مفهوم التوسل
مفهـوم التوســل
يخطئ كثير من الناس في فهم حقيقة التوسل ، ولذا فإننا سنبين مفهوم التوسل الصحيح في نظرنا وقبل ذلك لابد أن نبين هذه الحقائق : أولاً :-
أن التوسل هو أحد طرق الدعاء وباب من أبواب التوجه إلى الله سبحانه وتعالى ، فالمقصود الأصلي الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى ، والمتوسَّل به إنما هو واسطة ووسيلة للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ومن اعتقد غير ذلك فقد أشرك .
ثانيـاً :- أن المتوسل ما توسل بهذه الواسطة إلا لمحبته لها واعتقاده أن الله سبحانه وتعالى يحبها ، ولو ظهر خلاف ذلك لكان أبعد الناس عنها وأشد الناس كراهة لها .
ثالـثاً :- أن المتوسل لو اعتقد أن من توسل به إلى الله ينفع ويضر بنفسه مثل الله أو دونه فقد أشرك .
رابعـاً :- أن التوسل ليس أمراً لازماً أو ضرورياً وليست الإجابة متوقفة عليه بل الأصل دعاء الله تعالى مطلقاً ، كما قال تعالى : }وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ{ . وكما قال تعالى : } قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى{.
] ] ]
المتفق عليه من التوسل
لم يختلف أحد من المسلمين في مشروعية التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بالأعمال الصالحــة ، فمـن صـام أو صلى أو قرأ القرآن أو تصدق فإنـه يتوسـل بصيامه وصلاته وقراءته وصدقته بل هو أرجى في القبول وأعظم في نيل المطلوب ،لا يختلف في ذلك اثنان ، والدليل على هذا حديث الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار فتوسل أحدهم إلى الله ببره لوالديه ، وتوسل الثاني بابتعاده عن الفاحشة بعد تمكنه من أسبابها ، وتوسل الثالث بأمانته وحفظه لمال غيره وأدائه له كاملاً ، وفرج الله عنهم ما هم فيه ، وهذا النوع من التوسل قد فصله وبين أدلته وحقق مسائله الشيخ ابن تيمية رحمه الله في كتبه وخصوصاً في رسالته ( قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ) .
محل الخلاف :- ومحل الخلاف في مسألة التوسل هو التوسل بغير عمل المتوسل ،كالتوسل بالذوات والأشخاص بأن يقول : اللهم إني أتوسل إليك بنبيك محمد r أو أتوسل إليك بأبي بكر الصديق أو بعمر بن الخطاب أو بعثمان أو بعلي رضي الله عنهم ، فهذا هو الممنوع عند بعضهم .
ونحن نرى أن الخلاف شكلي وليس بجوهري ، لأن التوسل بالذات يرجع في الحقيقة إلى توسل الإنسان بعمله وهو المتفق على جوازه ، ولو نظر المانع المتعنت في المسألة بعين البصيرة لانجلى له الأمر وانحل الإشكال وزالت الفتنة التي وقع بسببها من وقع فحكم على المسلمين بالشرك والضلال .
وسأبين كيف أن المتوسل بغيره هو في الحقيقة متوسل بعمله المنسوب إليه والذي هو من كسبه .
فأقول : إعلم أن من توسل بشخص ما فهو لأنه يحبه إذ يعتقـد صلاحه وولايتـه وفضلـه تحسينـاً للظـن بـه ، أو لأنـه يعتقد أن هذا الشخص محب لله سبحانه وتعالى يجاهد في سبيله ،أو لأنه يعتقد أن الله تعالى يحبه كما قال تعالى: } يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ { ، أو لاعتقاد هذه الأمور كلها في الشخص المتوسل به .
وإذا تدبرت الأمر وجدت أن هذه المحبة وذلك الاعتقاد من عمل المتوسل لأنه اعتقاده الذي انعقد عليه قلبه فهو منسوب إليه ومسئول عنـه ومثاب عليـه، وكأنه يقول : يا رب إني أحب فلاناً وأعتقد أنه يحبك وهو مخلص لك ويجاهد في سبيلك ، وأعتقد أنك تحبه وأنت راض عنه فأتوسل إليك بمحبتي له وباعتقادي فيه أن تفعل كذا وكذا ، ولكن أكثر المتوسلين يتسامحون في التصريح بهذا الأمر مكتفين بعلم من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
فمن قال : اللهم إني أتوسل إليك بنبيك، هو ومن قال : اللهم إني أتوسل إليك بمحبتي لنبيك، سواء ، لأن الأول ما أقدم على هذا إلا لمحبته وإيمانه بنبيه ، ولولا المحبة له والإيمان به ما توسل به ، وهكذا يقال في حق غيره من أولياء الأمة .
وبهذا ظهر أن الخلاف في الحقيقة شكلي ولا يقتضي هذا التفرق والعداء بالحكم بالكفر على المتوسلين وإخراجهم عن دائرة الإسلام }سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ{ .
] ] ]
أدلة ما عليه المسلمون من التوسل
قال الله تعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ { . والوسيلة : كل ما جعله الله سبباً في الزلفى عنده ووصلة إلى قضاء الحوائج منه والمدار فيها على أن يكون للوسيلة قدر وحرمة عند المتوسل إليه .
ولفظ الوسيلة عام في الآية كما ترى فهو شامل للتوسل بالذوات الفاضلة من الأنبياء والصالحين في الحياة وبعد الممات وبالإتيان بالأعمال الصالحة على الوجه المأمور به وللتوسل بها بعد وقوعها .
وفيما ستسمع من الأحاديث والآثار ما يجلي لك هذا العموم واضحاً ،فألق السمع وأنت شهيد لترى أنه قد ثبت التوسل به r قبل وجوده وبعد وجوده في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة .
] ] ]
التوسل بالنبي r قبل وجوده
توسل آدم به :
وقد جاء في الحديث أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ، قال الحاكم في المستدرك : حدثنا أبو سعيد عمرو بن محمد بم منصور العدل حدثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي حدثنا أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهري حدثنا إسماعيل بن مسلمة أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده عن عمر – رضي الله عنه – قال
((قال رسول الله r : لما اقترف آدم الخطيئة قال : يارب ! أسألك بحق محمد لما غفرت لي ، فقال الله: ياآدم ! وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه ؟ قال : يارب ! لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك ، فقال الله : صدقت يا آدم ، إنه لأحب الخلق إليَّ ، أدعني بحقه فقد غفرت لك ، ولولا محمد ما خلقتك)) .
أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه [ج2 ص615]([1]) ، ورواه الحافظ السيوطي في الخصائص النبوية وصححه (2) ، ورواه البيهقي في دلائل النبوة وهو لا يروي الموضوعات ، كما صرح بذلك في مقدمة كتابه (3) ، وصححه أيضاً القسطلاني والزرقاني في المواهب اللدنية [ج1 ص62](4) ، والسبكي في شفاء السقام ، قال الحافظ الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط وفيه من لم أعرفهم (مجمع الزوائد ج8 ص253) .
وجاء من طريق آخر عن ابن عباس بلفظ : فلولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة ولا النار . رواه الحاكم في المستدرك ( ج2 ص615 ) وقال : صحيح الإسناد ، وصححه شيخ الإسلام البلقيني في فتاويه ، ورواه أيضاً الشيخ ابن الجوزي في الوفا في أول كتابه ونقله ابن كثير في البداية ( ج1 ص180 ) .
وقد خالف في ذلك بعض العلماء فتكلم في درجة الحديث ورده وحكم بوضعه كالذهبي وغيره ، وبعضهم حكم بضعفه ، وبعضهم حكم بنكارتـه، وبهذا يظهـر أنـه لم تتفق كلمتهـم علـى حكـم واحـد ، وعليـه فالمسألـة يدور البحـث فيهـا بيـن الإثبـات والنفـي والرد والقبول والتوقف بناء على اختلافهم في درجة الحديث(5)[2] وهذا من ناحية السند وثبوت الحديث ، أما من ناحية المعنى فلنترك المجال لشيخ الإسلام ابن تيمية ليحدثنا عنه .
شواهد لحديث توسل آدم
روى ابن تيمية حديثين في هذا الموضوع وأوردهما مستشهداً بهما ، فقال : روى أبو الفرج ابن الجوزي بسنده إلى ميسرة قال : قلت : يا رسول الله ! متى كنتَ نبياً ؟ قال : ((لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ، وخلق العرش كتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء ، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام ، وآدم بين الروح والجسد ، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله إنه سيد ولدك ، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه)) .
وروى أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة ومن طريق الشيخ أبي الفرج حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن رشيد حدثنا أحمد بن سعيد الفهري حدثنا عبد الله بن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله r : ((لما أصاب آدم الخطيئة رفع رأسه فقال : يارب ! بحق محمد إلا غفرت لي ، فأوحى إليه : وما محمد ومن محمد ؟ فقال : يا رب ! إنك لما أتممت خلقي رفعت رأسي إلى عرشك فإذا عليه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك إذ قرنت اسمه مع اسمك ، فقال : نعم ، قد غفرت لك ، وهو آخر الأنبياء من ذريتك ، ولولاه ما خلقتك)) ..
فهذا الحديث يؤيد الذي قبله ، وهما كالتفسير للأحاديث الصحيحة [ اهـ من الفتاوى ج2 ص150 ] .
قلت : فهذا يدل على أن الحديث عند ابن تيمية صالح للاستشهاد والاعتبار لأن الموضوع أو الباطل لا يستشهد به عند المحدثين ، وأنت ترى أن الشيخ استشهد به هنا على التفسير(6).
تصحيح ابن تيمية لمعنى هذه الخصوصية
تكلم الشيخ ابن تيمية عن هذه المسألة كلاماً جيداً نفيساً يدل على عقل وبصيرة واتزان كبير ، فهو وإن كان قد نفى وجود حديث عن النبي r في هذا المعنى [ وهذا حسب علمه في ذلك الوقت ] إلا أنه رجع فأيد المعنى وفسره تفسيراً معقولاً وأثبت فيه صحة القول وهو بهذا يرد رداً واضحاً على من زعم أن ذلك شرك أو كفر وعلى من زعم أن المعنى فاسد وباطل وعلى من زعم أن فيه قدحاً في مقام التوحيد والتنزيه ، وما هو إلا الهوى والعمى وسوء الفهم وضيق العقل فالله ينور بصائرنا ويرشدنا إلى الحق والصواب وهو الهادي إلى سواء السبيل .
قال الشيخ الإمام ابن تيمية في الفتاوى (ج11 ص96) :
ومحمد سيد ولد آدم وأفضل الخلق وأكرمهم عليه ومن هنا قال من قال : إن الله خلق من أجله العالم أو أنه لولاه لما خلق عرشاً ولا كرسياً ولا سماء ولا أرضاً ولا شمساً ولا قمراً ، لكن ليس هذا حديثاً عن النبي r لا صحيحاً ولا ضعيفاً ، ولم ينقله أحد من أهل العلم بالحديث عن النبي r بل ولا يعرف عن الصحابة بل هو كلام لا يدرى قائله ، ويمكن أن يفسر بوجه صحيح كقوله تعالى } سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ { ، وقوله تعالى : } وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا { ، وأمثال ذلك من الآيات التي يبين فيها أنه خلق المخلوقات لبني آدم ، ومعلوم أن لله فيها حكماً عظيمة غير ذلك وأعظم من ذلك ، ولكن يبين لبني آدم ما فيها من المنفعة وما أسبغ عليهم من النعمة
فإذا قيل : فعل كذا لكذا لم يقتض أن لا يكون فيه حكمة أخرى ، وكذلك قول القائل : لولا كذا ما خلق كذا لا يقتضي ألا يكون فيه حكم أخرى عظيمة ، بل يقتضي إذا كان أفضل صالحي بني آدم محمد ، وكانت خلقته غاية مطلوبة وحكمة بالغة مقصودة [ أعظم ] من غيره صار تمام الخلق ونهاية الكمال حصل بمحمد صلى الله عليه وسلم . ( اهـ من الفتاوى ) .
تحليل مهم لرأي ابن تيمية غاب عن عقول أتباعه
فانظر هداك الله إلى كلام الشيخ ابن تيمية وبعد نظره ، وسعة فهمه في تفسير هذه الخصوصية التي انتشرت واشتهرت ، وجاء فيها حديث توسل آدم الذي رواه الحاكم ، والذي صححه من صححه ، وحسنه من حسنه ، وقبله من قبله ممن تقدم ذكرهم من أئمة الحديث .
وها هو الشيخ ابن تيمية هنا يقول : إن هذا الكلام له وجه صحيح فأين هذا القول من قول من أقعد الدنيا وأقامها ، وأخرج القائلين بذلك عن دائرة الإسلام ، ووصفهم بالضلال والشرك ، أو بالبدعة والتخريف ، ثم يدعي زوراً وبهتاناً أنه سلفي تيمي ، وهو بعيد كل البعد عن ابن تيمية ، وعن السلفية ، وليس هذا الصنيع منه في هذه المسألة فقط ، بل الملاحظ أنه مع ابن تيمية في كل مسألة إلا فيما فيه تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو تأييد كرامته وعظمته ومكانته ، فإنه يتوقف فيها ويفكر وينظر ، وهنا فقط تظهر عنده حماية مقام التوحيد أو حمية التوحيد ، سبحانك هذا بهتان عظيم .
الشاهد الثالث لحديث توسل آدم :
الشاهد الثالث لحديث توسل آدم هو ما أخرجه ابن المنذر في تفسيره عن محمد بن علي بن حسين بن علي عليهم السلام قال : لما أصاب آدم الخطيئة عظم كربه واشتد ندمه فجاءه جبريل عليه السلام فقال : ((يا آدم ! هل أدلك على باب توبتك الذي يتوب الله عليك منه ؟ قال : بلى يا جبريل ، قال : قم في مقامك الذي تناجي فيه ربك فمجده وامدح ، فليس شيء أحب إلى الله من المدح ، قال : فأقول ماذا يا جبريل ؟ قال : فقل : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير ، ثم تبوء بخطيئتك فتقول : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت رب إني ظلمت نفسي وعملت السوء فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، اللهم إني أسألك بجاه محمد عبدك وكرامته عليك أن تغفر لي خطيئتي)). قال : ففعل آدم ، فقال الله : يا آدم ! من علّمك هذا ؟ فقال : يا رب ! إنك لما نفخت فيَّ الروح فقمت بشراً سوياً أسمع وأبصر وأعقل وأنظر رأيت على ساق عرشك مكتوباً بسم الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلا وحده لا شريك له محمد رسول الله ، فلما لم أر على أثر اسمك اسم ملك مقرب ، ولا نبي مرسل غير اسمه علمت أنه أكرم خلقك عليك ، قال : صدقت ، وقد تبت عليك وغفرت لك . (كذا في الدر المنثور للسيوطي ج1 ص146) .
ومحمد بن علي بن الحسين هو أبو جعفر الباقر من ثقات التابعين وساداتهم خرّج له الستة ، روى عن جابر وأبي سعيد وابن عمر وغيرهم .
الشاهد الرابع لحديث توسل آدم :
الشاهد الرابع ما رواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة قال : حدثنا هارون بن يوسف التاجر قال : حدثنا أبو مروان العثماني قال : حدثني أبو عثمان بن خالد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه أنه قال : من الكلمات التي تاب الله بها على آدم قال : اللهم إني أسألك بحق محمد عليك ، قال الله تعالى : وما يدريك ما محمد ؟ قال : يارب ! رفعت رأسي فرأيت مكتوباً على عرشك لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فعلمت أنه أكرم خلقك .
فانضمام هذا الأثر إلى حديث عبد الرحمن بن زيد يفيده قوة كما لا يخفى .
الجنة حرام على الأنبياء حتى يدخلها محمد r
ومن أمثال هذا التفضل الإلهي على حضرة النبي r ما جاء في الحديث من كون الجنة حراماً على الأنبياء حتى يدخلها نبينا r ، عن عمر بن الخطاب– رضي الله عنه – عن رسول الله r قال : ((الجنة حرمت على الأنبياء وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي)) . ( رواه الطبراني في الأوسط ، وقال الهيثمي : إسناده حسن ) [مجمع الزوائد ج10 ص69].
ارتباط الكون باسمه صلى الله عليه وسلم
ومن أمثال هذا التفضل الإلهي ما جاء في الآثار من انتشار اسمه محمد في الملأ الأعلى ، قال كعب الأحبار : إن الله أنزل على آدم عصياً بعدد الأنبياء والمرسلين ، ثم أقبل على ابنه شيث فقال : ابني أنت خليفتي من بعدي فخذها بعمارة التقوى والعروة الوثقى ، وكلما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمد فإني رأيت اسمه مكتوباً على ساق العرش وأنا بين الروح والطين ، ثم إني طفت السماوات فلم أر في السماوات موضعاً إلا رأيت اسم محمد مكتوباً عليه ، وإن ربي أسكنني الجنة فلم أر في الجنة قصراً ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوباً عليه ، ولقد رأيت اسم محمد مكتوباً على نحور الحور العين وعلى ورق قصب آجام الجنة وعلى ورق شجرة طوبى ، وعلى ورق سدرة المنتهى ، وعلى أطراف الحجب وبين أعين الملائكة ، فأكثروا ذكره فإن الملائكة تذكره في كل ساعاتها . اهـ (المواهب اللدنية ج1 ص186) .
قال الزرقاني في شرحه : رواه ابن عساكر .
قلت : وقد ذكر نحو هذا الخبر الشيخ ابن تيمية ، فقال : وقد روى أن الله كتب اسمه على العرش وعلى ما في الجنة من الأبواب والقباب والأوراق ، وروى في ذلك عدة آثار توافق هذه الأحاديث الثابتة التي تبين التنويه باسمه وإعلاء ذكره حينئذ .
وفي رواية لابن الجوزي عن ميسرة قال : قلت : يا رسول الله ! متى كنت نبياً ؟
قال : ((لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ، وخلق العرش كتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء ، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام ، وآدم بين الروح والجسد ، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله إنه سيد ولدك ، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه)) . اهـ (الفتاوى ج2 ص150 ) .
فوائد مهمة من حديث توسل آدم :
وفي الحديث التوسل برسول الله r قبل أن يتشرف العالم بوجوده فيه وأن المدار في صحة التوسل على أن يكون للمتوسل به القدر الرفيع عند ربه عز وجل وأنه لا يشترط كونه حياً في دار الدنيا .
ومنه يعلم أن القول بأن التوسل لا يصح بأحد إلا وقت حياته في دار الدنيا قول من اتبع هواه بغير هدى من الله .
حاصل البحث في درجة الحديث :
والحاصل أن هذا الحديث صححه بشواهده(7)[3]ونقله جماعة من فحول العلماء وأئمة الحديث وحفاظه الذين لهم مقامهم المعروف ومكانتهم العالية وهم الأمناء على السنة النبوية فمنهم الحاكم والسيوطي والسبكي والبلقيني .
ونقله البيهقي في كتابه الذي شرط فيه أن لا يخرج الموضوعات ، والذي قال فيه الذهبي : عليك به فإنه كله هدى ونور . [كذا في شرح المواهب وغيره] .
وذكره ابن كثير في البداية واستشهد به ابن تيمية في الفتاوى ، وكون العلماء اختلفوا فيه فرده بعضهم وقبله البعض ليس بغريب لأن كثيراً من الأحاديث النبوية جرى فيها الخلاف بأكثر من هذا وانتقدها النقاد بأعظم من هذا .
وبسبب ذلك ظهرت هذه المؤلفات العظيمة ، وفيها الاستدلالات والتعقبات والمراجعات والمؤاخذات ، ولم يصل ذلك إلى الرمي بالشرك والكفر والضلال والخروج عن دائرة الإيمان لأجل الاختلافات في درجة حديث من الأحاديث ، وهذا الحديث من جملة تلك الأحاديث(8) .
توسل اليهود به r :
قال تعالى : } وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ { .
قال القرطبي قوله تعالى : ولما جاءهم – يعني اليهود – كتاب – يعني القرآن – من عند الله مصدق – نعت لكتاب ويجوز في غير القرآن نصبه على الحال وكذلك هو في مصحف أبي بالنصب فيما روى – لما معهم – يعني التوراة والإنجيل يخبرهم بما فيها – وكانوا من قبل يستفتحون – أي يستنصرون ، والاستفتاح : الاستنصار استفتحت استنصرت وفي الحديث كان النبي r يستفتح بصعاليك المهاجرين أي يستنصر بدعائهم وصلاتهم . ومنه :
فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده ، والنصر فتح شيء مغلق فهو يرجع إلى قولهم : فتحت الباب .
وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن النبي r قال : ((إنما نصر الله هذه الأمة بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)) ..
وروى النسائي أيضاً عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله r يقول : ((أبغوني الضعيف فإنكم إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)) ..
قال ابن عباس : كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلما التقوا هزمت يهود فدعت يهود بهذا الدعاء ، وقالوا : إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان أن تنصرنا عليهم ، قال : فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان ، فلما بعث النبي r كفروا ، فأنزل الله تعالى : } وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ { أي بك يا محمد إلى قوله : } فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ { . تفسير القرطبي (ج2 ص26 و27)(9) .
] ] ]
التوسل بالنبي r في حياته وبعد وفاته
عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله r وجاءه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فقال : يا رسول الله ! ليس لي قائد وقد شق عليَّ ، فقال رسول الله r : ((ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قال اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد r نبي الرحمة يامحمد إني أتوجه بك إلى ربك فيجلي لي عن بصري ، اللهم شفعه فيَّ وشفعني في نفسي ، قال عثمان : فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضر)) .. قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وقال الذهبي عن الحديث : أنه صحيح (ج1 ص519) .
وقال الترمذي في أبواب الدعوات آخر السنن : هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو غير الخطمي .
قلت : والصواب أن أبا جعفر هو الخطمي المدني كما جاء مصرحاً به في روايات الطبراني والحاكم والبيهقي ، وزاد الطبراني في المعجم الصغير أن اسمه عمير ابن يزيد وأنه ثقة ، قال العلامة المحدث الغماري في رسالته ((اتحاف الأذكياء)) : وليس من المعقول أن يجمع الحفاظ على تصحيح حديث في سنده مجهول خصوصاً الذهبي والمنذري والحافظ .
قال المنذري : ورواه أيضاً النسائي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه . (كذا في الترغيب كتاب النوافل باب الترغيب في صلاة الحاجة (ج1 ص438) .
وليس هذا خاصاً بحياته r بل قد استعمل بعض الصحابة هذه الصيغة من التوسل بعد وفاته r فقد روى الطبراني هذا الحديث وذكر في أوله قصة وهي أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له ، وكان عثمان رضي الله عنه لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته ، فلقى الرجل عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه ، فقال له عثمان بن حنيف : ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل :
اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد r نبي الرحمة ، يامحمد ! إني أتوجه بك إلى ربك فيقضي حاجتي . وتذكر حاجتك ..
فانطلق الرجل فصنع ما قال له ، ثم أتى باب عثمان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة وقال : ما حاجتك ؟ فذكر حاجته فقضاها له ، ثم قال : ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة ثم قال : ما كانت لك حاجة فائتنا ، ثم إن الرجل لما خرج من عنده لقى عثمان بن حنيف وقال له : جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلمته فيَّ ، فقال عثمان بن حنيف : والله ما كلمته ، ولكن شهدت رسول الله r وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره ، فقال له النبي r : أو تصبر ؟ فقال : يارسول الله ! ليس لي قائد ، وقد شق عليَّ ، فقال له النبي : ((إئت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات ، فقال عثمان ابن حنيف : فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط)) ..
قال المنذري : رواه الطبراني ، وقال بعد ذكره : والحديث صحيح . (كذا في الترغيب ، [ج1 ص440 وكذا في مجمع الزوائد ج2 ص279] .
وقال الشيخ ابن تيمية : قال الطبراني روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر واسمه عمر بن يزيد وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر عن شعبة ، قال أبو عبد الله المقدسي : والحديث صحيح .
قلت : قال الشيخ ابن تيمية : ذكر تفرده بمبلغ علمه ولم تبلغه رواية روح ابن عبادة عن شعبة ، وذلك إسناد صحيح يبين أنه لم ينفرد به عثمان بن عمر (اهـ . التوسل والوسيلة ص 101) .
وبهذا ظهر أن هذه القصة صححها الحافظ الطبراني والحافظ أبو عبد الله المقدسي ، ونقل ذلك التصحيح الحافظ المنذري والحافظ نور الدين الهيثمي والشيخ ابن تيمية(10)[4] .
وحاصـل القصـة أن عثمـان بن حنيـف الراوي للحديث المشاهد للقصة علَّم من شكا إليه إبطاء الخليفة عن قضاء حاجته هذا الدعاء الذي فيه التوسل بالنبي r والنداء له مستغيثاً به بعد وفاته r ، ولما ظن الرجل أن حاجته قضيت بسبب كلام عثمان مع الخليفة ، بادر ابن حنيف بنفي ذلك الظن وحدثه بالحديث الذي سمعه وشهده ليثبت له أن حاجته إنما قضيت بتوسله به r وندائه له واستغاثته به ، وأكد ذلك له بالحلف أنه ما كلم الخليفة في شأنه .
استعمال آخر وتأييد ابن تيميّة له
روى ابن أبي الدنيا في كتاب مجابي الدعاء قال : حدثنا أبو هاشم سمعت كثير بن محمد بن كثير بن رفاعة يقول : جاء رجل إلى عبد الملك بن سعيد ابن أبجر فجس بطنه فقال : بك داء لا يبرأ ، قال : ما هو ؟ قال : الدُّبَيْلَة ،وهي خرّاج ودمل كبير تظهر في الجوف فتقتل صاحبها غالباً ، قال : فتحول الرجل فقال : الله الله ، الله ربي لا أشرك به شيئاً ، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبيّ الرحمة r ، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك وربّي يرحمني ممّا بي . قال : فجس بطنه فقال : قد برئت ، ما بك علة .
قال الشيخ ابن تيمية : قلت : فهذا الدعاء ونحوه قد روي أنه دعا به السّلف اهـ [رواه الشيخ ابن تيمية في قاعدة جليلة ص94] .
ومعلوم أن ابن تيمية أورد هذا الخبر ليبين به مقصوده ويوجهه كما يريد ، ولكن الذي يهمنا هنا هو أنه أثبت استعمال السلف لذلك وحصول الشفاء به ، وهذا القدر من المسألة هو الذي يهمنا ، أما تعليقه عليه فهذا رأيه هو ، ونحن لا يهمنا إلا ثبوت النص فقط لنستدل به على ما نريد ، وهو له أن يستدل به كما يريد .
[ محاولات يائســة ]
وقد طنطن ودندن بعضهم حول حديث توسل آدم وعثمان بن حنيف وغيره ، وبذل جهده في ردّها بكل ما أوتي من قوة ، وحاول وحاور وجادل وقام وقعد وأرغى وأزبد في هذا الموضوع ، وكل ذلك لا فائدة منه لأنه مهما حاول ردّ الأحاديث الواردة في هذا الباب فقد قال ساداته من العلماء الكبار كلمتهم وهم أوفر منه عقلاً وأوسع علماً وأطول باعاً وأعمق فهماً وأكثر نوراً وتقوى وإخلاصاً ، مثل الإمام أحمد بن حنبل ، وهو يقول بالتوسل كما نقله عنه ابن تيمية والعز ابن عبد السلام ، وابن تيمية نفسه في قول له بالتوسل بالنبي r خاصة ، ثم نهاية المطاف عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي أنكر على من نسب القول إليه بتكفير المتوسلين ، بل وصرح في فتاواه بأن التوسل من الفروع ،لا من الأصول وكل ذلك سيأتي مفصلاً إن شاء الله في هذا الكتاب .
هذا وقد صنف الشيخ العلامة المحدث عبد الله الغماري رسالة خاصة في الكلام عن هذا الحديث سماها ((مصباح الزجاجة في صلاة الحاجة)) ، أجاد فيها وأفاد وأتى بما يشفي ويكفي ويغني ، جزاه الله خير الجزاء .
التوسل به r في عرصات يوم القيامة
أما التوسل بع في عرصات يوم القيامة فلا حاجة للإطالة فيه فإن أحاديث الشفاعة بلغت مبلغ التواتر وكل ذلك فيه النصوص الصريحة التي تفيد بأن أهل الموقف إذا طال عليهم الوقوف واشتد الكرب استغاثوا في تفريج كربتهم بالأنبياء فيستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى فيحيلهم على سيد المرسلين حتى إذا استغاثوا به r ، سارع إلى إغاثتهم وأسعف طلبتهم ، وقال : أنا لها أنا لها ، ثم يخر ساجداً ولا يزال كذلك حتى ينادي أن ارفع رأسك واشفع تشفع .
فهذا إجماع من الأنبياء والمرسلين وسائر المؤمنين وتقرير من رب العالمين بأن الاستغاثة عند الشدائد بأكابر المقربين من أعظم مفاتيح الفرج ومن موجبات رضى رب العالمين
([1]-2-3-4) أنظر هذه الأرقام في الملحق بآخر الكتاب .
(5-6) انظر في الملحق بآخر الكتاب تعليقاً مهماً على هذه المسألة .
(7 –8) انظر الملحق آخر الكتاب رقم 7/8 .
[4] أنظر الملحق في آخر الكتاب رقم 10 .