بيان قول الأشاعرة: إن الله تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله
71 – بيان قول الأشاعرة: إن الله تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله:
قال الدكتور: {قالوا بأن رفع النقيضين محال –وهو كذلك- محتجين بها في مسائل، ثم قالوا في صفة من أعظم وأبين الصفات (العلو): إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن شماله… وقالوا عن الأحوال: هي صفات لا معدومة ولا موجودة، فرفعوا النقيضين معا}
أقول: أشار الدكتور بهذه الفقرة من كلامه إلى أربع مسائل: الأولى: أن رفع النقيضين محال، والثانية: أن الله ليس داخل العالم ولا خارجه، والثالثة: أن الله ليس فوق العالم ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله، والرابعة: مسألة الأحوال.
فنتكلم عليها واحدة واحدة، فنقول: أما أن رفع النقيضين محال فهذا من مقررات العقول وبديهياتها، لكنه كثيرا ما يلتبس على بعض الناس النقيضين بالضدين فيحكمون على الضدين بحكم النقيضين فيتورطون في الخطأ. وهذا ما تورط فيه الدكتور!
فأقول: الضدان هما الشيئان اللذان لا يمكن اجتماعهما معا في آن واحد على محل واحد، وكذلك الأضداد، ويجوز ارتفاعهما أو ارتفاعها معا. وذلك كالألوان، فإنه يمتنع أي لا يمكن اجتماعها في محل واحد، ولا يمكن اجتماع اثنين منها أيضا، وأما ارتفاعها فممكن كما في اللالونى ومنه الماء والريح والروح والعقل والله تعالى.
وأما النقيضان فهما الأمران اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان. أي إن اجتماعهما في محل واحد في وقت واحد محال وممتنع عقلا وكذلك ارتفاعهما أي لا بد من أن يتصف الموجود بواحد منهما، ولا يجوز ارتفاعهما معاً عن الموجود، بأن لا يتصف الموجود بواحدٍ منهما. والتناقض لا يكون إلا بين شيئين فقط: وهما إثبات الشيء ونفيه. وذلك كالزوجية واللازوجية للعدد، فإن العدد إما زوج أو لا زوج وهو الفرد، وأما التضاد فيكون بين شيئين، وبين أشياء كاللونين والألوان.
وبعد هذا التمهيد نقول: الذي جوَّزه الأشاعرة مما ذكره الدكتور إنما هو من قبيل رفع الضدين، وليس من قبيل رفع النقيضين حتى يكون محالا، وبيان ذلك كما يلي:
إن الأشاعرة أرادوا بقولهم: «إن الله تعالى ليس بداخل العالم» نفي الحلول والإتحاد والممازجة، وإثبات المباينة لله تعالى عن العالم، كما قال الإمام أبو الحسن الأشعري وغيره من أئمة أصول الدين: «إن الله تعالى بائنٌ عن خلقه»، فإن الله تعالى لم يخلق العالم في نفسه، ولا حل فيه بعد أن خلقه، فكان مبايناً له. وأرادوا بقوله: «ولا خارجه» نفي الابتعاد بالمسافة ونفي الجهة، فليس في هذا الكلام رفع للنقيضين وذلك لأن كون الشيء داخل الشيء، وكونه خارجه، بمعنى الابتعاد عنه بمسافة وكونه في جهة منه، ضدان لا يجوز العقل اجتماعهما، ويجوز ارتفاعهما في اللامكاني، والله تعالى لا مكاني، كما يجوز ارتفاع الألوان كلها عن اللالوني، وليسا بنقيضين لا يجوز اجتماعهما ولا ارتفاعهما. وإنما النقيضان اللذان لا يجوز اجتماعهما ولا ارتفاعهما هو كون الشيء داخل الشيء ولا داخلا فيه، وكونه خارجا عنه ولا خارجا عنه، ولم يقل أحد من الأشاعرة: إن الله تعالى داخل العالم ولا داخله، ولا أنه تعالى خارج العالم ولا خارجه حتى يكونوا جامعين بين النقيضين أو رافعين لهما. ويقال نفس الشيء في قول الأشاعرة: (إن الله تعالى لا فوق العالم ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن شماله) وذلك أن الفوق والتحت واليمين والشمال من الأضداد لا يجوز اجتماعها، ويجوز ارتفاعها كلها كما في اللامكاني، ولو كان الأشاعرة قالوا: إن الله تعالى فوق العالم ولا فوقه… الخ لكان قولاً بالجمع بين النقيضين الذي قالوا بامتناعه.
ونظير هذا أنه يجوز لك أن تقول في حق الحجر والشجر: إنهما ليسا بجاهلين كما أنهما ليسا بعالمين، وإنهما ليسا بأعميين كما أنهما ليسا بمبصرين، وذلك لأن الجهل عدم العلم عما من شأنه أن يكون عالما، وأن العمى عدم الإبصار عما من شأنه أن يكون مبصرا، وأما ما ليس من شأنه أن يكون عالما، ولا من شأنه أن يكون مبصرا كالحجر والشجر فكما لا يوصف بالعلم والإبصار لا يوصف بالجهل والعمى أيضا، فالعلم والجهل ضدان لا يجتمعان وقد يرتفعان، وكذلك العمى والإبصار، ومن هذا القبيل قول الأشاعرة المذكور.
فظهر بهذا البيان خطأ قول من قال: إنه لا فرق بين قول الأشاعرة «إن الله تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن شماله» وبين قول من يقول: إن الله تعالى غير موجود. وأن منشأ هذا الخطأ عدم تفرقة هذا القائل بين النقيضين والضدين.
وقد كتبت رسالة في مسألة العلو والفوقية لله تعالى، فرأيت من المناسب أن أوردها هنا. وهذا نص الرسالة
72- العلو والفوقية لله تعالى:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عقائد أهل السنة أن الله تعالى منزه عن الجهة والمكان،
فنورد أولا ما استدلوا به على المسألة، ثم نشرح ست كلمات متعلقة بها، ثم نحقق المسألة، ونحاول بذلك الجمع بين قول القائلين بالجهة وقول القائلين بتنزه الله تعالى عنها.
[الدلائل على أن الله تعالى منزه عن الجهة]
1- قال النسفي في شرح العمدة استدلالا على ذلك: الصور والجهات مختلفة، واجتماعها عليه تعالى مستحيل لتنافيها في أنفسها، وليس البعض أولى من البعض لاستواء الكل في إفادة المدح والنقص وعدم دلالة المحدثات عليه، فلو اختص بجهة لكان بتخصيص مخصص وهذا من أمارات الحدوث.
2- وقال السبكي: صانع العالم لا يكون في جهة لأنه لو كان في جهة لكان في مكان ضرورة أنها المكان أو المستلزمة له، ولو كان في مكان لكان متحيزاً، ولو كان متحيزاً لكان مفتقراً إلى حيزه ومكانه، فلا يكون واجب الوجود، وثبت أنه واجب الوجود، وهذا خلف.
3- وأيضاً لو كان في جهة فإما في كل الجهات، وهو محال وشنيع، وإما في البعض فيلزم الاختصاص المستلزم للافتقار إلى المخصص المنافي للوجوب. نقل كلام النسفي والسبكي الزبيدي في “ إتحاف السادة المتقين 2/104.
4- ومن الدليل على تنزه الله تعالى عن الجهة والمكان من السنة ما رواه مسلم في صحيحه (4/2804) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم كان يقول في دعائه:
((اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر) قال الإمام الحافظ البيهقي في “ الأسماء الصفات “ ص41: استدل بعض أصحابنا بهذا الحديث على نفي المكان عن الله، فإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان.
[الكلمات المتعلقة بالمسألة]
ونشرح هنا ست كلمات متعلقة بهذه المسألة يكثر دورانها ويقع الاشتباه والزلل فيها، يكون شرحها مساعدا لتحقيق المسألة وفهمها وهي “ لفظ الجهة “ و “ أنه تعالى فوق عرشه “ وأنه “ بائن عن خلقه “ و “ أنه تعالى ليس بداخل العالم ولا خارجه “ و “ أنه استوى على العرش “ . و “ أنه تعالى في السماء “ .
1- أما لفظ الجهة فلم يقع ذكره في حق الله تعالى في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، ولا في لفظ صحابي أو تابعي، ولا في كلام أحد ممن تكلم في ذات الله تعالى وصفاته سوى إقحام المجسمة، قاله الكوثري في تكملة الرد على نونية ابن القيم (117) وقال في صفحة (54).
2- وأما لفظ أنه تعالى فوق عرشه فلم يرد مرفوعاً إلا في بعض طرق حديث الأوعال من رواية ابن منده في كتاب التوحيد وأسانيده مثخنة بالجراح، بل خبر الأوعال ملفق من الإسرائيليات كما نص عليه أبو بكر بن العربي في شرح سنن الترمذي.
3- وأما أنه تعالى بائن عن خلقه فقد نقل البيهقي في “ الأسماء والصفات 411 “ عن أبي الحسن الأشعري أنه قال: إن الله مستوٍ على عرشه، وأنه فوق الأشياء بائن منها بمعنى أنها لا تحله ولا يحلها، ولا يمسها ولا يشبهها، وليست البينونة بالعزلة تعالى الله عن الحلول والمماثلة علواً كبيراً.
يعني أن البينونة التي أثبتها الإمام أبو الحسن وغيره لله تعالى بمعنى نفي الممازجة والاختلاط وليست بمعنى الاعتزال والتباعد، لأن المماسة والمباينة التي هي ضدها –كما قال- من أوصاف الأجسام، والله عز وجل أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.
فلا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام.
وقال العلامة المحقق محمد زاهد الكوثري في تكملة الرد على نونية ابن القيم (53-54):
ولفظ “ بائن عن خلقه “ لم يرد في كتاب ولا سنة، وإنما أطلقه من أطلقه من السلف بمعنى نفي الممازجة رداً على جهم، (يعنى في قوله: إن الله في كل مكان) لا بمعنى الابتعاد بالمسافة تعالى الله عن ذلك، ذكره البيهقي في الأسماء والصفات.
4- أقول: وهذا معنى قول المتكلمين: (إن الله تعالى لا يكون داخل العالم) قصدوا به نفي الممازجة لتعاليه تعالى عن الحلول والاتحاد، وأما قولهم: (ولا خارجاً عنه) فقد قصدوا به نفي الجهة ونفي الابتعاد بالمسافة، أشار إليه البياضي في إشارات المرام (197) وإلا فمن الضروري أن الذي لا يكون داخل العالم يكون بائناً عنه وخارجاً عنه.
5- وأما أنه تعالى استوى على العرش فقد قال البيهقي في “الأسماء والصفات” (396-397) وليس معنى قول المسلمين: إن الله استوى على العرش هو أنه مماس له أو متمكن فيه أو متحيز في جهة من جهاته لكنه بائن من جميع خلقه، وإنما خبر جاء به التوقيف. فقلنا به، ونفينا عنه التكييف، إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وسننقل كلام الإمام الأشعري في الاستواء في آخر هذه الرسالة.
6- وأما أن الله تعالى في السماء فقد قال ابن تيمية: ومن توهم أن كون الله تعالى في السماء بمعنى أن السماء تحيط به أو تحويه أو أنه محتاج إلى مخلوقاته، أو أنه محصور فيها، فهو مبطل كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه فإنه لم يقل به أحد من المسلمين، بل لو سئل العوام هل تفهمون من قول الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله في السماء أن السماء تحويه؟ لبادر كل واحد منهم بقوله: هذا شيء لم يخطر ببالنا، بل عند المسلمين أن معنى كون الله تعالى في السماء وكونه على العرش واحد، بمعنى أن الله تعالى في العلو لا في السفل.
نقل هذا الكلام عن ابن تيمية زين الدين مرعي بن يوسف الكرمي في كتابه “ أقاويل الثقات (94)
[ شرح المسألة وإيضاحها ]
ونتكلم هنا على المسألة من ثلاث جهات: من جهة التحقيق، فنحقق المسألة، ثم نتكلم عنها من جهة حكم الوهم فيها، ثم نتكلم عليها من جهة العرف
[ تحقيق المسألة ]
أقول: قد شرح العلامة زين الدين الكرمي في كتابه (أقاويل الثقات) قول القائلين بالجهة والعلو بوجه جيد لا يخالف مذهب النافين لهما من أهل السنة، فقال:
القائل بالجهة يقول: إن الجهات تنقطع بانقطاع العالم، وتنتهي بانتهاء آخر جزء من الكون، والإشارة إلى الفوق تقع على أعلى جزء من الكون حقيقة.
ومما يحقق هذا أن الكون الكلي لا في جهة لأن الجهات عبارة عن المكان.
والمكان الكلي لا في مكان، فلما عدمت الأماكن من جوانبه لم يقل: إنه يمين، ولا يسار، ولا قدام، ولا وراء، ولا فوق ولا تحت.
وقالوا: إن ما عدى الكون الكلي وما خلا الذات القديمة ليس بشيء، ولا يشار إليه، ولا يعرف بخلاء ولا ملاء، وانفرد الكون الكلي بوصف التحت، لأن الله تعالى وصف نفسه بالعلو وتمدح به.
وقالوا: إن الله أوجد الأكوان لا في محل وحيِّز، وهو في قدمه تعالى منزه عن المحل والحيِّز، فيستحيل شرعاً وعقلاً عند حدوث العالم أن يحل فيه، أو يختلط به، لأن القديم لا يحل في الحادث وليس محلاً للحوادث، فيلزم أن يكون بائناً عنه، فإذا كان بائناً عنه، يستحيل أن يكون العالم من جهة الفوق والرب في جهة التحت، بل هو فوقه بالفوقية اللائقة التي لا تكيف ولا تمثل، بل تعلم من جهة الجملة والثبوت، لا من جهة التمثيل والكيف، فيوصف الرب بالفوقية كما يليق بجلاله وعظمته، ولا يفهم منها ما يفهم من صفات المخلوقين.
وقالوا: إن الدليل القاطع دل على وجود الباري وثبوت ذاته بحقيقة الثبوت. وأنه لا يصلح أن يماس المخلوقين أو تماسه المخلوقات، حتى إن الخصم يسلم أنه تعالى لا يماس الخلق. انتهى.
وهذا التوجيه الذي ذكره الكرمي ناسباً له إلى القائلين بالجهة توجيه جيد يجمع بين قول القائلين بالجهة، وقول القائلين بتنزه الله تعالى عنه، ويرتفع به ما وقع بين الفرق الإسلامية من الخلاف والنزاع الذي أدى بها إلى الفرقة والشحناء والبغضاء.
وقد أشار إلى هذا الوجه القاضي عضد الدين الإيجي في كتابه المواقف. قال: ومنهم –أي من القائلين بالجهة- من قال ليس كونه في جهة ككون الأجسام في جهة. قال السيد الشريف الجرجاني في شرحه (8/19). والمنازعة مع هذا القائل راجعة إلى اللفظ دون المعنى، والإطلاق اللفظي متوقف على ورود الشرع به. انتهى.
وحاصل هذا التوجيه أن الله تعالى ليس داخل العالم مختلطاً به ممازجاً إياه، كما أن العالم ليس بداخل فيه لأن الله تعالى لم يخلق العالم في نفسه وإنما خلق العالم خارجاً عن نفسه، كما أنه تعالى لم يحل فيه بعد أن خلقه، وإلا لزم الممازجة والمخالطة والحلول والاتحاد وقيام الحوادث به تعالى وهذه الأمور منتفية عن الله تعالى بالإجماع.
بل الله تعالى بائن عن العالم ليس داخلاً فيه، وليس في جهة منه.
وذلك لأن الجهات تنقطع بانقطاع العالم، وتنتهي بانتهاء آخر جزء منه، فلا يوصف العالم –وهو الكون الكلي بجملته- بأن له يميناً ولا يساراً، ولا قداماً ولا خلفاً، ولا فوقاً ولا تحتاً، كما لا يوصف الله تعالى بذلك، فلا يكون الله في جهة منه كما لا يكون هو في جهة من الله تعالى.
وقد وصف الله تعالى نفسه بالعلو والفوقية وتمدح بهما، فنثبتهما له تعالى على أنهما وصف مدح له تعالى، وبالمعنى اللائق به تعالى الذي لا يمثل ولا يكيف، ونعتقد العلو والفوقية لله تعالى من جهة الجملة والثبوت، مع نفي التمثيل والتكييف، فنعتقد وصف الرب بالعلو والفوقية كما يليق بجلاله وعظمته، بدون أن نفهم منها ما يفهم من صفات المخلوقين. قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري(6/136): ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محالاً على الله تعالى أن لا يوصف بالعلو لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى والمستحيل كون ذلك من جهة الحس، ولذلك ورد في صفته العالي والعلي والمتعالي ولم يرد ضد ذلك. انتهى. هذا بحسب التحقيق.
والحاصل أن الذين نفوا الجهة عن الله تعالى نفوها عنه بمعنى أن يكون في جهة معينة من العالم، وأما الذين أثبتوا الفوقية لله تعالى فلم يريدوا أنه تعالى في جهة معينة من العالم، بل أرادوا أنه تعالى بائن عن العالم وليس بداخل فيه، وأنه فوقه بالفوقية اللائقة بعزته وجلاله التي لا تمثل ولا تكيف، وتعلم من جهة الجملة والثبوت لا من جهة التمثيل والكيف، ولا يفهم منها ما يفهم من صفات المخلوقين وفوقيتهم. والفوقية بهذا المعنى لله تعالى وكذلك البينونة مما يثبته الفريق الأول لله تعالى. والذي ينفونه إنما هو الفوقية بمعنى الكون في جهة معينة من العالم التي هي من صفات المخلوقين. وهذه الفوقية لم يثبتها الفريق الثاني بل قد نفوها عن الله تعالى، فلم يتوارد نفي الجهة عن الله تعالى ممن نفاها وإثباتها ممن أثبتها على معنى واحد، فليس بينهما خلاف في الحقيقة، بناء على هذا التحقيق، بل خلافهم يعود إلى اللفظ، وأما الحقيقة فالفريقان متفقان فيها، فقد أثبت كل من الفريقين ما أثبته الفريق الآخر، ونفى ما نفاه.
2- [ حكم الوهم بالعلو والفوقية لله تعالى ]
وأما الوهم فيحكم بأن ما وراء العالم فوق له، والله تعالى بائن عن خلقه ليس بداخل فيه، فيحكم الوهم بأنه فوقه، فالفوقية بحسب حكم الوهم تؤول إلى البينونة التي أثبتها العلماء لله تعالى، وهذه الفوقية الوهمية هي المركوزة في فطرة كل إنسان.
لا يذكر أحد من بني آدم الله تعالى إلا وهو يشعر بفوقيته تعالى.
وهي فوقية يحكم بها الوهم مخالفاً لحكم العقل كما هو الحال في معظم أحكام الوهم، فإن معظم أحكامه مخالفة لحكم العقل، ومن أجل ذلك عدَّ المناطقة القياس المؤلف من القضايا الوهمية من الأقيسة التي لا تفيد اليقين، وسموا هذا القياس بالمغالطة والسفسطة.
وقالوا: إن النفس أطوع للوهميات منها لليقينيات: مثال ذلك أن العقل يحكم بأن الميت لا يخاف منه لأنه جماد وكل جماد لا يخاف منه، وأما الوهم فيحكم بأن الميت يخاف منه مخالفاً للعقل فالإنسان مع تيقنه بحكم العقل لا يطيعه ولا ينقاد له، وإنما ينقاد لحكم الوهم فيخاف من الميت،
وكثيراً ما تلتبس الوهميات باليقينيات عند الإنسان فيعتقد الوهميات يقينيات ويجزم بها كجزمه باليقينيات حتى يتبين له بالدليل بطلانها، فيحكم ببطلانها ومع ذلك يبقى منقاداً لها. ومن هذا القبيل الفوقية لله تعالى، فإن معظم بني آدم جازمون بها اتباعاً لحكم الوهم وانقيادا له وعندما يتبين لبعض العلماء بالدليل القطعي بطلانها يحكم ببطلانها ومع ذلك يبقى شاعراً بها في قرار نفسه.
ومن أجل صعوبة التخلص من هذا الحكم الوهمي رخَّص النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في اعتقاد الجهة في حديث الجارية حينما سألها أين الله؟ فقالت: في السماء، فقال: صلى الله تعالى عليه وسلم، إنها مؤمنة، ولم ينكر عليها، ولكنه لم يقل: إنها صادقة، أو إنها على الحق، أو نحو هذا الكلام مما يفيد أن ما اعتقدته حق.
ومن أجل ذلك لم يحكم علماء أهل السنة بكفر معتقد الجهة لله تعالى، وقالوا إن هذا الاعتقاد مَعْفُوٌّ للعوام
وأما امتناعه صلى الله تعالى عليه وسلم عن بيان بطلان هذه العقيدة للجارية وعن بيان الحق في المسألة لها فلأن بيان الحق فيها يحتاج إلى فلسفة لم تكن الجارية أهلاً لأن تفهمها، كما أنها لم تكن مكلفة باعتقاد نفي الجهة عن الله تعالى، وقد أمر صلى الله عليه وسلم أن يكلم الناس على قدر عقولهم، فلم يكن هذا الامتناع من تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهو ليس بجائز عليه صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن هذا البيان ليس من البيان الواجب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم حتى يكون تأخيره عن وقت الحاجة ممتنعاً عليه صلى الله تعالى عليه وسلم.
3- [ الفوقية العرفية لله تعالى ]
ثم إننا إذا صرفنا النظر عن التدقيق الفلسفي الذي قررنا به نفي الجهة عن الله تعالى فمما لا ريب فيه ولا ينبغي أن يختلف فيه اثنان أن ما وراء العالم فوقٌ لبني آدم كلهم بحسب العرف كما أنه فوقٌ لهم بحسب الوهم، لأنه مقابل لرؤوسهم كما أن الأرض تحتٌ لهم لأنها مقابلةٌ لأرجلهم، وإن لم يكن فوقاً لهم بحسب التحقيق الذي نقله الكرمي عن القائلين بالجهة، لانقطاع الجهات بانقطاع العالم، والعرف هو الذي يقع به التخاطب في اللغة بين أهلها دون التدقيقات الفلسفية؛ والله تعالى بائن عن خلقه فهو فوقه بحسب العرف، فالفوقية العرفية كالفوقية الوهمية تؤول إلى البينونة التي أثبتها العلماء لله تعالى،فالمعبر عنه بالبينونة في كلام العلماء هو المعبر عنه بالفوقية والعلو أو بما يفيدهما في كلام الشارع.
وبهذا المعنى قال الإمام أبو الحسن الأشعري: فيما نقله عنه البيهقي: (وإنه فوق الأشياء بائنٌ منها) ومن أجل ذلك لم ينكر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على الجارية إشارتها إلى فوق.
وبهذا المعنى جاء إثبات العلو والفوقية لله في نصوص الكتاب والسنة مما يصعب حصره، وهذه النصوص وإن كان حمل بعضها على الفوقية بحسب المكانة والعلو بحسب الرتبة مما لا بأس به لكن حمل بعضها الآخر على ذلك مما يأباه المقام والسياق؛ فنتثبت العلو والفوقية لله تعالى بهذا المعنى، بدون كيف ولا تمثيل ونتوقف عنده، ولا نتجاوزه إلى التفاصيل التي لم يرد بها شيء من الكتاب والسنة ونعترف بالعجز عما وراء ذلك.
ونورد هنا نبذة من نصوص الكتاب والسنة التي ورد فيها إثبات الفوقية والعلو لله تعالى، قال الله تعالى: (يخافون ربهم من فوقهم)، وقال: (إليه يصعد الكلم الطيب).
وقال: (أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا) وقال: ( تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء) أخرجه الترمذي وقال: حسن.
وقال: ( من اشتكى منكم شيئا أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا ألذي في السماء تقدس اسمك…) أخرجه أبو داود.
وقال: (الا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر من في السماء صباحا ومساء) أخرجه البخاري ومسلم.
وقال: (والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشها فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها) أخرجه الشيخان.
وقال: (إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي سبقت غضبي فهو عنده فوق العرش). أخرجه الشيخان، إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة الواردة في ذلك.
وقد تقدم قول ابن تيمية أن معنى كون الله تعالى في السماء وكونه على العرش واحد. وهو أن الله تعالى في العلو لا في السفل. وتقدم أن قلنا: إن وصف العلو لله تعالى يؤل إلى البينونة التي أثبتها العلماء لله تعالى.
ونختم بحثنا هذا بإيراد نص للإمام أبي الحسن الأشعري قال رحمه الله تعالى في كتاب “ الإبانة “ صـ (71): وأن الله استوى على العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده استواءً منزهاً عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى فوقية لا تزيده قرباً إلى العرش والسماء، وهو رفيع الدرجات عن العرش كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شيء شهيد.
وهذا النص من الإبانة ليس بموجود في النسخ المطبوعة المتداولة، وهو ثابت في مخطوطة نسخة بلدية الإسكندرية، وقد قامت بتحقيقها الدكتورة فوقية حسين محمود، وطبعت الطبعة الأولى منها بدار الأنصار بالقاهرة، والطبعة الثانية بدار الكتاب للنشر والتوزيع بالقاهرة.
والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.