودة من ترتب الضمان على المتلفات.
وهذه الكليات الخمس مرتبة في اعتبارها حسب الترتيب الذي ذكرناه، فيقدم بعضها على بعض عند التعارض على حسب هذا الترتيب.
مكمل الضروري:
ويلحق بالضروري مكمله المؤكد له ، فيكون في رتبته ، وذلك كالحد على القليل من المسكر، فإن قليله يدعو إلى كثيره المفوت لحفظ العقل، فبولغ في حفظه بالمنع من القليل ، والحد عليه كالكثير .
وبولغ في حفظ النسب، بتحريم البدع السيئة، وشرع التعزيز عليها.
2 – الحاجي:
ويقال له : المصلحي، وهو ما يحتاج إليه ولا يصل إلى حد الضرورة كالبيع والإجارة والقرض وغير ذلك من الأمور المشروعة للملك، والاتجار، المحتاج إليهما .
وكتنصيب الولي على الصغيرة لتزويجها، فإن مصالح النكاح غير ضرورية في الحال إلا أن الحاجة إليه حاصلة، وهي تحصيل الكفء الذي لو فات لربما فات لا إلى بدل .
فهذه الحاجيات لو فاتت ولم تشرع لما فات بفواتها شيء من الضروريات الخمس التي ذكرناها.
الحاجي في معنى الضروري:
وقد يكون الحاجي جلياً واضحاً فينتهي إلى درجة الضروري في بعض الصور، وذلك كالإجارة لتربية الطفل، فإن ملك المنفعة فيها، وهي تربيته، يفوت بفواته – لو لم تشرع الإجارة – حفظ نفس الطفل، وفواته يكون بعدم وجود جارية تربية أو متبرع.
مكمل الحاجي:
وكما أن الضروري له مكمل للمبالغة في الحفاظ عليه، كذلك الحاجي له مكمل يلحق به، فيكون في رتبته.
وذلك كالمقصود من الخيار في البيع، المشروع للتروي، كمل به الملك، ليسلم من الغبن.
ومن مكمل الحاجي اعتبار الكفء في النكاح ، ومهر المثل في الصغيرة ، فإنهما داعيان إلى دوام النكاح .
ومنه اغتفار غرر يسير للحاجة إليه .
3 – التحسيني:
وهو ما استحسن في العادة من غير احتياج إليه ، وهو قسمان :
الأول : تحسيني غير معارض لقواعد الشرع ، وذلك كتحريم القاذورات ، فإن نفرة الطباع عنها لخساستها، مناسب لحرمة تناولها حثاً للناس على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم .
وكسلب العبد أهلية الشهادة، فإنه غير محتاج إليه، إذ لو ثبتت له الأهلية ما ضرَّ، لكنه مستحسن في العادة، لنقص الرقيق عن هذا المنزل الشريف الملزم، بخلاف الرواية.
الثاني: تحسيني معارض لقواعد الشرع، وذلك كالندب إلى المكاتبة، فإنها غير محتاج إليها، إذ لو منعت لما ضرَّ منعها لكنها مستحسنة في العادة للتوسل بها إلى فك الرقاب من الرق، الذي يعتبر من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم.
إلا أنها تخالف القواعد الشرعية القاضية بامتناع بيع الشخص بعض ماله ببعض آخر.
المناسب الحقيقي الأخروي:
وهو المعاني الداعية إلى تزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، ورياضة النفوس، المقتضية لشرعية العبادات، فإن الصلاة مثلاً وضعت للخضوع والتذلل، والصوم لانكسار النفس فإذا كانت النفس زكية ، تفعل ما تؤمر به وتجتنب ما تنهى عنه ، حصلت لها السعادة الأخروية .
المناسب الإقناعي:
وأما المناسب الإقناعي ، وهو قسيم المناسب الحقيقي كما قدمنا وهو ما يتبين بالبحث والتأمل أنه غير مناسب ، فقد مثل له بتعليل الشافعي رضي الله عنه تحريم بيع الخمر والميتة بالنجاسة، ثم قاس عليه الكلب والخنزير .
والمناسبة أن كونه نجساً يناسب إذلاله، ومقابلته بالمال في البيع إعزاز له، والجمع بينهما متناقض، فهذا وإن كان يظن به في الظاهر أنه مناسب إلا أنه ليس كذلك في الحقيقة.
لأن كونه نجساً معناه أنه لا تجوز الصلاة معه، وليس بينه وبين امتناع البيع مناسبة.
ثالثا: أقسام المناسب من حيث اعتبار الشارع له:
ينقسم المناسب من حيث شهادة الشارع له بالاعتبار أو الإلغاء إلى ثلاثة أقسام، وذلك لأنه أما أن يلغيه، وأما أن يعتبره، وأما أن يسكت عنه.
الأول : وهو المناسب الملغي ، الذي ألغاه الشارع فلم يعتبره ، بأن أورد الفروع على خلافه ، وهذا لا يجوز التعليل به بحال ، لعدم اعتبار الشارع له ، بدلالة الدليل على إلغائه .
وذلك كما حدث ليحيي بن يحيى الليثي الأندلسي صاحب الإمام مالك وراوي الموطأ عندما سأله السلطان الأندلسي عبد الرحمن الداخل الأموي عن كفارة الو قاع في نهار رمضان ، وكان قد واقع جارية له ، ثم ندم على ذلك ندماً شديدا، فسأل الفقهاء عن التوبة والكفارة ، فأفتاه يحيى بن يحيى بوجوب صيام شهرين متتابعين ، تشديداً عليه وسكت الفقهاء عنه إجلالاً ليحيي إذ كان إمام أهل الأندلس ، وعندما خرجوا من عند السلطان سألوه : لماذا أفتاه بالشهرين ، ولم يفته بمقتضى مذهب مالك ، وهو التخيير بين الإعتناق والصوم والإطعام ؟
فقال : لو فتحنا هذا الباب لسهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ، لكن حملته على أصعب الأمور حتى لا يعود .
إلا أن الفقهاء لم يرضوا بهذا ، وأنكروا عليه فتواه ، لأن الشارع ألغي هذه المصلحة والمناسبة التي نظر إليها يحيي ، فجعل كفارة الوطء الإعتاق ابتداء ، من غير تفرقة بين سلطان وغيره ، ولذلك لا يجوز اعتبارها .
الثاني: وهو ما سكت عنه الشارع فلم يدل الدليل على إلغائه كما لم يدل على اعتباره.
ويسمى هذا القسم بالمناسب المرسل، ويعبر عنه بالمصالح المرسلة، والاستصلاح.
وقد اعتبره الإمام مالك مطلقا ، وإلغائه غيره ، وسنتكم عنه إن شاء الله في مباحث الأدلة المختلف فيها في الكتاب الخامس بشيء من التفصيل .
الثالث : وهو الذي اعتبره الشارع، بأن أورد الفروع على وفقه ، وليس المراد أنه نص على عليته أو أومأ إليها ، لأنه لو كان كذلك لكان من قبيل العلة المنصوصة .
ثم إن هذا القسم ينقسم باعتبار تأثيره في الحكم إلى غريب، وملائم ومؤثر.
1 – المناسب والمؤثر: هو ما اعتبر نوعه في نوع الحكم بنص أو إجماع، وذلك كتعليل نقض الوضوء بمس الذكر، فإنه مستفاد من قول رسول الله – r -: (( من مس ذكره فليتوضأ )) وهذا مثال للاعتبار بالنص .
وأما الاعتبار بالإجماع فكتعليل ولاية المال على الصغير بالصغر ، وهو أمر مجمع عليه .
2 – المناسب الغريب : وهو ما اعتبر نوعه في نوع الحكم ولم يؤثر جنسه في جنسه لكن الاعتبار لا بنص ولا إجماع، بل بترتب الحكم على وفقه فقط ، وذلك كتعليل الربا في البر بالطعم .
فإن نوع الطعم وهو الاقتيات مؤثر في ربوية البر، ولم يؤثر جنس الطعم في ربوية سائر المطعومات ، كالخضروات .
3 – المناسب الملائم: وهو ما أثر جنسه في جنس الحكم كما أثر نوعه في نوعه، لكن لا بنص ولا إجماع أيضاً.
وذلك كتعليل القصاص في القتل بمثقل بالقتل بمحدد، فهو جنس لهما، كما أن الحكم وهو القصاص، جامع للقصاص في القتل بمحدد، والقصاص في القتل بمثقل، فهو جنس لهما.
بطلان المناسبة:
ما ذكرناه من الكلام على المناسبة، إنما هو عند ظهور المصلحة دون مفسدة، فإذا كان الوصف مشتملاً على مصلحة تدعو لشرع الحكم، ومفسدة تدعو إلى عدم مشروعيته سواء أكانت المفسدة راجحة أو مساوية ، فإنه في هذه الحالة تنخرم المناسبة وتبطل على المختار ، والله أعلم .
6 – الشبه:
وهو المسلك السادس من المسالك الدالة على العلة، وقد اضطربت عبارات الأصوليين في تعريفه، لدقته وغموضه.
فقال الأكثرون فيه : هو الوصف الذي لا تظهر فيه المناسبة بعد البحث التام ، ولكن ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام .
فهو منزلة بين منزلتي المناسب والطرد ، فيشبه المناسب من حيث التفات الشرع إليه في الجملة ويسبه الطرد من حيث أنه غير مناسب، أي لم تظهر مناسبته .
مثاله قول الشافعي في إزالة النجاسة: طهارة تراد لأجل الصلاة، فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث.
فإن الجامع هو الطهارة ومناسبتها لتعيين الماء فيها بعد البحث التام غير ظاهرة، ولكن اعتبار الشارع لها في بعض الأحكام كمس المصحف ، والصلاة ، والطواف يوهم اشتمالها على المناسبة.
والقياس المبني على الشبه درجات، أعلاه قياس غلبة الاشتباه في الحكم والصفة .
وحاصلة أن الفرع إذا تردد بين أصلين ، لشبهه لكل واحد منهما ، إلا أنه كان أكثر شبهاً بأحدهما دون الآخر، فإنه يلحق بالأصل الغالب شبهه به في الحكم والصفة.
وذلك كتردد العبد بين أصلين، وهما المال، والإنسان الحر، لشبهه بكل منهما.
إلا أنه إذا جُنِىَ عليه فقتل، ألحق بالمال في إيجاب القيمة على الجاني بقتله، بالغة ما بلغت، لأن شبهه بالمال في الحكم والصفة أكثر من شبهه بالحر فيها.
ويليه في الدرجة الثانية الشبه الخلقي، أو الصوري، وذلك كإلحاق الولد بوالده بالقيافة، وهي إدراك الشبه الخلقي بينهما وإلحاق المني بالبيض في إثبات طهارته بتولد الحيوان الطاهر منه، والنظر في الخلقة في جزاء الصيد في الحرم.
وإلحاق الخيل بالبغال والحمير في عدم وجوب الزكاة .
هذا ولا يصار إلى القياس القائم على الشبهة إلا عند تعذر قياس العلة ، وإلا فقياس العلة مقدم عليه .
7 – الدوران:
ويسمى بالطرد العكسي ، وهو أن يوجد الحكم بوجود وصف ، وينعدم بعدمه .
وذلك كحدوث حرمة العصير عند حدوث الإسكار وزوالها عند زواله، كما إذا صار خلاً، ويسمى الوصف مدارا، والحكم دائرا.
والدوران لا يفيد القطع في العلية، وإنما يفيد الظن بعلية الوصف الذي دار معه الحكم وجوداً وعدما.
8 – الطرد:
وهو المسلك الثامن من مسالك العلة، وهو مقارنة الحكم للوصف من غير مناسبة.
وذلك كقولهم : الخل مائع لا تبني على جنسه القنطرة فلا تزال به النجاسة، قياساً على الدهن ، فإنه لا تبنى عليه القنطرة ، فلا تزال به النجاسة، بخلاف الماء فإنه تبنى على جنسه القنطرة فتزال به النجاسة.
والجمهور على رد هذا المسلك، وعدم اعتباره في العلة، لأنه لا مناسبة فيه للحكم، فلا مناسبة بين بناء القنطرة وإزالة النجاسة البتة.
قال الغزالي : ولا يستجيز التمسلك به من آمن بالله واليوم الآخر .
وإنما قال الغزالي هذا لأننا لو فتحنا باب الطرد المحض الذي لا مناسبة معه ولا شبه لأدَّى بنا إلى التحكم ولصارت الشريعة تبعا للأهواء، كما حدث لبعض من جعل الطرد مسلكاً من مسالك العلة
ولو ثبت الحكم مع الوصف في صورة واحدة ، فأتوا بما لا يستجيز عاقل التمسك به كقولهم في مس الذكر : آلة الحدث ، فلا ينتقض الوضوء بلمسه ، لأنه طويل مشقوق فأشبه البوق ، أو لأنه معلق منكوس فأشبه الدبوس ، أو غير ذلك مما هو بالهذيان أولى منه بمسالك العلة.(262)
9 – تنقيح المناط:
وهو أن يدل وصف ظاهر على التعليل بوصف ، فينظر فيه المجتهد ، ويحذف خصوصه عن الاعتبار باجتهاده ، ومن ثم يناط الحكم بالأعم .
وذلك كحديث الأعرابي الذي واقع أهله في نهر رمضان ، فإن أبا حنيفة ، ومالكا – رضي الله عنهما – حذفا المواقعة ، وأناطا الكفارة بمطلق الإفطار، سواء أكان بوطء أم بغيره من المفطرات
وقد يكون تنقيح المناط بحذف بعض الأوصاف من محل الحكم الذي ورد به النص بالاجتهاد أيضا ، ويناط الحكم ببقية الأوصاف .
وذلك كما حذف الشافعي بعض الأوصاف في حديث الأعرابي السابق ، ككون الواطئ أعرابياً ، وكون الموطوءة زوجة، وكون الوطء في القبل ، فقد حذف كل هذه الأوصاف عن الاعتبار ، وأناط الكفارة بالوطء .
وأما تحقيق المناط، فهو أن يقع الاتفاق على علية وصف، بنص أو إجماع، فيجتهد المجتهد في وجودها في صورة النزاع.
وذلك كتحقيق أن النباش سارق، بأنه وجد منه أخذ المال خفية، وهو السرقة، ولذلك وجب قطع يده.
وأما تخريج المناط ، فهو ما مرَّ ذكره معنا في المناسبة.
10 – إلغاء الفارق:
وهو المسلك الأخير من مسالك العلة ، وحاصلة أن يبين المجتهد الفارق بين الأصل والفرع ، ويبين عدم تأثيره في الحكم ، وأنه ملغي لا عبرة به .
وذلك كقوله – r – : (( من أعتق شركاً له في عبد ، فكان له مال يبلغ ثمن العبد ، قوم عليه قيمة عدل ، فأعطى شركاءه حصصهم ، وعتق عليه العبد ، وإلا فقد عتق عليه ما عتق )) .
فيبين المجتهد أن الفارق بين العبد والأمة إنما هو الأنوثة والذكورة ، وأن هذا لا تأثير له في منع السراية لتشوف الشارع إلى العتق، ولذلك يجب أن يثبت السراية في الأمة كما ثبتت في العبد ، لمشاركتها له في الرق ، وتشوف الشارع للعتق .
(261) جمع الجوامع: 2/262، الأحكام: 3 /264، المحصول: 5 /191، نهاية
السول : 3 /39 ، المستصفى : 2 /288 ، المنخول : 338 .
(262) انظر شرحنا على التبصرة : 460 ، وتعليقنا على المنخول : 342 و 467 ، وإرشاد
الفحول: 221.