التأويل وبيان معناه الإصطلاحي
60 – التأويل وبيان معناه الإصطلاحي:
قال الدكتور: {الحادي عشر: التأويل: ومعناهُ المبتَدَعُ صَرْفُ اللفظ عن ظاهرهِ الراجحِ إلى احتمالٍ مرجوحٍ لقرينة.
فهو بهذا المعنى تحريفٌ للكلامِ عن مواضعِهِ كما قرَّرَ ذلك شيخُ الإسلام}
أقول: هذا هو اصطلاحُ الأصوليين وليسَ الاصطلاحُ منَ الابتداعِ في شيءٍ. ثم إذا كان الصرف لقرينة فلماذا يكون تحريفا للكلم عن مواضعه؟ وما معنى القرينة؟ بل عدم الصرف حينئذ يكون تحريفاً للكلم عن مواضعه، وتقرير ابن تيمية ليس من الوحي! بل قد صرح هو بخلاف ما نقله الدكتور عنه كما سيأتي قريبا. نعم صرف اللفظ عن ظاهره لا لقرينة تأويلٌ فاسد، وتحريفٌ للكلم عن مواضعه. قال الإمام فخر الدين الرازي: (إذا كان لفظ الآية والخبر ظاهراً في معنى فإنما يجوز لنا ترك ذلك الظاهر بدليل منفصل، وإلا لخرج الكلام عن أن يكون مفيدا، ولخرج القرآن عن أن يكون حجة) ثم قال: (صرف اللفظ عن ظاهره إلى معناه المرجوح لا يجوز إلا عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال ممتنع)[1] وقال تاج الدين السبكي في أول مباحث الكتاب من “جمع الجوامع”: (ولا يجوز ورود ما يعنى به غير ظاهره إلا بدليل) ثم قال في مبحث الظاهر والمؤول من مباحث الكتاب: (الظاهر ما دلَّ دلالة ظنية، والتأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حمل لدليل فصحيح، أو لما يظن دليلاً ففاسد، أو لا لشيء فلعب، لا تأويل) وقال ابن تيمية: (وأما التأويل المذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع الذين يتأولونه على غير تأويله ويدعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك)[2] فانظر إلى قوله: (بغير دليل يوجب ذلك)
قال الدكتور مكملاً كلامه عن التأويل: {وهو أصلٌ منهجيٌّ من أصول الأشاعرةِ وليسَ هو خاصاً بمبحثِ الصفاتِ، بل يشملُ أكثرَ نصوصِ الإيمان خاصةً ما يتعلَّقُ بإثبات زيادتِهِ ونقصانِهِ وتسميةِ بعضِ شُعبِهِ إيماناً ونحوِها، وكذا بعضَ نصوصِ الوَعْدِ والوعيدِ وقصصِ الأنبياءِ خصوصاً موضوعَ العصمة، وبعض الأوامرِ التكليفيَّةِ أيضاً.
وضرورته لمنهج عقيدتهم أصلها أنَّه لما تعارضت عندَهم الأصولُ العقليةُ التي قرروها بعيداً عن الشرع مع النصوص الشرعيةِ، وقعوا في مأزقِ ردِّ الكلِّ أو أخذِ الكلِّ، فوجدوا في التأويل مهرباً عقلياً ومخرجاً من التعارض الذي اختلقتْهُ أوهامُهم، ولهذا قالوا أنَّنا مضطرون للتأويل، وإلاّ أوقعنا القرآن في التناقض، وإنَّ الخلفَ لم يؤولوا عن هوىً ومكابرةٍ وإنما عن حاجةٍ واضطرار فأي تناقضٍ في كتاب اللهِ يا مسلمون نضطرُّ معه إلى ردِّ بعضِهِ أو الاعترافِ للأعداءِ بتناقضه.
وقد اعترف الصابونيُّ بأنَّ في مذهبِ الأشاعرةِ “تأويلاتٍ غريبةً”، فما المعيارُ الذي عَرَفَ به الغريبَ من غيرِ الغريب؟
وهنا لا بُدَّ من زيادة التأكيد على أنَّ مذهبَ السلف لا تأويلَ فيه لنصٍّ من النصوص الشرعيةِ إطلاقاً، ولا يوجدُ نصٌّ واحدٌ – لا في الصفات ولا غيرها – اضطُرَّ السلفُ إلى تأويلِهِ وللهِ الحمدُ. وكلُّ الآيات والأحاديثِ التي ذكرها الصابونيُّ وغيرُه تحملُ في نفسِها ما يدلُّ على المعنى الصحيحِ الذي فهمه السلفُ منها والذي يدلُّ على تنـزيه اللهِ تعالى دونَ أدنى حاجةٍ إلى التأويل.
ثم قال الدكتور29-30:
أما التأويلُ في كلامِ السلفِ فله معنيان:
1-التفسيرُ كما تجدُ في تفسيرِ الطبريِّ ونحوه: “القولُ في تأويل هذه الآية” أي: تفسيرِها.
2- الحقيقةُ التي يصيرُ إليها الشيء، كما في قوله تعالى: “هذا تأويلُ رؤياي من قَبْل” أي: تحقيقها. وقوله: “يوم يأتي تأويله” أي: تحقيقه ووقوعُه. أما التَّأوُّلُ فله مفهومٌ آخر: راجع الحاشية.
وإن تعجب فأعجبُ لهذه اللفظة النابية التي يستعملها الأشاعرة مع النصوص، وهي أنها “توهمُ” التشبيه: ولهذا وجب تأويلُها. فهل في كتاب الله إيهامٌ أم أنَّ العقولَ الكاسدةَ تتوهم، والعقيدةُ ليستْ مجالَ توهُّم.
فالعيبُ ليسَ في ظواهر النصوص – عياذاً بالله – ولكنه في الأفهامِ، بل الأوهامِ السقيمة. أما دعوى أنَّ الإمامَ أحمدَ استثنى ثلاثةَ أحاديث وقال: لا بُدَّ مِنْ تأويلها فهي فِرْيةٌ عليه افتراها الغزاليُّ في “الإحياءِ وفَيْصلِ التفرقة” ونفاها شيخُ الإسلام سنداً ومتناً.
وحسبُ الأشاعرة في بابِ التأويل ما فتحوه على الإسلام من شرورٍ بسببه، فإنهم لما أوَّلوا ما أوَّلوا تبعتهُمُ الباطنيةُ واحتجّت عليهم في تأويل الحلالِ والحرامِ والصلاةِ والصومِ والحجِّ والحشرِ والحسابِ، وما من حُجةٍ يحتجُّ بها الأشاعرةُ عليهم في الأحكامِ والآخرة إلا احتجَّ الباطنيةُ عليهم بمثلها أو أقوى منها مِنْ واقعِ تأويلهم للصفات. وإلا فلماذا يكونُ تأويلُ الأشاعرة لعلوِّ الله – الذي تقطعُ به العقولُ والفطرُ والشرائعُ – تنـزيهاً وتوحيداً، وتأويلُ الباطنية للبعثِ والحشرِ كفراً وردَّةً؟
أليسَ كلٌّ منهما ردّاً لظواهر النصوصِ مع أنَّ نصوصَ العلوِّ أكثرُ وأشهرُ من نصوص الحشرِ الجسماني؟ ولماذا يكفِّرُ الأشاعرةُ الباطنيةَ ثمَّ يشاركونهم في أصلٍ من أعظم أصولهم؟}
61-أقول: قد كتبنا رسالة متعلقة بالصفات سميناها “متشابه الصفات بين التأويل والإثبات” فنوردها هنا أولاً، ثم نعود إلى كلام الدكتور، ونبين ما حواه من أخطاء. وهذا نص الرسالة:
[1] أساس التقديس 181-182.
[2] الرسالة التدمرية 71.