بيان ما تورط فيه الدكتور من الأخطاء في مسألة القرآن
47 – بيان ما تورط فيه الدكتور من الأخطاء في مسألة القرآن
وبعد هذا الجولة في بيان مذهب أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية وغيرهم في كلام الله تعالى نعود إلى كلام الدكتور لنبين كم حواه من أخطاء، فنقول:
الخطأ الأول والثاني: ما حواه قوله: “أما مذهب الأشاعرة فمن منطلق التوفيقية التي لم يحالفها التوفيق فرقوا بين المعنى واللفظ”.
الخطأ الأول: أن الدكتور نسب التفرقة بين المعنى واللفظ إلى كل الأشاعرة يعنى أنهم كلهم قالوا: إن المعنى قديم واللفظ حادث. وقد بينا أن هذا هو مذهب جمهور الأشاعرة، وأن فريقا من المحققين منهم ذهب إلى قدم اللفظ كالمعنى.
الخطأ الثاني: ما ادعاه الدكتور من أن تفرقتهم بين اللفظ والمعنى إنما هو من منطلق التوفيق بين مذهب أهل السنة ومذهب المعتزلة، وهو غير صحيح. فمن المعلوم لكل ملم بمذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة ومذهب غيرهما من الفرق الإسلامية أن مذهب الأشاعرة أبعد المذاهب عن مذهب المعتزلة، أو من أبعدها عنه.
حتى أنه قد يتخيل للباحث أن بعض آراء الأمام الأشعري رد فعل نفسي لمذهب المعتزلة.
فالأشاعرة لم يذهبوا إلى شيء مما ذهبوا إليه من الآراء من منطلق التوفيق، بل إنما ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه لأن الدليل أداهم لذلك. نعم لمن لا يوافقهم على ما أداهم إليه الدليل أن يناقشهم في ذلك.
الخطأ الثالث: قوله: (فالكلام الذي يثبتونه لله تعالى هو معنى أزلي أبدي قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت) أقول: نعم قد أثبتوا الكلام بهذا المعنى لله تعالى، لكن الخطأ في كلام الدكتور في الحصر، فقد بينا أن الأشاعرة قد أثبتوا لله تعالى الكلام اللفظي أيضا على وجه الحقيقة، لكنهم اختلفوا في قدمه وحدوثه.
الخطأ الرابع: قوله: (…. ولا يوصف بالخبر والإنشاء) حيث إنهم اتفقوا على أن كلام الله تعالى يوصف بالخبر والإنشاء، فقال بعضهم: يوصف بهما في الأزل، وقال آخرون: يوصف بهما فيمالا يزال.
الخطأ الخامس والسادس: قوله:{واستدلوا بالبيت المنسوب للأخطل النصراني:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما :: جعل اللسان على الفؤاد دليلا}
الأول: أن سياق كلام الدكتور يوهم أن الأشاعرة استدلوا بكلام النصراني على أمر من أمور العقيدة -معاذ الله-، مع أن استدلالهم به إنما هو على مسألة لغوية، وهي أن الكلام يطلق في اللغة على الكلام النفسي، وإن كان مراده الإنكار على الاستدلال بكلام الأخطل على هذه المسألة اللغوية فهو أيضا خطأ، وليست نصرانية الأخطل بمانعة من الاحتجاج بكلامه و شعره في اللغة، فالمشركون من الشعراء واليهود والنصارى منهم يحتج بأشعارهم، ولا زال أئمة اللغة يحتجون بها.بل معظم احتجاجهم بكلام غير المسلمين من شعراء الجاهلية
الثاني: أن كلامه يوهم أن الأشاعرة لم يستدلوا على المسألة إلا ببيت الأخطل، وقدعلمت انهم قد استدلوا عليها بالكتاب والسنة وكلام أقحاح العرب كما تقدم.
الخطأ السابع: قوله: {أما الكتب المنزلة ذات الترتيب والنظم والحروف –ومنها القرآن- فليست هي كلام الله على الحقيقة بل هي عبارة عن كلام الله النفسي}
وقد قدمنا أن كلام الله وكذلك القرآن يطلق على وجه الحقيقة لا المجاز على المعنى النفسي القديم القائم بالله تعالى، وعلى النظم المنزل المعجز المفصل إلى السور والآيات، وتأييدا لما قلناه ننقل كلام سعد الدين التفتازاني فيه. قال في “شرح العقائد النسفية”: «فإن قيل: لو كان كلام الله حقيقة في المعنى القديم مجازا في النظم المؤلف لصح نفيه، بأن يقال: ليس النظم المنزل المعجز المفصل إلى السور والآيات كلام الله تعالى، والإجماع على خلافه، وأيضا المعجز المتحدى به هو كلام الله حقيقة، مع القطع بأن ذلك إنما يتصور في النظم المؤلف المفصل إلى السور، إذ لا معنى لمعارضة الصفة القديمة.
قلنا: التحقيق أن كلام الله تعالى اسم مشترك بين كلام الله النفسي القديم، ومعنى الإضافة (إلى الله) كونه صفة له، وبين اللفظي الحادث المؤلف من السور والآيات، ومعنى الإضافة أنه مخلوق الله تعالى ليس من تأليفات المخلوقين، فلا يصح النفي أصلا، ولا يكون الإعجاز والتحدي إلا في كلام الله تعالى. وما وقع في عبارة المشايخ من أنه مجاز في النظم فليس معناه أنه غير موضوع للنظم المؤلف، بل معناه أن الكلام في التحقيق وبالذات اسم للمعنى القائم بالنفس، وتسمية اللفظ به ووضعه لذلك إنما هو باعتبار دلالته على المعنى، فلا نزاع لهم في الوضع والتسمية» هذا كلام السعد.
الخطأ الثامن: قوله: {والمعنى النفسي شيء واحد في ذاته لكن إن جاء التعبير عنه بالعبرانية فهو توراة وإن جاء بالسريانية فهو إنجيل، وإن جاء بالعربية فهو قرآن}
هذا صحيح لو كان نسبة هذا القول إلى جمهور الأشاعرة لا إلى كلهم، والخطأ في نسبته إلى الأشاعرة كلهم، وقد قدمنا أن فريقا من المحققين من الأشاعرة على أن كلام الله عبارة عن اللفظ والمعنى، وعلى هذا المذهب لا يكون الكلام أمرا واحدا، بل يكون أمورا متكثرة منه سرياني ومنه عبراني ومنه عربي، وكله قديم قائم بالله عند هذا الفريق.
الخطأ التاسع والعاشر والحادي عشر: قوله: {فهذه الكتب كلها مخلوقة، ووصفها بأنها كلام الله مجاز، لأنها تعبير عنه}
الخطأ الأول: حكمه بأن هذه الكتب كلها مخلوقة عند الأشاعرة، الخطأ الثاني نسبة هذا القول إلى الأشاعرة كلهم، مع أن كتاب الله ككلام الله يطلق عند الأشاعرة على المعنى النفسي وعلى الألفاظ، وهو بالمعنى النفسي لا خلاف عندهم في أنه قديم، وقد اختلفوا في الكتاب بمعنى الألفاظ فالجمهور على حدوثه، وفريق منهم على أنها أيضا قديمة.
الخطأ الثالث: قوله: (ووصفها بأنها كلام الله تعالى مجاز) وقد تقدم بيانه آنفا.
الخطأ الثاني عشر: قوله: {واختلفوا في القرآن خاصة فقال بعضهم: إن الله خلقه أولا في اللوح المحفوظ، ثم أنزله في صحائف إلى سماء الدنيا فكان جبريل يقرأ هذا الكلام المخلوق، ويبلغه محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وقال آخرون: إن الله أفهم جبريل كلامه النفسي، وأفهمه جبريل لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم}
أقول: ليس ههنا أي اختلاف، بل قول من قال: (إن الله خلقه أولا في اللوح المحفوظ… إلخ) منزل على القرآن بمعنى الألفاظ والنظم المؤلف. وهذا كلام جمهور الأشاعرة القائلون بأن الألفاظ حادثة، وليس قولا للقائلين منهم بأنها قديمة، وأما أن الله تعالى أفهم جبريل كلامه النفسي… إلخ فهو كلام الأشاعرة كلهم، وهو منزل على المعنى النفسي، ولنا أن نقول: إنه كلام جمهورهم أيضا إن كان المراد أفهمه الكلام النفسي فقط بدون الألفاظ، وهو المناسب بمقابلة هذا الكلام بسابقه، وهو أن الله خلقه أولا في اللوح المحفوظ… إلخ فأين الاختلاف الذي قاله الدكتور؟!
الخطأ الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر: قوله: {فالنزول نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال لأنهم ينكرون علو الله}
الخطأ الأول: نسبت الدكتور إلى الأشاعرة على وجه الإنكار، أن النزول للقرآن عندهم نزول إعلام وإفهام، لا نزول حركة وانتقال، فالنسبة صحيحة والخطأ هو الإنكار لذلك، وذلك لأن الحركة والانتقال من صفات الأجسام، ولا يتصور ذلك في كلام الله تعالى، ثم إن معنى الانتقال المزايلة والانفصال، وهو لا يجوز على صفات الله، وهل زايل القرآن ذات الله تعالى وانفصل عنه حين نزل؟! ومعنى هذا أن الله تعالى قد بقي بعد نزول القرآن بدون صفة الكلام. سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وراجع ما نقلناه آنفا عن إمام الحرمين في معنى الإنزال.
والخطأ الثاني: قوله:(لأنهم ينكرون علو الله) هم لا ينكرون علو الله تعالى، كيف، وهم لا يذكرون الله تعالى إلا ويقرنونه بقولهم: (تعالى) من العلو، والذي ينكرونه هو ثبوت الجهة لله، وهو الذي أنكره السلف والخلف.
والخطأ الثالث: حكم الدكتور بأن قول الأشاعرة بأن نزول القرآن نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال، مبني على انكارهم العلو لله تعالى، وقد علمت بأنه ليس بمبني عليه، بل هو مبني على أن الحركة والانتقال لا يتصوران بالنسبة إلى الكلام، وعلى أن الانتقال لا يجوز على صفات الله تعالى.
الخطأ السادس عشر: قول الدكتور: {ثم اختلفوا في الذي عبر عن الكلام النفسي بهذا اللفظ. والنظم العربي من هو؟. فقال بعضهم: هو جبريل، وقال بعضهم: بل هو محمد صلى الله تعالى وآله وسلم}
أقول: قدمنا أن مذهب الأشاعرة أن القرآن معناه ولفظه كلام الله على الحقيقة لا المجاز، وأنهم قد اختلفوا في القرآن بمعنى اللفظ المعجز المنزل هل هو قديم قائم بالله كالمعنى، أو أنه حادث تولى الله تخليقه وتأليفه بدون كسب لأحد في هذا التأليف، هذا مذهب جمهورهم، والأول مذهب فريق منهم، هذا هو مذهب الأشاعرة فمن أين أتى هذان القولان اللذان نسبهما الدكتور إلى الأشاعرة كلهم؟ نعم قد نسبهما إلى بعض الأشاعرة ابن تيمية! (كما نقله الدكتور)! فقلده الدكتور، وهلا قلده تقليداً صحيحا!
وليت شعري من هم القائلون بهذين القولين المخالفين لما أطبقت عليه كتب الأشاعرة، فهلا ذكرهم ابن تيمية بأسمائهم! نعم قد نقل هذين القولين الباجوري في شرح جوهرة التوحيد بصيغة التمريض بدون أن يذكر أسماء القائلين، ولا أدري كيف يقول هذا مسلم! فالمؤكد أن هذين القولين قولان مدسوسان على الأشاعرة كما قاله الزرقاني في “مناهل العرفان”.
وبعد هذا هل يصح نسبة هذين القولين إلى الأشاعرة، وجعلهما مذهبين لهم كلهم أو بعضهم؟!!! سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين.
الخطأ السابع عشر: قوله: {واستدلوا بمثل قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم) في سورتي الحاقة والانشقاق حيث أضافه في الأولى إلى محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وفي الأخرى إلى جبريل بأن اللفظ لأحد الرسولين (جبريل أومحمد) صلى الله تعالى عليه وآله وسلم}
فإذا لم يكن الأشاعرة قائلين بشيء من هذين القولين، بل قائلين بضدهما فكيف يستدلون على صحتهما بكتاب الله تعالى؟!
الخطأ الثامن عشر: قوله: {وقد صرح بالأول الباقلاني، وتابعه الجويني}
يقصد بالأول أن لفظ القرآن من انشاء جبريل وتأليفه لا من الله تعالى، فادعى الدكتور أن الباقلاني والجويني صرحا بذلك. وهذا الدعوى كسابقاتها غير صحيحة! وننقل كلام هذين الإمامين كي يتحقق القارئ من ذلك.
أما الجويني فقد نقلنا عنه آنفا أنه قال في بيان معنى إنزال كلام الله تعالى: (كلام الله منزل على الأنبياء… فالمعنِيُّ بالإنزال أن جبريل -صلوات الله عليه- أدرك كلام الله تعالى وهو في مقامه فوق سبع سموات، ثم نزل إلى الأرض، فأفهمه الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ما فهمه عند سدرة المنتهى) فالجويني يقول: (إن جبريل أدرك كلام الله) وكلام الله عند الإطلاق يراد به اللفظ والمعنى، ثم يقول: (فأفهم الرسول ما فهمه) ويعنى به أن الذي أفهمه جبريل الرسول هو ما فهمه نفسه وعينه بدون إضافة إليه أو نقص عنه، ولم يقل الجويني: أفهم الرسول المعنى باللفظ العربي الذي ألفه هو ورتبه.
وأما الباقلاني فقد قال: (فالمنزِل هو الله… والمنزَل على الوجه الذي بيناه من كونه نزول إعلام وإفهام لا نزول حركة وانتقال، كلام الله الأزلي القائم بذاته… والمنزل عليه قلب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم… والمنزل به هو اللغة العربية التي تلا بها جبريل ونحن نتلوا بها إلى يوم القيامة…. والنازل على الحقيقة المنتقل من قطر إلى قطر قول جبريل عليه السلام يدل على هذا قوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم. وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون. ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون. تنزيل من رب العالمين)… فحصل من هذا أن الله تعالى علم جبريل عليه السلام القرآن،… وعلمه الله النظم العربي الذي هو قرائته، وعلم هو القراءة نبينا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، وعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه)،[1] فأنت ترى أن الباقلاني يصرح بأن الله تعالى علم جبريل القرآن وعلمه النظم العربي الذي هو قراءته، وعبر بالقراءة عن المقروء، لأن اللفظ العربي مقروء وليس نفس القراءة، فاللفظ العربي على هذا شيئ علمه الله تعالى جبريل، وليس شيئا اخترعه جبريل ونظمه ورتبه هو. نعم يأتي الاشكال في قول الباقلاني: (والنازل على الحقيقة المنتقل من قطر إلى قطر قول جبريل) ومراده القول الذي يحمله جبريل، وعبر بهذا التعبير موافقة للفظ الآية (إنه لقول رسول كريم) كما أن المراد بالآية: إنه لقول يحمله وينزل به رسول كريم.
الخطأ التاسع عشر: قوله:
{وعلى القول بأن القرآن الذي نقرؤه في المصاحف مخلوق سار الأشاعرة المعاصرون، وصرحوا به، فكشفوا بذلك ما أراد شارح الجوهرة أن يستره حين قال: (يمتنع أن يقال: إن القرآن مخلوق إلا في مقام التعليم}
محل الخطأ في هذا الكلام قوله: (ما أراد شارح الجوهرة أن يستره) فالباجوري لم يرد أن يستر بكلامه شيئا، بل أباح بما أراد أن يقوله وصرح به، فإن الذي قاله هو قول جمهور الأشاعرة القائلون بأن الألفاظ مخلوقة لله تعالى وقد قرروا ما قاله الباجوري في كتبهم، وأرادوا تعليمه للناس، ولم يريدوا أن يستروه فقالوا: لا يجوز التصريح بأن القرآن مخلوق وإن أراد القائل النظم العربي دون المعنى القديم القائم بالله، لئلا يذهب الوهم إلى أن صفة الكلام القائمة بالله تعالى مخلوقة فمنعوا هذا الإطلاق في غير مقام التعليم سدا للذريعة.
[1] الإنصاف 85-86