هل قطع الرازي بأن في الصحيحين أحاديث وضعها الزنادقة؟،بيان السبب في قلة وجود الآيات والأحاديث في بعض كتب الأشاعرة الكلامية
29 – هل قطع الرازي بأن في الصحيحين أحاديث وضعها الزنادقة؟
وأما قول الدكتور: {و(قطع الرازي) أنه في الصحيحين أحاديث وضعها الزنادقة.. إلى آخر مالا أستجيز نقله لغير المتخصصين. وهو في كتابيه أساس التقديس والأربعين}
أقول: لم يستجز الدكتور نقله لأجل التدليس والتلبيس على القراء من أجل أن لا يطَّلعَ القراء على عدم صحة نسبته هذا القول إلى الإمام الرازي، وهو لا يعلم أن هناك من القراء من هو له بالمرصاد. وأما أنا فأستجيز نقل كلام الرازي بل أستوجبه كي تنجلي حقيقة الأمر، وحتى (تعلم حين ينجلي الغبار :: أفرس تحتك أم حمار)
وإليك كلام الإمام الرازي بنصه: قال في “أساس التقديس”:[1]
«إنه اشتهر بين الأمة أن جماعة من الملاحدة وضعوا أخباراً منكرة، واحتالوا في ترويجها على المحدثين، والمحدثون لسلامة قلوبهم ما عرفوها، بل قبلوها، وأي منكر فوق وصف الله تعالى بما يقدح في الإ̃لهية ويبطل الربوبية؟ (يعني أن جملة من هذه الأخبار مشتملة على وصف الله تعالى بذلك)، فوجب القطع في أمثال هذه الأخبار بأنها موضوعة.
وأما البخاري والقشيري (يعني مسلما) فهما ما كان عالمين بالغيوب، بل اجتهدا واحتاطا بمقدار طاقتهما. فأما اعتقاد أنهما علما جميع الأحوال الواقعة في زمان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى زماننا[2]فذلك لا يقوله عاقل. غاية ما في الباب أنا نحسن الظن بهما وبالذين رويا عنهم، إلا أنا إذا شاهدنا خبرا مشتملاً على منكرٍ لا يمكن إسناده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قطعنا بأنه من أوضاع الملاحدة، ومن ترويجاتهم على أولئك المحدثين». هذا هو كلام الإمام بنصه في “أساس التقديس” فارجع البصر هل ترى من فطور؟ ولم أر له كلاما متعلقا بالموضوع في “الأربعين”.
أقول ما قاله الإمام الرازي موافق لما قاله أئمة الحديث ونُقَّاده من أن من علامات وضع الحديث أن يكون مخالفاً للأصول الشرعية والقواعد المقررة، ومن علاماته اشتماله على أمر منكر ومستحيل.
ومن ثمة قال الإمام الناقد عبد الرحمن بن الجوزي: (كل حديث رأيته يخالف المعقول أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع..) وذكر حديثاً من هذا النوع، ثم قال: (فمثل هذا الحديث لا يحتاج إلى اعتبار رواته لأن المستحيل لو صدر عن الثقات رد ونسب إليهم الخطأ[3] وقال الإمام الحافظ الخطيب البغدادي في “الفقيه والمتفقه”.[4]
باب القول فيما يرد به خبر الواحد:
.. وإذا روى الثقة المأمون خبراً متصل الإسناد رُدَّ بأمور:
أحدها أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه، لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول، وأما بخلاف العقول فلا.
الثاني أن يخالف نص الكتاب أو السنة المتواترة، فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ.
والثالث أن يخالف الإجماع، فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له..
فانظر أيها القارئ المنصف هل قال الرازي شيئا غير ما قال أئمة الحديث ونقاده؟!
ثم انظر هل صحيح أن الرازي قد قطع بأن في الصحيحين أحاديث وضعها الزنادقة..؟!
أم أنه تكلم بكلام عام متين، وحكم بحكم واسع مستقيم وافق فيه غيره من الأئمة النقاد المحققين.
وذلك قوله: «إلا أنا إذا شاهدنا خبراً مشتملا على منكر» حيث عمم فيه الكلام ولم يخصص. نعم سياق كلامه يوهم أن يُجَوِّز أن يكون في الصحيحين شيء من هذا النوع من الأخبار، ويفيد أنه على تقدير وجودها فيهما فهي مردودة. لكن ما يوهمه كلامه غير صحيح، وأما ما يفيده فهو صحيح لا غبار عليه.
وأما أن الإمام الرازي قطع بأن في الصحيحين أحاديث وضعها الزنادقة فليس له في كلامه عين ولا أثر!
ثم إن ابن تيمية قال ببعض ما قاله الرازي وزاد عليه في البعض الآخر. قال في “منهاج السنة” (وخبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرائن)،[5] وقد توقف ابن تيمية في قبول الحديث الآحادى في العقيدة بحجة أنه غير متواتر، حيث قال في “نقد مراتب الإجماع” عن حديث (كان الله ولم يكن شيء غيره): (وهذا الحديث لو كان نصاً فيما ذكر فليس متواترا)[6] وقال في “مجموع الفتاوى”: (والكذب كان قليلاً في السلف…أما الصحابة فلم يعرف فيهم، -ولله الحمد- من تعمد الكذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم…أما الغلط فلم يسلم منه أكثر الناس، بل في الصحابة من غلط أحيانا وفيمن بعدهم، ولهذا كان فيما صنف في الصحيح أحاديث يعلم أنها غلط وإن كان جمهور متون الصحيحين مما يعلم أنه حق)[7] تأمل أيها الدكتور جيداً في هذا الكلام ولا سيما قوله: (جمهور متون الصحيحين) وتب من الهجوم على الأشاعرة والرازي، وإلا فهاجم ابن تيمية أيضا. ولاتكن من الذين يكيلون بمكيالين!!!
30-بيان السبب في قلة وجود الآيات والأحاديث في بعض كتب الأشاعرة الكلامية
قال الدكتور: {د- تقرأ في كتب عقيدتهم قديمها وحديثها المائة صحفة أو أكثر فلا تجد فيها آية ولا حديثا، لكنك تجد في كل فقرة (قال الحكماء) أو (قال المعلم الأول) أو (قالت الفلاسفة، ونحوها)}
هكذا يصور الدكتور كتب عقيدة الأشاعرة عامة: لا تجد في مائة صفحة أو أكثر آية ولا حديثا، ولا تخلو فقرة منها من نقل كلام الفلاسفة، هكذا يصور الدكتور كتب الأشاعرة كلها بدون استثناء! من يصدق ذلك؟! ولعل الدكتور نفسه إذا راجع نفسه لا يصدق ذلك! نعم يصدق ذلك، ويتعجب منه، ويعوذ بالله من الأشاعرة ومن كتبهم من يقرأ كلام الدكتور واثقا به ولم يفتح يوما من الأيام كتابا من كتب عقيدة الأشاعرة، ولم يقرأ صفحة منها. هذا وحده هو الذي يصدق ذلك.
والأدهى من ذلك أن سياق كلام الدكتور يوهم أن الأشاعرة يعتمدون في عقيدتهم على أقوال الفلاسفة، ويستمدون عقيدتهم منها كما قال فيما سبق: «إنهم يستمدون عقيدتهم من المتفلسف بشر المرسي الذي كفره الإمام الشافعي» وكما سيأتي في آخر فقرة نقلناها من كلامه. فماذا بقي للأشاعرة من الدين بعد هذا؟! معاذ الله!سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين!
وأقول مقدما: إن هناك مجموعة كبيرة من كتب الأشاعرة المتعلقة بالعقيدة: لا يعثر القارئ في واحد منها لا على «قال الحكماء»، ولا على «قال المعلم الأول»، ولا على «قالت الفلاسفة»، ومجموعة كبيرة أخرى منها نادراً ما يعثر القارئ فيها عليها، ومن ارتاب في هذا الأمر فليقرأ ما كتبه الأوائل منهم وما كتبه المتأخرون منهم.
ثم أقول: الأشاعرة لا يوردون كلام الله تعالى وكلام رسوله إلا للاعتماد عليهما والاحتجاج بهما، أو لدفع الشبه عنهما، ولا يوردون كلام الفلاسفة في الأعم الأغلب إلا للرد عليه وبيان زيفه.
وتجليةً للحقيقة نصنف الأشاعرة إلى أصناف، ونبين حال كتب كل صنف منهم من كثرة إيراد الآيات والأحاديث فيها وقلتها ونبين السبب في ذلك، فنقول:
علماء الأشاعرة كعلماء سائر المذاهب منهم حفاظ ومحدثون ومعتنون بالحديث، ومنهم من ليسوا كذلك، أما الصنف الأول كالبيهقي والنووي وابن حجر العسقلاني فكتبهم محشوة بالآيات والأحاديث. وكل العلماء يعلم حال كتاب “الأسماء والصفات” وكتاب “الإعتقاد” للبيهقي، وأما الصنف الثاني فالقدامى منهم والمتأخرون ممن أتى بعد القرن الثامن الهجري حال كتبهم أيضا كذلك هي محشوة بالآيات والأحاديث، ونورد عدة شواهد على ذلك:
1- كتاب “الإنصاف” للباقلاني هو مائة وسبعون صفحة تقريبا، وقد اشتمل على أكثر من أربعمائة آية وأكثر من مائة حديث.
2- “المسايرة” لابن الهمام مع شرحها “المسامرة” لابن أبى شريف قد اشتمل على حوالي مئي آية ومئتي حديث.
3- “شرح الباجوري على جوهرة التوحيد” قد اشتمل على قرابة مئتين وخمسين آية ومئات الأحاديث.
4- “شرح جوهرة التوحيد” في مجلدين ضخمين لعبد الكريم تتان ومحمد أديب الكيلاني وهما معاصران، وهو محشو بالآيات والأحاديث.
وأما المتوسطون منهم كالرازي والآمدي والبيضاوي والإيجي والتفتازاني فصحيح أن الآيات والأحاديث قليلة الورود في كتبهم الكلامية، والسبب في ذلك أن هؤلاء كان جل همهم مجادلة غير المسلمين من الفلاسفة واليهود والنصارى والوثنية والرد عليهم، وبيان بطلان ما هم عليه من الاعتقاد، وقد كان جل جدلهم مع الفلاسفة منهم، وكذلك قد اعتنى هؤلاء في كتبهم الكلامية بالرد على مذاهب غير أهل السنة من المعتزلة والجبرية والخوارج أيضا. وغير المسلمين لا تُجْدِ فيهم الدلائل النقلية، بل مجادلتهم لا بد أن تكون بالدلائل العقلية. وهذا ما فعله كل الأنبياء مع أقوامهم الذين أرسلوا إليهم، لم يجادلوهم إلا بالدلائل العقلية. والقرآن محشو بهذا النوع من الدلائل وهذا النوع من الجدل. وأما غير أهل السنة من المسلمين فقد كان جل صراع أهل السنة بالمعتزلة منهم، ومن المعلوم أن المعتزلة يردون كثيرا من الأحاديث التى لا توافق مذهبهم أو يؤولونها، وكذلك يؤولون الآيات التى لا يوافق ظاهرها مذهبهم، فالاعتماد في الجدال معهم على النقل أيضا غير مُجْدٍ إلا قليلا، ومن أجل اعتناء هؤلاء المتكلمين بالرد على الفلاسفة أَوْرَدَ بعضُهم في صدور كتبهم الفلسفة الإ̃لهية والطبيعية، حتى استغرقت الفلسفة قسماً كبيراً من هذه الكتب، وهذا القسم من الفلسفة لا محل لإيراد الآيات والأحاديث فيها، فمن أجل ما ذكرناه قل ورود الآيات والأحاديث في كتب هؤلاء المتكلمين المتوسطين. هذا حال كتب الأشاعرة المطولة.
وأما المختصرات المؤلفة في العقيدة المكونة من عدة صفحات فصحيح أن معظمها خال عن الدلائل النقلية. والسبب في ذلك أنها مؤلفة للعوام والمبتدئين في العلم. فأراد مؤلفوها أن تكون بمقدار يستوعبها العوام والمبتدئون بسهولة، ولو كانوا قرنوا كل عقيدة بدلائلها النقلية لطالت هذه الكتب وصعب استيعابها على العوام والمبتدئين، وشأنها في ذلك شأن المختصرات المؤلفة في المذاهب الفقهية.
لكن كلام الدكتور لا ينطبق على هذه المختصرات فإنه قد تكلم على الكتب ذات المئات الصفحات.
[1] 170
[2] هكذا في النسخة المطبوعة، والصواب: إلى زمانهما.
[3] الموضوعات 1/105.
[4] 1/132.
[5] 7/516
[6] 170
[7] مجموع الفتاوى 1/249-250.