الذي رجع عنه من رجع من الأشاعرة هو منهج الاستدلال لا العقيدة،علماء الأشاعرة هم السواد الأعظم من علماء الأمة
14- الذي رجع عنه من رجع من الأشاعرة هو منهج الاستدلال لا العقيدة
قال الدكتور: {وههنا حقيقة كبرى أثبتها علماء الأشعرية الكبار بأنفسهم كالجويني وابنه أبي المعالي والرازي والغزالي وغيرهم، وهي حقيقة إعلان حيرتهم وتوبتهم ورجوعهم إلى مذهب السلف. وكتب الأشعرية المتعصبة مثل طبقات الشافعية أوردت ذلك في تراجمهم أو بعضه فما دلالة ذلك؟ إذا كانوا من أصلهم على عقيدة أهل السنة والجماعة فعن أي شيء رجعوا؟ ولماذا رجعوا؟ والى أي عقيدة رجعوا؟}
أقول: الذي رجع عنه من رجع منهم ليس هو العقيدة، وإنما الذي رجعوا عنه هو منهج الاستدلال من الغلو في الاعتماد على العقل، والجري في ذلك على أساليب الفلاسفة ومناهجهم، وهم أولاً دعاهم إلى ذلك ضرورة ردِّ مذاهب المعتزلة والفلاسفة، وبيان زيف أصولهم الباطلة، ورد الشبه التي أتت من قبلهم ليتم الإلزام لهم من باب:( من فمك أدينك)، ثم استقر هذا المنهج وصار علماً يدرس، وليس في أصول عقائد الأشاعرة والماتريدية ما يخالف الكتاب والسنة. ولو كان قد رجعوا عن عقائد معينة لكانوا بينوها وحذروا منها، فإن ذلك من آكد الواجبات، ولم يثبت عن أحد منهم شيء من ذلك.
نعم قد رجع بعض العلماء عن التأويل في الصفات الخبرية إلى التفويض، ومذهب التفويض وإن كان أولى وأسلم إلا أن التأويل بشروطه صحيح، ثم انه لا مناص من التأويل في بعض النصوص.
وهذا ما اضطر الإمام أحمد وبعض السلف إلى التأويل في بعضها. كما سيأتي
قال الدكتور: {وكتب الأشاعرة نفسها عند تعريف مذهبي السلف والخلف تقول إن مذهب السلف هو مذهب القرون الثلاثة، وبعضها يقول إنه مذهب القرون الخمسة…}
أقول: قد فرقت كتب الأشاعرة بين مذهب السلف والخلف في مسألة النصوص الواردة في الصفات فقط، وليس للأشاعرة في هذه المسألة مذهب موحد مقرر، فمنهم من رجَّح التفويض، ومنهم من رجَّح التأويل، ومنهم من توسَّط كالعز بن عبد السلام وابن دقيق العيد.
نعم مما لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان أن الكثير من المتأخرين من الأشاعرة قد غلوا في باب التأويل ووافقوا في بعض تأويلاتهم المعتزلة. وهذا ما يؤخذ عليهم.
15- علماء الأشاعرة هم السواد الأعظم من علماء الأمة
قال الدكتور: {ولولا ضيق الكلام لسردت قائمة متوازية أذكر فيها كبار الأشاعرة ومن عاصرهم من كبار أهل السنة والجماعة الذين يفوقون أولئك عددا وعلما وفضلا، وحسبك ما جمعه ابن القيم في “اجتماع الجيوش الإسلامية”، والذهبي في “العلو” وقبلهما اللالكائي}
أقول: قد أورد الإمام تاج الدين السبكي في كتابه “طبقات الشافعية الكبرى” فصلا عنونه بقوله: (ذكر بيان أن طريق الشيخ أبي الحسن الأشعري هي التي عليها المعتبرون من علماء الإسلام والمتميزون من المذاهب الأربعة في معرفة الحلال والحرام، والقائمون بنصرة دين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام)[1] هذا هو عنوان الفصل ثم قال: قد قدمنا في تضاعيف الكلام ما يدل على ذلك، وحكينا لك مقالة الشيخ ابن عبد السلام ومن سبقه إلى مثلها وتلاه على قولها حيث ذكروا: أن الشافعية والمالكية والحنفية وفضلاء الحنابلة أشعريون. هذه عبارة ابن عبد السلام شيخ الشافعية وابن الحاجب شيخ المالكية، والحصيري شيح الحنفية، ثم قال السبكي:
ومن كلام ابن عساكر حافظ هذه الأمة الثقة الثبت: هل من الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية إلا موافق للأشعري ومنتسب إليه وراض بحميد سعيه في دين الله، ومثنٍ بكثرة العلم عليه، غير شرذمة قليلة تضمر التشبيه وتعادي كل موحد يعتقد التنزيه، أو تضاهي قول المعتزلة في ذمه. ثم قال السبكي: ونحن نحكي لك هنا مقالات أخر لجماعة من معتبري القول من الفقهاء. ثم أورد السبكي مجموعة من فتاوى علماء المذاهب الأربعة في تأييد المذهب الاشعري، ثم قال السبكي: سمعت الشيخ الإمام (الوالد) رحمه الله يقول: ما تضمنه عقيدة الطحاوي هو ما يعتقده الأشعري لا يخالفه إلا في ثلاث مسائل ثم قال: قلت: أنا اعلم أن المالكية كلهم أشاعرة لا أستثني أحدا، والشافعية غالبهم أشاعرة لا أستثني إلا من لحق منهم بتجسيم أو اعتزال ممن لا يعبأ الله به، والحنفية أكثرهم أشاعرة، أعني يعتقدون عقد الأشعري، لا يخرج منهم إلا من لحق منهم بالمعتزلة، والحنابلة أكثر فضلاء متقدميهم أشاعرة، لم يخرج منهم عن عقيدة الأشعري إلا من لحق بأهل التجسيم، وهم في هذه الفرقة من الحنابلة أكثر من غيرهم، وقد تأملت عقيدة الطحاوي… إلى آخر ما نقلناه عنه آنفا.[2]
أقول: وقد ذكر الإمام الحافظ ابن عساكر في كتابه (تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام أبي الحسن الأشعري) جملة من علماء المذاهب ممن اشتهر بالمناضلة عن الإمام أبي الحسن، وقد أورد أسماءهم تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى، ثم قال السبكي: فهذه جملة من ذكرهم الحافظ في التبيين، وقال (الحافظ) لولا خوفي من الإملال والإسهاب لتتبعت ذكر جميع الأصحاب، وكما لا يمكنني إحصاء نجوم السماء كذلك لا أتمكن من استقصاء جميع العلماء مع انتشارهم في الأقطار والآفاق من المغرب والشام وخراسان والعراق، ثم قال السبكي: ولقد أهمل على سعة حفظه من الأعيان كثيرا وترك ذكر أقوام كان ينبغي حيث ذكر هؤلاء أن يشمر عن ساعد الاجتهاد في ذكرهم تشميرا… ثم أضاف السبكي جملة من أعيان علماء الأمة ممن فات ابن عساكر ذكره، وممن تأخر عنه.[3]
ونقل الذهبي عن الإمام الحافظ أبي ذر الهروي أنه قال في حق إمام الأشاعرة في عصره القاضي أبي بكر الباقلاني: “كل بلد دخلته من بلاد خراسان وغيرها لا يشار فيها إلى أحد من أهل السنة إلا من كان على مذهبه وطريقته”.[4] هذه الجملة من كلام أبي ذر وحدها –فضلا عما تقدمها- كافية في إثبات دعوى أن أكثر أئمة المسلمين على مذهب الأشاعرة.
أقول: إحترز الإمام ابن عبد السلام ومن وافقه بقولهم: “إن فضلاء الحنابلة أشعريون” عن أناس من الحنابلة ذهبوا إلى التشبيه وشانوا مذهب الإمام أحمد. قال ابن الجوزي: “ورأيت من أصحابنا من تكلم في الأصول بما لا يصلح، وانتدب للتصنيف ثلاثة: أبو عبد الله بن حامد وصاحبه القاضي وابن الزاغوني، فصنفوا كتبا شانوا بها المذهب، ورأيتهم قد نزلوا إلى مرتبة العوام، فحملوا الصفات على مقتضى الحس… وأخذوا بالظاهر في الأسماء والصفات… ولم يقنعوا أن يقولوا: صفة فعل، حتى قالوا: صفة ذات… وقد تبعهم خلق من العوام… وقد كان أبو محمد التميمي يقول في بعض أئمتكم: لقد شان المذهب شيناً قبيحاً لا يغسل إلى يوم القيامة”[5] والخطاب في أئمتكم للحنابلة.
ثم أقول: إن العلامة المميزة لمذهب أهل السنة هي الموافقة للكتاب والسنة ولما كان عليه سلف الأمة، وليس التسنن بالدعاوي ولا بكيل التهم للمخالفين (ولو أعطي الناس بدعواهم لادَّعى ناس دماء أقوام وأموالهم) وأنا أترك الحكم بأن مذهب الأشاعرة هل هو مذهب أهل السنة والجماعة لموافقته للكتاب والسنة ولما كان عليه سلف الأمة، أو بأنه خارج عن مذهب أهل السنة لمخالفته لما ذكر. أنا أترك الحكم بذلك لقارئ تعليقاتنا هذه بتدبر وتأمل وتجرد وحياد، فليقرأها القارئ وليحكم بإنصاف.
ولا أدَّعي أن الأشاعرة معصومون ولا أنهم مصيبون في جميع ما ذهبوا إليه من المسائل التي خالفهم فيها غيرهم، ولكن أدعى أنهم مصيبون فيما هم عليه من أصول العقائد، وأنهم هم الطائفة العظمى من طوائف أهل السنة والجماعة، وأنهم فحول أهل السنة، وأنهم يمثلون العمود الفقري من مذهب أهل السنة والجماعة، وأما المسائل التي وقع الخلاف فيها بينهم وبين غيرهم فهم في عامة أحوالهم على حق. وقد يكون الحق مع مخالفيهم، وإذا أخطؤوا فخطؤهم خطأ اجتهادي هم مأجورون عليه، لأنه ليس خطأ في أصول العقيدة، بل هو خطأ في المسائل التي هي من مجال الاجتهاد من مسائل العقيدة.
[1] الطبقات 3/373.
[2] الطبقات 3/377.
[3] الطبقات 3/371.
[4] سير أعلام النبلاء 17/558.
[5] دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه 97. 102