الكلام على وصية الرازي ، هل انتقد الحافظ ابن حجر الأشاعرة وخالفهم؟
19-الكلام على وصية الرازي
قال الدكتور: {على أنه (أي الحافظ ابن حجر) قال في آخر ترجمة الرازي: “أوصى بوصية تدل على حسن اعتقاده” ثم قال الدكتور: وهذه العبارة التي قد يفهم منها أنها متعاطفة مع الرازي ضد مهاجميه هي شاهد لما نقول نحن هنا، فإن وصية الرازي التي نقلها ابن السبكي نفسه صريحة في رجوعه إلى مذهب السلف}
أقول: أما الجملة التي نقلها الدكتور عن الحافظ ابن حجر من أنه “أوصى بوصية تدل على حسن اعتقاده” فهي موجودة في الطبعة الهندية من “لسان الميزان”، وهي طبعة سقيمة، وقد حقق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة الكتاب وقابله بعدة نسخ خطية ليس فيها هذه الجملة، وإنما هي مكتوبة في هامش إحدى النسخ. فبطلت نسبة تلك الجملة الموهمة إلى الحافظ ابن حجر، وبطل ما بناه الدكتور عليها.
ثم أقول: القارئ لوصية الإمام الرازي بتدبر وتمعن يتحقق أن الإمام قد ركز فيها على أمرين:
الأول: تفضيل طريقة القرآن الكريم وترجيح أسلوبه في تقرير العقائد الإسلامية والاستدلال عليها على الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية في ذلك، وهذا الأمر محل إجماع من علماء المسلمين، وأما اشتغال المتكلمين من أهل السنة بالطرق الكلامية والأساليب الفلسفية في الاستدلال على العقائد الإسلامية فكان لأجل ضرورة طارئة وهي ضرورة الرد على المعتزلة والفلاسفة وقمعهم وإبطال أصولهم الباطلة ليتم الإلزام لهم من باب “من فمك أدينك” وهذا التفضيل قد أشار إليه الإمام بقوله: ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية.. إلى قوله: فلهذا أقول…
والثاني: أن الحاجة إلى الدفاع عن عقيدة أهل السنة والرد على المخالفين لها من المعتزلة والحشوية وقمعهم كانت قد اضطرته إلى الدخول في مضايق علم الكلام الذي هو أدق العلوم، وإلى تشقيق مسائله وإبداء الوجوه والاحتمالات العقلية فيها، وإلى تقرير مذاهب المخالفين وشبههم على أتم وجه، ثم الكر عليها بالرد والنقض. ومن أجل أن علم الكلام من أدق العلوم أو أدقها كانت غوامض مسائله من المزالق والمداحض، وكان الخائض فيه بالطريق المذكورة عرضة للخطأ، وهذا ما كان يعلمه الإمام الرازي جيدا ويلاحظه.
فالإمام الرازي على طريقة الأئمة المتقين الذين يرجون لله وقارا -مع وثوقه بحسن قصده فيما قام به من هذا العمل الذي لا يقوم به إلا أفذاذ العصور ونوابغ الدهور- كان متَّهِماً لنفسه، ومجوزاً عليها الخطأ في بعض ما تدخل فيه من مضايق المعقول ومداحضه، ومعترفاً بالعجز عن المزيد على ذلك، وتائباً إلى الله عما وقع فيه من الخطأ والزلل إن كان قد وقع. وهذا ما ذكره الإمام بقوله: فكل ما مده قلمي… إلخ
فهذا هو الذي تاب عنه الإمام الرازي، وأما أنه تاب من عقيدته أو من خطأ معين فليس له في هذه الوصية عين ولا أثر.
وإليكم نص الوصية منقولة من طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي.
فاعلموا أني كنت رجلاً محباً للعلم، فكنت أكتب من كل شيء شيئا لأقف على كميته وكيفيته، سواء كان حقاً أو باطلا، إلا أن الذي نُطِقَ به في الكتب المعتبرة أن العالم المخصوص تحت تدبير مدبره المنزه عن مماثلة المتحيزات موصوف بكمال القدرة والعلم والرحمة، ولقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا للعلم بان العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية، فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة، من وجوب وجوده، ووحدته، وبراءته عن الشركاء، كما في القدم والأزلية، والتدبير، والفعالية، فذلك هو الذي أقول به، وألقى الله به، وأما ما لا ينتهى، الأمر فيه إلى الدقة والغموض، وكل ما ورد في القرآن والصحاح، المتعين للمعنى الواحد، فهو كما قال، والذي لم يكن كذلك أقول: يا إ̃له العالمين، إني أرى الخلق مطبقين على أنك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فكل ما مده قلمي، أو خطر ببالي، فأستشهد وأقول، إن علمت مني أني أردت به تحقيق باطل، أو إبطال حق، فافعل بي ما أنا أهله، وإن علمت مني إني ما سعيت إلا في تقديسٍ اعتقدت أنه الحق، وتصورت أنه الصدق، فلتكن رحمتك مع قصدي لامع حاصلي، فذاك جهد المقل، وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف الواقع في زلة، فأغثني، وارحمني، واستر زلتي، وامح حوبتي، يا من لا يزيد ملكه عرفان العارفين، ولا يَْنقُصُ ملكُه بخطأ المجرمين.
وأقول: ديني متابعة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما، اللهم يا سامع الأصوات ويا مجيب الدعوات، ويا مقيل العثرات، أنا كنت حسن الظن بك، عظيم الرجاء في رحمتك، وأنت قلت: ” أنا عند ظن عبدي بي” وأنت قلت: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه)[1]، فهب أني ما جئت بشيء، فأنت الغني الكريم، فلا تخيب رجائي، ولا ترد دعائي، واجعلني آمنا من عذابك، قبل الموت، وبعد الموت، وعند الموت، وسهل عَلَيَّ سكرات الموت، فإنك أرحم الراحمين.
وأما الكتب التي صنفتها، واستكثرت فيها من إيراد السؤالات، فليذكرني من نظر فيها بصالح دعائه، على سبيل التفضل والإنعام، وإلا فليحذف القول السيء، فإني ما أردت إلا تكثير البحث، وشحذ الخاطر، والاعتماد في الكل على الله.
فهذا نص وصية الإمام الرازي، فانظر أيها المنصف هل فيها غير ما ذكرناه، وهل فيها الرجوع عن عقيدة كان عليها الرازي قبل؟؟!![2]
20- هل انتقد الحافظ ابن حجر الأشاعرة وخالفهم؟
قال الدكتور: {والأخرى: أن الحافظ في الفتح قد نقد الأشاعرة بإسمهم الصريح وخالفهم فيما هو من خصائص مذهبهم، فمثلا خالفهم في الإيمان، وإن كان تقريره لمذهب السلف فيه يحتاج لتحرير، ونقدهم في مسألة المعرفة وأول واجب على المكلف في أول كتابه وآخره.
وكتب في التعليق “أنظر فتح الباري: 1/46، 3/357- 361، 13/347-350”}
أقول: أنا أدعو القراء لقراءة هذه الصفحات من فتح الباري بتمعن كي يتحققوا من مدى صحة دعاوى الدكتور سفر هذه.!!
ثم إنه أشهر من نار على علم أن الحافظ ابن حجر أشعري العقيدة، ومن أجل ذلك يصرح كثيرٌ ممن هم على مذهب الدكتور سفر تارةً بأنه ليس على نحلتهم، وتارةً بأنه ليس من أهل السنة وتارةً بأنه أشعري، وتارةً بأنه متمشعر، وتارةً بأنه مذبذب، وتارةً بأنه متأثرٌ بالأشاعرة عن جهل وسذاجة، وقال قائلهم في معرض ذكر فتح الباري شرح صحيح البخاري: (يسر الله من أهل السنة من يشرحه) وألف آخر كتابا سماه: “الأخطاء الأساسية في العقيدة وتوحيد الألوهية من كتاب فتح الباري بشرح صحيح البخاري” تأليف أحمد بن حجر العسقلاني. هكذا: الأخطاء الأساسية في العقيدة.
والحقيقة التي لا ينبغي أن يختلف فيها اثنان أن الحافظ ابن حجر في عامة أحواله أشعري، ولكنه إمام مجتهد قد يخالف الأشاعرة في بعض المسائل على عادة علماء المذاهب الذين قد يخالفون أئمتها في بعض المسائل، ومع ذلك لا يعتبرون خارجين عن المذهب.
قال الدكتور: {كما أنه نقد شيخهم في التأويل ” ابن فورك” في تأويلاته التي نقلها عنه في شرح كتاب التوحيد من الفتح، وذم التأويل والمنطق مرجحا منهج القرون الثلاثة الأولى، كما أنه يخالفهم في الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة وغيرها من الأمور التي لا مجال لتفصيلها هنا}
[1] النمل 62
[2] الطبقات 8/90-91-92