معنى إنزال كلام الله تعالى، مذهب الأشاعرة في الصوت، مذهب الإمام أحمد في كلام الله تعالى
44 – معنى إنزال كلام الله تعالى
وأما معنى إنزال كلام الله تعالى فننقل فيه كلام إمام الحرمين قال في “الإرشاد”:
“كلام الله تعالى منزل على الأنبياء، وقد دل على ذلك آي كثيرة من كتاب الله تعالى.
ثم ليس المعنِيُّ بالإنزال حط الشيء من علو إلى سفل، فإن الإنزال بمعنى الانتقال يتخصص بالأجسام والأجرام، ومن اعتقد قدم كلام الله تعالى وقيامه بنفس الباري سبحانه وتعالى واستحالة مزايلته للموصوف به، فلا يستريب في استحالة الانتقال عليه.
ومن اعتقد حدوث الكلام، وصار إلى أنه عرض من الأعراض، فلا يسوغ على معتقده أيضا تقدير الانتقال، إذا العرض لا يزول ولا ينتقل.
فالمعنِيُّ بالإنزال أن جبريل صلوات الله عليه أدرك كلام الله تعالى، وهو في مقامه فوق سبع سموات، ثم نزل إلى الأرض، فأفهم الرسول ما فهمه عند سدرة المنتهى من غير نقل لذات الكلام.
وإذا قال القائل: نزلت رسالة الملك إلى القصر لم يرد بذلك انتقال أصواته، أو انتقال كلامه القائم بنفسه.[1]
هذا مذهب الأشاعرة والماتريدية في كلام الله تعالى.
وبه يتبين أنهم اثبتوا لله تعالى نوعين من الكلام: الأول: الكلام المعنوي النفسي، وقد اتفقوا على قدمه، وقيامه بالله تعالى، والثاني: الكلام اللفظي، وقد اختلفوا فيه، فذهب فريق من المحققين منهم إلى قدمه أيضا، وقالوا: إن كلام الله تعالى عبارة عن اللفظ والمعنى القديمين القائمين بالله تعالى.
وذهب جمهورهم إلى حدوث الكلام اللفظي بمعنى أن الله تعالى تفرد بخلقه بدون كسب لأحد فيه، وهو كلام الله على الحقيقة دون المجاز.
ولم يذهب أحد منهم إلى ما ذهب إليه جمهور الحنابلة من أن كلام الله تعالى عبارة عن الحروف والأصوات، قالوا: لأنه من البديهي أن ذلك يقتضي الترتيب والتعاقب المقتضي للحدوث، وكلام الله تعالى منزه عن الحدوث باتفاق منا ومنهم.
ومذهب الأشاعرة هذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة. قال- رحمه الله تعالى- في الفقه الأكبر:” ويتكلم لا ككلامنا ونحن نتكلم بالآلات والحروف، والله تعالى يتكلم بلا آلة ولا حروف، والحروف مخلوقة، وكلام الله غير مخلوق”
45- مذهب الأشاعرة في الصوت
وأما ما ورد من ثبوت الصوت في كلام الله تعالى في بعض الأحاديث كحديث عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (يحشر الله العباد –أو قال الناس- عراة غرلا بهما، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما سمعه من قرب أنا الملك الديان) قلم يثبتوا هذه الأحاديث وانتقدوها، انظر “الأسماء الصفات” للبيهقي[2]، وبتقدير ثبوتها فقد جعلوا الصوت فيها راجعا إلى غير الله تعالى كما تقدم في كلام أبي المعين النسفي عن الإمام أبي منصور الماتريدي والأستاذ أبي الإسحاق الإسفراييني من أن الله يسمع كلامه بصوت يتولى تخليقه، لا أن كلامه عبارة عن الحرف والصوت، ويحتمل في بعض هذه الأحاديث أن يكون الصوت للسماء، أو للملك الآتي بالوحي، أو لأجنحة الملائكة، كما يحتمل أن يكون الصوت من تعبير الراوي، وأن النبي قال: (يناديهم نداء يسمعه…) أو نحو ذلك، فعبر الراوي بالصوت.
قال البيهقي في “الأسماء والصفات”: “وقد يجوز أن يكون الصوت فيه إن كان ثابتا راجعا إلى غيره تعالى، كما روينا عن عبد الله بن مسعود موقوفا (وموقوف الصحابي في ما لا مجال للرأي فيه من المرفوع حكما): (إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا) وفي حديث أبي هريرة: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعنا لقوله كأنه سلسلة على صفوان)
ففي هذين الحديثين الصحيحين دلالة على أنهم يسمعون عند الوحي صوتا، لكن للسماء، ولأجنحة الملائكة تعالى الله عن شبه المخلوقين علوا كبيرا… وكما روينا عن نبينا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: (أنه كان يأته الوحي أحيان في مثل صلصلة الجرس) وكل ذلك مضاف إلى غير الله سبحانه. انتهى.
46- مذهب الإمام أحمد في كلام الله تعالى
وهنا نود الإشارة إلى مذهب الإمام أحمد في الكلام، فأقول: قد جاء عن الإمام أحمد أن الله تعالى يتكلم بصوت.
قال الذهبي في تاريخ الإسلام: قال عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب “الرد على الجهمية” تأليفه: سألت أبي عن قوم يقولون: لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت، فقال أبي: بل تكلم –جل ثنائه- بصوت، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت….[3]
وقد ثبت عن الإمام أحمد بطرق صحيحة أنه كان يقول: القرآن من علم الله، واستدل على ذلك بالكتاب مثل قوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواهم من بعد ما جاءك من العلم)[4] وقوله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم)[5]
قال الذهبي: قال الإمام أحمد في آخر رسالة أملاها على ابنه عبد الله: القرآن من علم الله[6] وقال: رواة هذه الرسالة عن أحمد أئمة أثبات أشهد بالله أنه أملاها على ولده، ورواها أبو نعيم في حلية الأولياء وابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد[7]
هكذا ثبت عن الإمام أحمد أن كلام الله تعالى من علمه، وعلمه ليس من الأصوات، ولم يظهر لي وجه الجمع بين قوله هذا وقوله: إن الله يتكلم بصوت.
والذي يظهر لى أن هذان القولان عنه جاريان على مذهبه من الوقوف في باب العقيدة عند ظواهر النصوص وعدم تجاوزها، وكراهة البحث والتنقيب عن الأمور الغامضة، كما قال البخاري: المعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله غير مخلوق، وما سواه مخلوق، وأنهم كرهوا البحث والتنقيب عن الأمور الغامضة، وتجنبوا أهل الكلام والخوضَ والتنازعَ إلا فيما جاء به العلم وبينه رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم[8]
[1] الإرشاد 130.
[2] 273-276.
[3] تاريخ الإسلام 18/88
[4] البقرة 120
[5] آل عمران 61.
[6] سير أعلام النبلاء 11/286.
[7] تاريخ الإسلام 18/99-101
[8] خلق أفعال العباد للبخاري 62