أبو الحسن الأشعري وأبو محمد البربهاري أيهما إمام أهل السنة؟،بيان بطلان إقعاد الله تعالى لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على العرش معه
23- أبو الحسن الأشعري وأبو محمد البربهاري أيهما إمام أهل السنة؟
قال الدكتور: {وليكن معلوما أن ابتداء أمر الأشاعرة أنهم توسلوا إلى أهل السنة أن يكفوا عن هجرهم وتبديعهم وتضليلهم، وقالوا: نحن معكم ندافع عن الدين وننازل الملحدين، فاغتر بهذا بعض علماء أهل السنة وسكتوا عنهم، فتمكن الأشاعرة في الأمة، ثم في النهاية استطالوا على أولئك واستأثروا بهذا الاسم دون أهله، وأصبحوا هم يضللون أهل السنة، ويضطهدونهم، ويلقبونهم بأشنع الألقاب}
أقول: ذكر الدكتور كلامه هذا ثم استدل في التعليق على إثبات دعواه هذه بقوله: “انظر سير أعلام النبلاء 15/ 90 مقابلة الأشعري لإمام السنة في عصره البربهاري” هذا هو كلام الدكتور سفر!
فانظر يا رعاك الله فإن الدكتور عدَّ البربهاري إمام أهل السنة في عصره، وعدَّ الإمام الأشعري من المهجورين المبدَّعين المضَلَّلِين من قبل أهل السنة وعلى رأسهم البربهاري، وجعل مقابلة الأشعري للبربهاري دليلاً على ذلك، وعلى أن الأشعري توسَّل بهذه المقابلة إلى الكف عن هجره وتبديعه وتضليله، هذه أربع دعاوي كلها منظور فيها، فنذكر المقابلة أولاً، ثم نبين مذهب البربهاري في العقيدة، ثم نورد عقيدة الإمام أحمد، ثم نعود إلى هذه الدعاوي الأربع ونبين ما هو حظها من الصحة.
أما المقابلة فقد أوردها الذهبي في السير، فقال: فقيل: إن الأشعري لما قدم بغداد جاء إلى أبي محمد البربهاري، فجعل يقول: رددت على الجبائي، رددت على المجوس وعلى النصارى، فقال أبو محمد، لا أدري ما تقول ولا نعرف إلا ما قاله الإمام أحمد، فخرج وصنف “الإبانة”، فلم يقبل منه، هكذا أورد الذهبي المقابلة بصيغة التضعيف والتمريض حيث قال: (فقيل: إن الأشعري…) ولتضعيف الذهبي وزنه وقيمته، وأورد المقابلة الذهبي في تاريخ الإسلام وابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة.[1]
وأما عقيدة البربهاري فقد كان من الجهوية المجسمة على ما نقل عنه وأكرر فأقول: على ما نقل عنه.
قال ابن أبي يعلى: “وسمعت أخي أبا القاسم -نضر الله وجهه- يقول: لم يكن البربهاري يجلس مجلساً إلا ويذكر فيه أن الله عز وجل يقعد محمداً صلى الله عليه وسلم معه على العرش،”[2] والقعود والمماسة وصف الأجسام.
وقال ابن الأثير في الكامل تحت عنوان: (فتنة الحنابلة ببغداد) وفيها عظُم أمر الحنابلة وقويت شوكتهم، وصاروا يكبسون من دور القواد والعامة… واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون المساجد، وكانوا إذا مر بهم شافعي المذهب أغروا به العميان فيضربون بعضهم حتى يكاد يموت، فخرج توقيع الراضي (الخليفة العباسي) بما يقرأ على الحنابلة ينكر عليهم فعلهم ويوبخهم باعتقاد التشبيه وغيره.
فمنه (أي من التوقيع) تارةً إنكم تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة السمجة على مثال رب العالمين، وهيئتكم الرذيلة على هيئته، وتذكرون الكف والأصابع والرجلين، والنعلين المذهبين، والشعر القطط، والصعود إلى السماء، والنزول إلى الدنيا، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا… إلى آخر ما ورد في المرسوم من الزيغ والضلال والمخازي والفضائح،[3] وقد كان هذا المرسوم والتوقيع من الخليفة العباسي ضد أصحاب أبي محمد البربهاري.
ونورد عقيدة الإمام أحمد المتعلقة بالموضوع منقولة من الرسالة المطبوعة في آخر الجزء الثاني من طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى في بيان عقيدة الإمام أحمد وقد جاء في هذه الرسالة ما يلي.[4]
ومذهب أبي عبد الله أحمد بن حنبل –رضي الله تعالى عنه- أن لله عز وجل وجهاً لا كالصور المصورة والأعيان المخططة، بل وجهٌ وصفه بقوله: ( كل شيء هالك إلا وجهه)، ومن غيَّرَ معناه فقد ألحد عنه، وذلك عنده وجهٌ في الحقيقة دون المجاز، ووجهُ الله باقٍ لا يبلى، وصفةٌ له لا تفنى، ومن ادَّعى أن وجهه نفسه فقد ألحد، ومن غيَّرَ معناه فقد كفر، وليس معنى وجهه معنى جسد عنده، ولا صورة، ولا تخطيط ومن قال ذلك فقد ابتدع.
وكان يقول: إن لله تعالى يدين، وهما صفة لله في ذاته، ليستا بجارحتين، وليستا بمركبتين، ولا جسم، ولا من جنس الأجسام، ولا من جنس المحدود والتركيب، ولا الأبعاض ولا الجوارح، ولا يقاس على ذلك، ولا له مرفق ولا عضد….
وفي هذه الرسالة:[5] وكان يقول إن الله عز وجل مستو على العرش المجيد.
وحكى جماعة عنه أن الاستواء من صفات الفعل, وحكى جماعة عنه أن كان يقول: إن الاستواء من صفات الذات.
وكان يقول في معنى الاستواء هو العلو والإرتفاع، ولم يزل الله عاليا رفيعا قبل أن يخلق عرشه، فهو فوق كل شيء والعالى على كل شيء، وإنما خص الله العرش لمعنى فيه مخالف لسائر الاشياء ، والعرش أفضل الأشياء وأرفعها ، فامتدح الله نفسه بأنه على العرش استوى، أى عليه علا.
ولا يجوز أن يقال استوى بمماسة ولا بملاقاة. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
والله تعالى لم يلحقه تغيير ولا تبديل ولا يلحقه الحدود قبل خلق العرش ولا بعد خلق العرش.
هذه عقيدة الإمام أحمد كما نقلوها عنه، فقارن بينهما وبين ما نقلوه من عقيدة البربهاري
هل ترى بين عقيدتيهما إلا الخلاف والتضاد! ثم قارن بين عقيدة الإمام أحمد وعقيدة الإمام الأشعري التي ذكرها في كتابه “الإبانة” هل ترى بينهما إلا الوفاق والوئام! فأيهما أحق بأن يعد إمام أهل السنة في عصره هل البربهاري المخالف في العقيدة للإمام أحمد، أم الأشعري الموافق له فيها؟ وأيهما أحق بالتبديع والتضليل!!؟؟
ثم إن المقابلة لم تشمل على شيء من التبديع والتضليل من البربهاري للأشعري، كل ما فيها أن البربهاري كان على طريقة الإمام أحمد في كراهة الدخول في شيء من علم الكلام وحكاية أقوال المخالفين والرد عليهم؛ الأمر الذي كان يقوم به الأشعري ويراه من آكد الواجبات عليه. وليس موقف الإمام أحمد هذا حجة على غيره من الأئمة، فلكل منهم موقفه واجتهاده وأجره.
ثم إن هذه المقابلة تدل على أن كتاب الإبانة من أوائل ما كتبه الأشعري من كتبه، وأنه كتبها استدراجاً للبربهاري لمذهب الإمام أحمد الذي كان يدعى البربهاري أنه عليه، وليست الإبانة آخر كتاب للإمام الأشعري، ولا من أواخر كتبه كما يقال. وكما قال الدكتور.
24- بيان بطلان إقعاد الله تعالى لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على العرش معه
ونود أن نتعرض لمسألة الإقعاد، فنقول: قد روي عن مجاهد أنه فسر المقام المحمود الوارد في قوله تعالى: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا) بإقعاد الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وآله وسلم على العرش معه، وتبع مجاهدا على هذا بعض الناس منهم ابن تيمية، وانظر مجموع الفتاوى[6] وأشار إليها ابن القيم في بدائع الفوائد[7].
قال الكوثري في الكلام على هذا التفسير: روي عنه- أي عن مجاهد- بطرق ضعيفة، وتفسيره بالشفاعة متواتر معنى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم- فأنى يناهضه قول التابعي على تقدير ثبوته عنه.
ومن يقول: إن الله سبحانه قد أخلى مكاناً للنبي صلى الله عليه وسلم وآله في عرشه فيقعده عليه في جنب ذاته فلا شك في زيغه وضلاله واختلال عقله، رغم تقوِّلِ جماعة البربهارية من الحشوية، وكم آذوا ابن جرير حتى أدخل في تفسيره بعض شيء من ذلك مع أنه القائل:
سبحان من ليس له أنيس :: ولا له في عرشه جليس
ولو ورد مثل ذلك بسند صحيح لرُدَّ وعُدَّ أن هذا سند مركب، فكيف وهو لم يرفع إلى النبي صلى الله تعالى وآله وسلم أصلا، بل نسب إلى مجاهد بن جبر.
نعم لا مانع من أن يكون الله سبحانه يقعده على عرش أعده لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في القيامة إظهارا لمنزلته، لا أنه يقعد ويقعده في جنبه تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا، إذ هو محالٌ يُرَدُّ بمثله خبر الآحاد على تقدير وروده مرفوعا، فكيف ولم يرد ذلك في المرفوع! حتى قال الذهبي: ولم يثبت في قعود نبينا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على العرش نص، بل في الباب حديث واه، وقال أيضا: ويروى مرفوعا وهو باطل.
فما ذكره ابن عطية وسايره الآلوسي فليس في محله لأن أصحاب الاستقراء لم يجدوه مرفوعا حتى نحتاج إلى محاولة التأويل بما يمجه الذوق.
ومن ظن أنه يوجد في مسند الفردوس ما يصح من ذلك لم يعرف الديلمي ولا مسنده وأرسل الكلام جزافا.
جزى الله الواحدي خيراً حيث رد تلك الأخلوقة رداً مشبعا، وكذا ابن معلم القريشي.
وأما ما يروى عن أبي داود أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم، فبطريق النقاش صاحب شفاء الصدور، وهو كذاب عند أهل النقد.
وقال ابن عبد البر: إن لمجاهد قولين مهجورين عند أهل العلم: أحدهما: تأويل المقام المحمود بهذا الإجلاس. والثاني: تأويل (إلى ربها ناظرة)[8] بانتظار الثواب.
وفتنة أبي محمد البربهاري ببغداد في الإقعاد وصمة عار يأبى أهل الدين أن يميلوا إليها لاستحالة ذلك وتضافر الأدلة على تفسير المقام المحمود بالشفاعة، وإنما هذه الأسطورة تسربت إلى معتقد الحشوية من قول بعض النصارى بأن عيسى عليه السلام رفع إلى السماء وقعد في جنب أبيه تعالى الله عن ذلك، فحاولوا أن يجعلوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل ما جعله النصارى لعيسى عليه السلام كسابقة لهم. تعالى الله عن ذلك.
قال الدكتور: {رأيت من واجبي أن أسهم بتفصيل مذهب الأشاعرة في كل أبواب العقيدة ليتضح أنهم على منهج فكري مستقل في كل الأبواب والأصول، ويختلفون مع أهل السنة والجماعة من أول مصدر التلقي حتى آخر السمعيات ما عدا قضية واحدة فقط!!!}
أقول تكرارا: إن التسنن وكون المذهب مذهب أهل السنة والجماعة ليس بالدعاوي (ولو أُعطي الناس بدعواهم لادَّعى أناس دماء أقوام وأموالهم) وإنما التسنن بالموافقة للكتاب والسنة ولسلف الأمة، وقد ادَّعى الدكتور سفر أن الأشاعرة يختلفون مع أهل السنة في كل مسائل العقيدة بما فيها السمعيات، أي إن مذهبهم مخالف للكتاب والسنة ولاعتقاد سلف الأمة، والسبب الأصل في ذلك ضلالهم في مصدر التلقي حيث جعلوا مصدر التلقي العقل فقط، ولم يعيروا للنقل أي للكتاب والسنة بالاً. هذا ما يدعيه الدكتور هنا إجمالا، ثم استعرض خمسة عشرة مسألة ادَّعى أن مذهب الأشاعرة فيها مخالف لمذهب أهل السنة والجماعة مخالفةً تامة ما عدا المسألة الرابعة عشر حيث إن المخالفة فيها ليست بتامة، وقد حاول إثبات ذلك بما أقنع به نفسه، وأقنع من هو على شاكلته ممن لم يدرسوا مذهب الأشاعرة، ولم يتعلموه على وجهه.
ونحن نستعرض كلام الدكتور، ثم نتعقبه خطوة خطوة على وجه يتضح للقارئ المتأني مدى صحة دعوى الدكتور هذه، ومدى موافقة مذهب الأشاعرة للكتاب والسنة ومخالفته لهما، وبذلك يتضح أن أيهما أوفق بالكتاب والسنة، مذهب الأشاعرة أو مذهب الدكتور، ويتبين أن أيهما أحق باسم مذهب أهل السنة والجماعة، ولا أستعجل الحكم بشيء من ذلك هنا، بل أترك الحكم بذلك للقارئ المتأني المنصف.
[1] تاريخ الإسلام 24/358، طبقات الحنابلة 3/18.
[2] طبقات الحنابلة 2/ 43.
[3] الكامل 6/ 248 في حوادث سنة 323.
[4] ص294
[5] صـ296
[6]4/ 374
[7] 4/ 39
[8] سورة القيامة 23