ثوب الزور
الأدعياء والمتطفلون على بساط الحقيقة كثيرون ، والحقيقة بريئة منهم ولا تعترف لهم بصحة نسبتهم إليها .
وكل يدعي وصلاً بليلى :: وليلى لا تقر لهم بذاكا
هذا بالإضافة إلى أنهم يشوهون الصورة ويسيئون السمعة وهؤلاء الأدعياء يصدق عليهم الوصف النبوي الدقيق الذي يقول : ((المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور)) ، ولقد بلينا معشر المسلمين بكثر من هؤلاء ، يعكرون صفو الأمة ويفرقون بين الجماعات ويورثون العداوة بين الأخ وأخيه والولد وأبيه ، ويدخلون إلى تصحيح مفاهيم الإسلام من باب العقوق ويسلكون في التمسك بآثار السلف سبيل الجحود ويستبدلون الحكمة والموعظة الحسنة والرأفة والرحمة بالغلظة والجفوة وسوء الأدب وقلة الذوق ،إن من الأدعياء أولئك الذين ينسبون أنفسهم إلى التصوف وهم أبعد الناس عن حقيقته وجوهره فشوهوا صورته ودنسوا كرامته وأفسدوا سيرته وجروا إليه وإلى أئمته من السادة العارفين والأساتذة المربين الانتقاد اللاذع .
إننا لا نعرف التصوف خرافات وأباطيل ودجلاً وشعوذة .
إننا لا نعرف التصوف نظريات فلسفية أو أفكاراً أجنبية أو عقائد شركية حلولية أو اتحادية .
إننا نبرأ إلى الله من هذا كله ونعتبر أن كل ما يخالف الكتاب والسنة ولا يقبل التأويل هو مكذوب دخيل وملصق بأيد آثمة ونفوس ضعيفة .
إننا نعرف التصوف مدارس علمية ومعارف فكرية وهي كلها بمناهجها وبرامجها وطرقها تمثل الأفق الأعلى للفكرة الإسلامية والوجه الأكمل لآدابنا ومثالياتنا ، تمثل الكمال في الإيمان والكمال في كل شأن من شؤون الحياة ، تمثل الخلاصة الزكية لكل دعوة ربانية إنه الصدق والأمانة والوفاء والإيثار والنجدة والكرم ونصـرة الـضعيـف وإغاثـة الملهـوف والتعـاون على البر والتقـوى والتواصـي بالحـق والصبـر
وبهذه السيرة العاطرة والخلق الزكي ظهرت بطولات الصدر الأول ورجاله وأئمته وأبطاله فبرزت لنا الشخصية الإسلامية في أبهى حلة وأكمل صفة وأعلى وأطهر نموذج ، وروى لنا عنها التاريخ حديث المجد والفخر والسيادة والعزة والجهاد والنضال ودروس الحضارة الإسلامية .
ومن هنا ندرك بيقين أن النهضات الكبرى لا تنبني إلا على رسالات الروح وإلهامات الإيمان ، ولا تقوم إلا على الأخلاق الصاعدة القوية التي تستمد مثلها من العقائد المقدسة .
إن الصفات الخلقية والنفسية والروحية هي رأس مال الشعوب وهي المدخرات العظمى التي تصنع الأمم وتدفع بالركب البشري إلى غاياته العليا ، والناظر في سير السلف الصالحين والسادات العارفين من القوم يرى كيف أن هذه المثل والمبادئ كانت سبباً مباشراً لانتفاضات صريحة مشهودة مشهورة في التاريخ الإسلامي ، ولم يكن لهم من النفوذ والقوة إلا إيمان هو أعلى صور الإيمان ، إيمان حار متقد حي يرتكز على الشوق والمحبة ، إنه إيمان يطلق في قلوب أتباعه الشعلة المتوهجة المتطلعة دائماً إلى الله ، ويرى كيف أن الرجل منهم يعيش دائماً في مقام الإحسان يرى الله في كل شيء ، ويراقبه في كل حركة من حركاته ، بل يراقبه مع كل نفس من أنفاسه من غير حلول ولا اتحاد ولا إلحاد إنه إيمان يبعث اليقظة الشاملة في الحياة ، ويضفي عليها الإحساس العميق بالربانية السارية في الكون ، والتي تعيش في أعماقها وتعلم خواطر القلب وهمسات النجوى وخائنة العين وما تخفي الصدور .
بين نعمت البدعة وبئست البدعة
وإن من الأدعياء أولئك الذين ينسبون أنفسهم إلى السلف الصالح فقاموا يدعون إلى السلفية في همجية جهلاء وعصبية عمياء وبعقول عقيمة وأفهام سقيمة وصدور ضيقة تحارب كل جديد وتنكر كل مخترع مفيد بدعوى أنه بدعة وأن كل بدعة ضلالة دون التفريق بين أنواع البدعة مع أن روح الشريعة الإسلامية توجب علينا أن نميز بين أنواع البدعة وأن نقول : إن منها البدعة الحسنة ومنها البدعة السيئة ، وهذا ما يقتضيه العقل النير والنظر الثاقب .
وهذا ما حققه علماء الأصول من سلف هذه الأمة رضي الله عنهم كالإمام العز ابن عبد السلام والنووي والسيوطي والمحلى وابن حجر .
والأحاديث النبوية يفسر بعضها بعضاً ويكمل بعضها بعضاً ، ولابد من النظر إليها نظرة واحدة متكاملة ، ولابد من تفسيرها بروح الشريعة ومفهومها المتفق عليه بين أهل النظر .
ولذا نجد كثيراً من الأحاديث الشريفة تحتاج في تفسيرها إلى عقل عاقل وفكر ثاقب وفهم لائق وقلب ذائق يستمد من بحر الشريعة الغراء ويراعي أحوال الأمة وحاجتها ويسايرها في حدود القواعد الشرعية والنصوص القرآنية النبوية التي لا يجوز الخروج عنها .
ومن أمثلة ذلك هذا الحديث : كل بدعة ضلالة – فلابد من القول : أن المراد بذلك البدعة السيئة التي لا تدخل تحت أصل شرعي . وهذا التقييد وارد في غير هذا الحديث كحديث : ((لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)) ..
فهذا الحديث مع أنه يفيد الحصر في نفي صلاة جار المسجد إلا أن عمومات الأحاديث تفيد تقييده بأن لا صلاة كاملة .
وكحديث : ((لا صلاة بحضرة الطعام)) .. قالوا : أي صلاة كاملة .
وكحديث : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) .. قالوا : أي إيماناً كاملاً .
وكحديث : ((والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ، قيل : من يا رسول الله ؟ قال : من لم يأمن جاره بوائقه)) .
وكحديث : ((لا يدخل الجنة قتات)) .. ((ولا يدخل الجنة قاطع رحم)) .. ((وعاق لوالديه)) .. فالعلماء قالوا : إنه لا يدخل دخولاً أولياً أو لا يدخل إذا كان مستحلاً لذلك الفعل .
الحاصل أنهم لم يجروه على ظاهره وإنما أولوه بأنواع التأويل .
وحديث البدعة هذا من هذا الباب فعمومات الأحاديث وأحوال الصحابة تفيد أن المقصود به البدعة السيئة التي لا تندرج تحت أصل كلي .
وفي الحديث : ((من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)) .
وفي الحديث : ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)) .. ويقول عمر في صلاة التراويح : نعمت البدعة هذه .
هذا وبالله التوفيق ..