الصفحة الرئيسية » كتب للقراءة والتحميل » منهج الأشاعرة في العقيدة بين الحقائق والأوهام » الأصل في عوام المسلمين أنهم غير منسوبين لمذهب من مذاهب العقيدة،تحريف الدكتور لكلام الرازي،بيان حال الرازي والآمدي

الأصل في عوام المسلمين أنهم غير منسوبين لمذهب من مذاهب العقيدة،تحريف الدكتور لكلام الرازي،بيان حال الرازي والآمدي

16- الأصل في عوام المسلمين أنهم غير منسوبين لمذهب من مذاهب العقيدة

قال الدكتور: {أما عوام المسلمين فالأصل فيهم أنهم على عقيدة السلف لأنها الفطرة التي يولد عليها الإنسان وينشأ عليها المسلم بلا تلقين ولا تعليم( من حيث الأصل) فكل من لم يلقنه المبتدعة بدعتهم ويدَرِّسونه كتَبهم فليس من حق أي فرقة أن تدعيه إلا أهل السنة والجماعة}

أقول: المراد بالفطرة التي يولد عليها المولود أنه يولد مستعداً للخير أكثر من استعداده لقبول الشر وإلا فالمولود يولد كصفحة بيضاء خالياً عن أي عقيدة، ولا يتقبل أي عقيدة حقاً أو باطلاً إلا بعد التلقين والتعليم، ولو كان ما قاله المؤلف صحيحاً لما بقي حاجة في معرفة العقيدة إلى بعثة الرسل، ولأحيل الناس في تعلم العقائد إلى الصبيان الذين لم يلقنوا بعد شيئا.

ثم إن المكلف بمجرد إسلامه يصبح مسلماً، ولا يصبح لا أشعرياً ولا ماتريدياً ولا سلفياً إلا بالتعليم وبالتلقين وذلك لأن لكل واحدة من هذه الفرق آراء ا خاصة بها، بها تتمايز في ما بينها، عوام المسلمين بعيدون عن معرفتها بمراحل.

قال الدكتور: {وإن شئت المثال على عقيدة العوام فاسأل الملايين من المسلمين شرقا وغربا هل فيهم من يعتقد أن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته كما تقول الأشاعرة، أم أنهم كلهم مفطورون على انه تعالى فوق المخلوقات. وهذه الفطرة تظل ثابتة في قلوبهم حتى وإن وجدوا من يلقنهم في أذهانهم تلك المقولة الموروثة عن فلاسفة اليونان}

أقول: وهل هم مفطورون على أن العالم قديم بالنوع، وعلى جواز تسلسل حوادث لا أول لها في جانب الماضي؟ وأن لله حدا؟ وأنه يتحرك؟ وأن له ثقلاً على عرشه؟

الحقيقة أن ابن تيمية الذي اتخذه المؤلف إماماً وحصر معرفة العلم والإسلام على الوجه الصحيح من بين المتأخرين فيه، أنه في مقدمة من تأثر بالفلسفة اليونانية واعتنى بنقل أقوال الفلاسفة في كتبه، وقد انتقده على هذا صاحبه الإمام الذهبي في رسالته “زغل العلم”.

قال: وقد رأيت ما آل أمره من الحط عليه والهجر والتضليل والتكفير والتكذيب بحق وبباطل، فقد كان قبل أن يدخل في هذه الصناعة- الفلسفة- منوراً مضيئاً على محياه سيما السلف، ثم صار مظلما مكسوفا.[1]

وكذلك أنكر عليه هذا الأمر أشد الإنكار معاصره سيد المتأخرين الإمام ابن دقيق العيد. قال الحافظ العسقلاني: وقد حكي عياض وغيره الإجماع على تكفير من يقول بقدم العالم.

وقال ابن دقيق العيد: وقع هنا من يدعي الحذق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة فظن أن المخالف في حدوث العالم لا يكفر لأنه من قبيل مخالفة الإجماع، وتمسك بقولنا، إن منكر الإجماع لا يكفر على الإطلاق حتى يثبت النقل بذلك متواترا عن صاحب الشرع.

قال: وهو تمسك ساقط إما عن عمى في البصيرة أو تعام؛ لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع، والتواتر بالنقل.[2]

وأما أن الله تعالى لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته، فسيأتي الكلام عليه في أواخر الكتاب.

17- تحريف الدكتور لكلام الرازي

قال الدكتور في التعليق: {فالرازي مثلا مع إنكاره الشديد للعلو في ( التأسيس والتفسير) قال في التفسير: إن الله “خسف بقارون فجعل الأرض فوقه ورفع محمدا صلى الله عليه وسلم فجعله قاب قوسين تحته” 1/ 248 ط. بيروت}

أقول: عبارة الإمام الرازي هكذا: ( فجعل قاب قوسين تحته) فأضاف المؤلف الهاء إلى “جعل” ليتم له ما أراده من رجوع ضمير تحته إلى الله تعالى، حتى يفيد كلام الرازي إثبات الفوقية لله تعالى بالمعنى الذي يعتقده الدكتور سفر، مع أن هذا الضمير عائد إلى محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم.

قال الدكتور: {وقس على هذا نظرية الكسب والكلام النفسي ونفي التأثير وأشباهها مما سترى في عقائد الأشاعرة}

أقول: مذهب الإمام الأشعري في الكسب هو الموافق لقوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) وغيرها من الآيات، وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم : (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن) وقوله: (لا حول ولا قوة إلا بالله) وأما الكلام النفسي الذي قال به الأشعري فهو أمر لا يخلوا عنه متكلم سواء كان هو الله أو غيره من المخلوقين، وأما نفي التأثير فهو التوحيد الخالص كما أن مسألة الكسب كذلك. وسيأتي الكلام على هذه كلها مفصلا.

18- بيان حال الرازي والآمدي

قال الدكتور: {وقد ترجم الحافظ الذهبي- رحمه الله- في الميزان وغيره للرازي وللآمدي بما هم أهله، ثم جاء ابن السبكي- ذلك الأشعري المتعصب- فتعقبه وعنف عليه ظلما}

أقول: أنقل لك قطعةً من تعقب السبكي، وأترك لك الحكم في أنه هل كان ظالماً في تعقبه أو كان عادلا، قال السبكي: وأعلم أن شيخنا الذهبي ذكر الإمام في كتاب الميزان في الضعفاء، وكتبت أنا على كتابه حاشية مضمونها أنه ليس لذكره في هذا الكتاب معنى، ولا يجوز من وجوه عدة، أعلاها أنه ثقة حبر من أحبار الأمة، وأدناها أنه لا رواية له فذكره في كتب الرواة مجرد فضول وتعصب وتحامل تقشعر منه الجلود… إلى آخر كلامه في ترجمة الرازي.[3]

ثم قال الدكتور مواصلا الكلام على الرازي والآمدي: {فماذا كان موقف ابن حجر؟ لأن موقفه هو الذي يحدد انتماءه لفكر هؤلاء القوم أو عدمه إن الذي يقرأ ترجمتيهما في اللسان لا يمكن أن يقول: إن ابن حجر على مذهبهما أبدا، كيف وقد أورد نقولا كثيرة موثقة عن ضلالهماو وشنائعهما التي لا يقرها أي مسلم فضلا عمن هو في علم الحافظ وفضله}

أقول أولا: لا علاقة للمواقف من الأشخاص بتحديد الانتماء، فكم من سني جرح سنيا وعدل شيعيا!

ثم أقول: الحافظ ابن حجر العسقلاني قد أنصف الرجلين، ونقل ما قيل فيهما من الممادح والمذام، ولكنه جرى على طريق المؤرخين في سرده لما نقله بدون توثيق، ولم يجر على طريقة المحدثين في التوثيق، فقول المؤلف: ” وقد أورد نقولاً كثيرة موثقة….” غير صحيح لا سيما وقد نقل أموراً المعروف عن الإمام الرازي خلافها، وقد اقتصر الدكتور على ذكر المذام، وأنا انقل ما أورده الحافظ عنهما من الممادح.

قال عن الرازي: الفخر بن الخطيب صاحب التصانيف، رأس في الذكاء والعقليات، ثم نقل نقد التاج السبكي للذهبي وأقره ثم قال: وتمهر في عدة علوم، وعقد مجلس الوعظ، وكان إذا وعظ يحصل له وجد زائدة… قال للسلطان يوما: نحن في ظل سيفك، فقال له السلطان: ونحن في شمس علمك، وكانت له أوراد من صلاة وصيام لا يخل بها، وكان مع تبحره في الأصول يقول: من التزم دين العجائز فهو الفائز.

وقال الحافظ عن الآمدي: قال أبو المظفر ابن الجوزي: لم يكن في زمانه من يجاريه في الأصلين وعلم الكلام، وكان يظهر منه رقة قلب وسرعة دمعة، ويقال أنه حفظ الوسيط والمستصفى، وحفظ قبل ذلك الهداية لأبي الخطاب إذ كان حنبليا، ويذكر عن ابن عبد السلام قال: ما علمت قواعد البحث إلا من السيف، وما سمعت أحداً يلقي الدرس أحسن منه، وكان إذا غير لفظة من الوسيط كان اللفظ الذي يأتي به أقرب إلى المعنى، قال ولو ورد على الإسلام من يشكك فيه من المتزندقة لتعين الآمدي لمناظرته، ثم أورد الحافظ نقد السبكي للذهبي الذي نقلناه آنفا وأقره.[4] وقال الحافظ ابن كثير في ترجمة الآمدي: “وكان كثير البكاء رقيق القلب، وقد تكلموا فيه بأشياء ألله أعلم بصحتها، والذي يغلب على الظن أنه ليس لغالبها صحة”.[5]

[1] زغل العلم 42-43.

[2] فتح الباري 12-202، وأراد ابن دقيق العيد بمن يدعي الحذق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة ابن تيمية، وتأمل قول ابن دقيق العيد وهو سيد المتأخرين المعروف بأنه من أشد الناس تحريا في تعبيراته وتثبتا في الحكم على الناس، وانظر تعبيره عن ابن تيمية بمن يدعي الحذق في المعقولات!

[3] أنظر الطبقات الكبرى 8/88.

[4] لسان الميزان 3/134-135.

[5] البداية والنهاية 13/140.