مسألة الأحوال،حكم من لم تبلغه دعوة الرسل،مسألة وجوب النظر في معرفة الله تعالى، ومسألة أول واجب على المكلف،أخطاء الدكتور
73 – مسألة الأحوال:
وأما قول الدكتور: {وقالوا عن الأحوال: هي صفات لا معدومة ولا موجودة، فرفعوا النقيضين معا}
فقد أخطأ فيه خطأين:
الأول: نسبته القول بالحال إلى الأشاعرة كلهم، مع أن القائل به من الأشاعرة إنما هو إمام الحرمين فقط، وقد قال به بعض المعتزلة أيضا.
والثاني قوله: (فرفعوا النقيضين معا) وذلك أن القائلين بالأحوال أثبتوا الواسطة بين الموجود والمعدوم، فلم يكن الموجود والمعدوم عندهم نقيضين، بل هما عندهم ضدان يجوز ارتفاعهما كما في الأحوال ولا يجوز اجتماعهما، فالموجودات عندهم هي ما له ثبوت وتحقق في الخارج، والأحوال عندهم ما له ثبوت وتحقق في نفسه دون الخارج، والمعدومات ما ليس له ثبوت وتحقق لا في الخارج ولا في نفسه، بل هو عدم محض. وقد أثبت غيرُ إمام الحرمين من الأشاعرة الأمور الاعتبارية، وقالوا: إنها أمورٌ ليس لها ثبوت وتحقق في الخارج ولا هي أعدام محضة، بل هي أقرب إلى الموجودات الخارجية منها إلى الأعدام المحضة، ولو قال قائل: لنسمي الأحوال والأمور الاعتبارية بالموجودات حتى يكون التقابل بين الموجود والمعدوم تقابل التناقض لا التضاد، نقول له: لك أن تصطلح على هذا، ولا مشاحة في الاصطلاح، ويكون الخلاف حينئذ راجعاً إلى اللفظ والتسمية.
74- حكم من لم تبلغه دعوة الرسل:
ثم قال الدكتور: {جزموا بأن من لم يبلغه الشرع غير مؤاخذ بإطلاق، وردوا أو أوَّلوا النصوص في ذلك}
أقول: نعم جزم الأشاعرة بأن من لم تبلغه دعوة نبي من الأنبياء على وجهها غير مؤاخذ، وإن لم يعرف الله تعالى أو أشرك به. ودليلهم في ذلك قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)[1] وقوله تعالى: (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل)[2] هاتان الآيتان صريحتان فيما ذهب إليه الأشاعرة، ولا يوجد لا في الكتاب ولا في السنة نصٌ واحدٌ صريحٌ مثل صراحة هاتين الآيتين يدل على مؤاخذة من لم تبلغه دعوة الرسل. وليت الدكتور أورد نبذةً من تلك النصوص التي زعم أن الأشاعرة ردوها أو أولوها.
نعم قد ذهب الماتريدية والمعتزلة إلى وجوب معرفة الله تعالى بالعقل بدون بلوغ دعوة الرسل. والخلاف في هذه المسألة مبني على الخلاف في الحسن والقبح العقليين، فمن أثبتهما قال بوجوب معرفة الله تعالى بالعقل، ومن نفاهما قال: إنه لا يتحقق الوجوب في أمر من الأمور إلا بعد ورود الشرع وبلوغه. وقد فصلنا المسألة فيما تقدم.
75-مسألة وجوب النظر في معرفة الله تعالى، ومسألة أول واجب على المكلف:
ثم قال الدكتور: {قالوا: إن على المكلف وإن كان مولوداً من أبوين مسلمين في ديار الإسلام وهو يظهر الإسلام عليه إذا بلغ سن التكليف أن ينظر في حدوث العالم ووجود الله، فمن مات قبل النظر أو في أثنائه اختلفوا في الحكم بإسلامه، وجزم بعضهم بكفره}
أقول: أكبر مشكلة عند الدكتور أنه لم يفهمْ كلام الأشاعرة على وجهه، فتورَّط في نقده لهم في مئات الأخطاء. وكلام الدكتور هذا متعلق بمسألتين من مسائل علم الكلام: الأولى مسألة وجوب النظر في معرفة الله تعالى. والثانية: مسألة أول واجب على المكلف، وقد تكلمنا على المسألتين فيما تقدم، ونلخص الكلام عليهما هنا ثم نعود إلى كلام الدكتور.
قالت الأشاعرة وغيرهم من الماتريدية والمعتزلة: يجب على المكلف معرفة الله تعالى بالنظر والدليل، وأرادوا بالوجوب بالنسبة إلى النظر أن الذي عرف الله تعالى بالتقليد بدون نظر عقلي يضطره إلى ذلك، عاصٍ بترك النظر إذا كان أهلاً للنظر، ولم يريدوا أن المقلد في معرفة الله تعالى كافر غير مسلم، فإن هذا لم يقله أحد منهم إلا أبوهاشم من المعتزلة والسنوسي من الأشاعرة.
ثم إنهم أرادوا بالنظر الواجب، النظر الإجمالي الذي ينقدح في ذهن صاحبه، وإن لم يستطع صاحبه أن يقرره ويدفع الشبه عنه، ومنه الاستناد إلى صدق الرسول المؤيد بالمعجزات وقد قالوا: إن الدليل الإجمالي لا يخلو عنه مسلم خالط المسلمين وعاش فيهم، والمسألة مفروضة فيمن نشأ في شاهق جبل مثلاً بدون أن يخطر بباله وجود الله تعالى وبدون أن يعرفه، فأخبره مخبرٌ بوجود صانع لهذا العالم، فصدَّقه وثوقاً به بدون استناد إلى دليل، فهذا هو الذي أجمع الأشاعرة على صحة إيمانه، وعلى عصيانه بترك النظر إذا كان أهلاً له، وأما غيره ممن يخالط المسلمين ويعيش فيهم، فالعادة تقتضى أنه لابد أن يكون في إيمانه مستند إلى دليل وإن كان إجماليا. هذا حاصل مسألة وجوب النظر.
وأما مسألة أول واجبٍ على المكلف فننقل فيها كلام القاضي عضد الدين في “المواقف” بتلخيص له قال: (قد اختُلِفَ في أول واجب على المكلف فالأكثر على أنه معرفة الله تعالى، إذ هو أصل المعارف الدينية، وعليه يتفرع وجوب كل واجب، وقيل هو النظر فيها لأنه واجب وهو قبلها، وقيل أول جزء من النظر، وقال القاضي واختاره ابن فورك القصد إلى النظر
والنزاع لفظي لأنه لو أريد الواجب بالقصد الأول فهو المعرفة، وإلا فالقصد إلى النظر…
ثم قال القاضي: إن قلنا: الواجب النظر، فمن أمكنه زمن يسع فيه النظر التام ولم ينظر فهو عاص، ومن لم يمكنه زمان أصلاً فهو كالصبي، ومن أمكنه ما يسع بعض النظر دون تمامه)، فإن شرع فيه بلا تأخير واخترمته المنية قبل انقضاء النظر وحصول المعرفة فلا عصيان، وأما إذا لم يشرع فيه، بل أخَّرَه بلا عذرٍ ومات (ففيه احتمال والأظهر عصيانه) لتقصيره بالتأخر. انتهى مع شرحه للسيد الشريف.[3]
ومما ينبغي التنبيه عليه أن مراد القاضي وغيره بالواجب في قولهم: «أول الواجب كذا» أعم مما يكون عدمه موجباً للكفر أو موجباً للعصيان، فالكافر المكلف الذي بلغته الدعوة ولم يكن قد حصل معرفة الله من قبل إذا لم ينظر في معرفة الله تعالى بعد بلوغ الدعوة له يبقي كافراً مستحقاً للخلود في النار، وإنما ينجو من الخلود في النار إذا باشر في النظر عقب بلوغ الدعوة إليه وانتهى إلى معرفة الله تعالى وصدق بكل ما علم مجيء الرسول به بالضرورة إذا أمكنه زمان يسع ذلك بعد الشروع في النظر.
وأما المسلم الذي بلغ الحلم فإذا كان قد حصل النظر في معرفة الله تعالى قبل البلوغ، وإن كان ذلك النظر نظراً إجماليا، وهو ما لا يخل عنه مثله بحسب العادة، فلا يجب عليه النظر ثانيا لأنه موجود عنده، وأما إذا بلغ المسلم مقلداً في معرفة الله تعالى تقليداً محضا، فيجب عليه النظر في معرفة الله تعالى وإذا لم ينظر فيها فهو مؤمن ولكنه عاص بترك النظر.
ومن أجل أن مراد القاضي بالوجوب ما ذكرناه عبَّر القاضي في كلامه بالعصيان الشامل للكفر والفسق، ولم يعبر بالكفر حيث قال: «فهو عاص» وقال: «والأظهر عصيانه» ولم يقل: فهو كافر… والأظهر كفره.
76-أخطاء الدكتور في كلامه:
فظهر بهذا أن كلام الدكتور هذا قد اشتمل على أخطاء:
الخطأ الأول: فرضه المسألة في المسلم الذي بلغ الحلم، مع أن المسألة ليست مفروضة فيه فقط، بل المسألة مفروضة -في الأصل- فيمن بلغته الدعوة من الكفار، وهو بالغ عاقل، وفي الكافر الذي بلغ الحلم عالماً بالدعوة ويمكن جريانها في المسلم الذي بلغ الحلم كما قررناه.
الخطأ الثاني والثالث والرابع قول: (أن ينظر في حدوث العالم ووجود الله) وذلك أن الواجب هو النظر في معرفة الله كما عبَّر به الأشاعرة الشامل لمعرفة وجوده ومعرفة صفاته، وليس النظر في وجوده فقط كما قال الدكتور، ولم يقل أحد من الأشاعرة: إن النظر في حدوث العالم أول الواجبات كما قال الدكتور، ثم إن الواجب النظر بأي دليل كان سواء كان دليل الحدوث أو دليل النظام، أو الاستدلال بصدق الرسول المؤيد بالمعجزات على صحة كل ما يقوله. وليس الواجب هو دليل الحدوث بخصوصه كما يفيده كلام الدكتور. فقد اشتملت هذه الجملة على ثلاثة أخطاء!
وأما قوله: (فإن مات قبل النظر أو في أثنائه اختلفوا في الحكم بإسلامه، وجزم بعضهم بكفره) فقد اشتمل على خمسة أخطاء: الأول وهو
الخطأ الخامس:إطلاق قوله: (فإن مات قبل النظر أو في أثنائه) مع أن المسألة مفروضةٌ فيمن أخَّرَ النظر بلا عذرٍ فمات قبل النظر أو في أثنائه. الأول عاص قطعا، والثاني في عصيانه احتمالان، والأظهر عصيانه، أما من مات بعد بلوغ الدعوة قبل التمكن من النظر أو شرع في النظر عقب بلوغ الدعوة فمات في أثنائه فلا عصيان له قطعاً عند الأشاعرة.
الخطأ والسادس والسابع والثامن: قوله: (اختلفوا في الحكم بإسلامه) حيث حكم بالاختلاف في الحكم بإسلام من مات قبل النظر أو في أثنائه، مع أن الموجود هو احتمالان أبداهما القاضي عضد الدين، واستظهر أحدهما، وليس الموجود هو الخلاف، ثم إن الاحتمالين إنما يجريان فيمن مات في أثناء النظر بعد التأخير بلا عذر، دون من مات قبل النظر بعد التأخير بلا عذر، فإنه عاصٍ قطعا. كما أن الاحتمالين ليسا في إسلامه، بل في عصيانه الشامل للكفر بالنسبة إلى الكافر الذي بلغته الدعوة، والإثم بالنسبة إلى المسلم الذي بلغ الحلم.
الخطأ التاسع: قوله “وجزم بعضهم بكفره” فإنه لا يصح بإطلاقه في المسلم الذي بلغ الحلم ولم ينظر في معرفة الله، فقد يكون هذا المسلم ناظراً فيه قبل بلوغ الحلم، وإن كان نظراً إجماليا. وهذا هو الحال في السواد الأعظم من المسلمين أو لا يوجد فيهم من لم ينظر أصلا. ثم إن الإبهام في قوله: وجزم بعضهم بكفره. يوهم أن قول هذا البعض قولٌ له اعتبار عند الأشاعرة، مع أنه قولٌ غير معتبر عندهم لم يقله قبل السنوسي أحدٌ من الأشاعرة وانفرد هو بهذا القول، ولم يوافقه عليه أحد من الأشاعرة بعده، فإذا عددنا هذا الإيهام أيضا خطأً صارت الأخطاء عشرة.
[1] الإسراء 15.
[2] النساء 165.
[3] شرح المواقف 1/280.