التاسع ، النبوات ، أخطاء الدكتور في كلامه على النبوات
56 – التاسع النبوات:
قال الدكتور: {يختلفُ مذهبُ الأشاعرة عن مذهبِ أهلِ السُّنة والجماعة في النبوات اختلافاً بعيداً، فهم يقررون أنّ إرسالَ الرسل راجعٌ للمشيئة المحضة – كما في الفقرة السابقة، ثم يقررون أنه لا دليلَ على صدقِ النبيِّ إلا المعجزة، ثم يقررونَ أنّ أفعالَ السحرةِ والكُهّان من جنسِ المعجزةِ لكنّها لا تكون مقرونةً بادعاء النبوة، والتحدِّي، قالوا: ولو ادَّعى الساحر أو الكاهن النبوَّة لسلبه اللهُ معرفة السِّحر رأساً وإلا كان هذا إضلالاً من الله وهو يمتنعُ عليه الإضلال.. إلى آخر ما يقررونه مما يخالفُ المنقولَ والمعقولَ. ولضعف مذهبهم في النبواتِ مع كونِها من أخطر أبواب العقيدة، إذ كلُّ أمورها متوقفةٌ على ثبوت النبوَّةِ. أغروا أعداءَ الإسلام بالنيل منه واستطالَ عليه الفلاسفة والملاحدةُ.
والصوفيةُ منهم كالغزالي يفسِّرون الوحيَ تفسيراً قرمطياً فيقولونه هو انتقاشُ العلمِ الفائضِ من العقل الكلِّي في العقل الجزئيِّ (ونسب هذا الكلام في الحاشية إلى: الإرشاد، ونهاية الإقدام، وأصول الدين، والمواقف، وغاية المرام، والرسالة اللدنية)
أما في موضوع العصمةِ فينكرونَ صدورَ الذَّنْبِ عن الأنبياء ويؤولون الآيات والأحاديثَ الكثيرةَ تأويلاً متعسِّفاً متكلّفاً كالحال في تأويلاتِ الصفات}
57- أخطاء الدكتور في كلامه على النبوات:
أقول: قد اشتمل كلام الدكتور أيضاً على أخطاء عظيمة جمة
الأول: (قوله: يختلف مذهب الأشاعرة عن مذهب أهل السنة والجماعة في النبوات اختلافاً بعيداً)
أقول: هذا هو الخطأ الأصل الذي تفرع عنه أخطاء غير محصورة، وهو أنه قد تقرر في عقل الدكتور أن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة وأن مذهبهم مخالف لمذهب أهل السنة، وذلك عن عدم معرفته بمذهبهم الذي هو مذهب أهل السنة، ولعل الدكتور عند معرفته بمذهب الأشاعرة عامة عن طريق قراءته لهذا التعليق يترك جانباً ما كان يستخدمه لتفريق كلمة المسلمين وإيقاع الشقاق فيما بينهم من المعاول والأسافين في وقت أحوج ما تكون فيه الأمة إلى جمع الكلمة ووحدة الصف.
الثاني: قوله: (فهم يقررون أن إرسال الرسل راجع للمشيئة المحضة)
أقول: إن الأشاعرة يقولون: إن إرسال الرسل راجع إلى المشيئة والحكمة، ولم يقولوا برجوع إرسال الرسل إلى المشيئة فقط. وهذا الخطأ من الدكتور مبني على الخطأ السابق، وهو قوله بأن الأشاعرة لا يقولون بالحكمة، وقد بينا خطأه هناك بما فيه الكفاية.
وأما رجوع إرسال الرسل إلى الحكمة فقد قال النسفي في “عقائده”: “وفي إرسال الرسل حكمة” قال التفتازاني في “شرحه”: أي: مصلحة وعاقبة حميدة.. بمعنى أن قضية الحكمة تقتضيه لما فيه من الحكم والمصالح.. إلى آخر كلامه.
الثالث: قوله: (ثم يقررون أنه لا دليل على صدق النبي إلا المعجزة)
أقول: لا يقررون ذلك، بل يقرون أن هناك دلائل غير المعجزة تدل على صدق النبي، ويذكرون في كتبهم جملة من هذه الدلائل، وإنما الذي يقررونه هو أن العمدة في إثبات النبوة وإلزام الحجة على المجادل المعاند هو المعجزة، مع قولهم بوجود غير المعجزة من الدلائل.
وهل تقوم الحجة على المكلف بمجرد أن يدعى أحد الناس –مهما كان من أهل الفضل والصلاح- النبوة بدون أن تظهر المعجزة على يده؟ لا ريب في أنه لا تقوم الحجة بمجرد ذلك، ولا تقوم إلا بإظهار الله تعالى المعجزة على يد مدعى النبوة، ومن أجل ذلك كان من عادة الله تعالى أن يظهر المعجزة على يد مدعى النبوة صادقا، ولا يوكل الناس إلى الاستدلال على صحة دعواه النبوة بما اتصف به من الفضل والصلاح. والصفات الحميدة والخلق العظيم إلى غير ذلك مما عده العلماء من دلائل النبوة.
قال التفتازاني في “شرح المقاصد” بعد انتهائه من ذكر دليل المعجزة مفَصَّلاً: ما سبق هو العمدة في إثبات النبوة، وإلزام الحجة على المجادل المعاند، وقد يذكر وجوه أخرى تقوية له وتتميماً وإرشاداً لطالب الحق وتعليماً، ثم ذكر خمسة دلائل من هذا النوع:
أحدها: ما اجتمع فيه من الكمالات العلمية والعملية والنفسانية والبدنية، والخارجية.
الثاني: ما اشتمل عليه شريعته من أمر الاعتقادات، والعبادات، والمعاملات، والسياسات، وغير ذلك.
الثالث: ظهور دينه على سائر الأديان مع قلة الأنصار والأعوان، وكثرة أهل الضلال والعدوان.
الرابع: أنه ظهر على فترة من الرسل واختلال في الملك، وانتشار الضلال واشتهار المحال. وافتقار إلى من يجدد أمر الدين، ويدفع في صدر الملحدين، ويرفع لواء المتقين، ولم يكن بهذه الصفة غيره من العالمين.
الخامس: نصوص الكتب السماوية، ثم ذكر مجموعة منها.[1]
وقال القاضي عضد الدين في “المواقف”: المقصد الرابع: في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم: وفيه مسالك: المسلك الأول وهو العمدة أنه ادعى النبوة، وظهرت المعجزة على يده.
وبعد أن ذكر القاضي جملة من خوارق العادات الظاهرة على يده صلى الله عليه وآله وسلم ذكر ثلاثة مسالك أخرى، حيث قال:
المسلك الثاني – وارتضاه الجاحظ والغزالي– الاستدلال بأحواله قبل النبوة وحال الدعوة وبعد تمامها، وأخلاقه العظيمة، وأحكامه الحكيمة، وإقدامه حيث يحجم الأبطال،
المسلك الثالث: إخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته..
المسلك الرابع –وارتضاه الإمام الرازي– أنه عليه السلام ادعى بين قوم لا كتاب لهم ولا حكمة فيهم أني بعثت بالكتاب والحكمة لأتمم مكارم الأخلاق، وأكمل الناس في قوتهم العلمية والعملية، وأنور العالم بالإيمان والعمل الصالح، ففعل ذلك وأظهر دينه على الدين كله كما وعده الله. ولا معنى للنبوة إلا هذا.[2]
وقال التفتازاني في “شرح المقاصد” لا خفاء في ثبوت النبوة بخلق العلم الضروري، كعلم الصديق رضي الله تعالى عنه، وبخبر من ثبتت عصمته عن الكذب كنصوص التوراة والإنجيل في نبوة نبينا عليه السلام، وكإخبار موسى عليه السلام بنبوة هارون وكالب ويوشع عليهم السلام.
فما ذكر إمام الحرمين “من أنه لا يمكن نصب دليل على النبوة سوى المعجزة لأن ما يُقَدَّر دليلاً إن لم يكن خارقاً للعادة أو كان خارقاً ولم يكن مقروناً بالدعوة لم يصلح دليلاً للاتفاق على جواز وقوع الخوارق من الله تعالى ابتداء”، محمول على ما يصلح دليلاً للنبوة على الإطلاق وحجة على المنكرين بالنسبة إلى كل نبي حتى الذي لا نبي قبله ولا كتاب.
وأما ما سيأتي من الاستدلال على نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بما شاع من أخلاقه وأحواله فعائد إلى المعجزة على ما نبين إن شاء الله تعالى. انتهى.[3]
الخطأ الرابع: قوله: (ثم يقررون أن أفعال السحرة والكهان من جنس المعجزة لكنها لا تكون مقرونة بادعاء النبوة والتحدي، قالوا: ولو ادعى الساحر أو الكاهن النبوة لسلبه الله تعالى معرفة السحر..، وإلا كان هذا إضلالاً من الله تعالى، وهو يمتنع عليه الإضلال.. إلى آخر ما يقررونه مما يخالف المنقول والمعقول)
أقول: ليت شعري ما هو المنقول والمعقول الذي يخالفه كلامهم هذا!!؟؟
الخامس: قوله: (ولضعف مذهبهم في النبوات مع كونه من أخطر أبواب العقيدة، إذ كل أمورها متوقفة على ثبوت النبوة أغروا أعداء الإسلام بالنيل منه، واستطال عليهم الفلاسفة والملاحدة)
أقول: ما هو وجه الضعف في مذهبهم في النبوات؟ ومن هم هؤلاء الأعداء الذين أغراهم الأشاعرة بالنيل من الإسلام؟ وكيف أغروهم؟ ومن هم هؤلاء الفلاسفة والملاحدة الذين استطالوا على الأشاعرة؟ وما هو الذي مهَّد لهم الاستطالة من مذهب الأشاعرة؟
هذه أسئلة أوجهها إلى الدكتور سفر لا أعلم الجواب عنها، ولعله ما المسؤول بأعلم من السائل.!
السادس: قوله: والصوفية منهم كالغزالي يفسرون الوحي تفسيراً قرمطياً، فيقولون: هو انتفاش العلم الفائض من العقل الكلي في العقل الجزئي.
أقول: لا بد أن يصحح الدكتور النقل
الدعاوى إذا لم يقم عليها :: بينات أصحابها أدعياء
وما أورده في أسفل الصفحة من أسماء الكتب وأرقامها لا يوجد فيها شيء مما نسبه إلى الصوفية والغزالي!!
السابع: قوله: أما في موضوع العصمة فينكرون صدور الذنب عن الأنبياء، ويؤولون الآيات والأحاديث الكثيرة تأويلاً متعسفاً متكلفاً.
أقول: أصل العصمة للأنبياء موضع إجماع من أهل السنة، وقد اختلف في تفاصيلها خلافاً منتشراً يراجع من محله، والعصمة مقتضى وصف النبوة ومقتضى كون الأنبياء أسوة حسنة، ولو لم يكن الأنبياء معصومين لما كانوا أسوة حسنة، ولما جاز الاحتجاج بأقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم.. وهذا ما دفع الأشاعرة إلى تأويل النصوص التي يخالف ظاهرها عصمة الأنبياء، وأما أفراد التأويلات فهي أمور اجتهادية من الجائز أن يكونوا قد أخطأوا في بعضها.
[1] شرح المقاصد 3/299.
[2] المواقف 349-357.
[3] شرح المقاصد 3/280.