فوائد الدعاء
قال الإمام الطرطوشي في الدعاء المأثور
قد ذكر علماؤنا – رضوان الله عليهم – للدعاء فوائد منها:
أن الدعاء عبادة يثيب الله – سبحانه – عليها و إن لم تقع الإجابة
و منها:
أن الدعاء إشغال الهمة بذكر الحق – سبحانه و تعالى – و ذلك يوجب قيام الهيبة للحق عز وجل في القلوب ، والزيادات في الطاعات ، الانقطاع عن المعاصي ، ولزوم الباب يستدعي الإذن في الدخول، ولهذا سبق المثل(( من أدمن قرع الباب ولج))، و كان يقال الإذن في الدعاء خير من العبادة. و فيه إظهار العبودية و الإقرار بالفقر و الحاجة ، و فيه تحقيق التوحيد ، و التبرؤ من الحول و القوة و الاعتراف بالربوبية ، و الافتقار إليه ، كما قيل: ((موقفُ ذليلٍ بين يدي عزيز)).
و كان يقال : إن الله خبأ أربعاً في أربع:
رضاه في طاعته فلا تحقرن شيئاً من أبواب البرِّ تفعله
و خبأ سخطه في معاصيه فلا تحقرن شيئا من المعاصي تجتنبه
و خبأ ولايته في عباده فلا تحقرن أحداً من عباده، فإن الله لم يحقره إذ أودعه الإيمان
و خبأ إجابته في دعائه، فلا تحقرن شيئا من الدعاء تدعو به.
و قال ابن المعتمر: كرم الله تعالى لا ينقض حكمه، و لهذا يدعو العبد فلا يستجاب له.
قال الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين:فما فائدة الدعاء والقضاء لا مَرَدَّ له
فاعلم أن من القضاء ردَّ البلاء بالدعاء، فالدعاء سبيل ردِّ البلاء واستجلاب الرحمة كما أن الترس سبب لرد السهم، والماء سبب لخروج النبات من الأرض فكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان، وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله تعالى أن لا يحمل السلاح وقد قال تعالى خذوا حذركم ، وأن لا يسقي الأرض بعد بث البذر فيقال إن سَبَقَ القضاء بالنبات نَبَتَ البذر وإن لم يسبقْ لم ينبتْ، بل رَبْطُ الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمح البصر أو هو أقرب، وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر، والذي قدَّر الخير قدَّره بسبب والذي قدَّر الشر قدَّر لدفعه سببا فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انْفَتَحَتْ بصيرته.
ثم في الدعاء من الفائدة ما ذكرناه في الذكر فإنه يستدعي حضور القلب مع الله وهو منتهى العبادات ولذلك قال صلى الله عليه وسلم الدعاء مخ العبادة
والغالب على الخلق أنه لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر الله عز وجل إلا عند إلمام حاجة وإرهاق ملمة فإن الإنسان إذا مسَّه الشر فذو دعاء عريض فالحاجة تحوج إلى الدعاء والدعاء يرد القلب إلى الله عز وجل بالتضرع والاستكانة فيحصل به الذكر الذي هو أشرف العبادات ولذلك صار البلاء موكلاً بالأنبياء عليهم السلام ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل لأنه يرد القلب بالافتقار والتضرع إلى الله عز وجل ، ويمنع من نسيانه وأما الغِنَى فسبب للبطر في غالب الأمور فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى .
وسُئل العز بن عبد السلام هل يجوز أن يقال لا حاجة إلى الدعاء إذ لا يرد قضاء و لا قدرا، فأجاب: من زعم عدم الحاجة إلى الدعاء فقد كذب و عصى و يلزمه أن يقول لا حاجة بنا إلى الإيمان و الطاعة لأن ما قضاه الله من الثواب و العقاب حاصل، و لا يدري هذا الأحمق أن مصالح الدارين قد رتَّبها الله تعالى على الأسباب
فإنْ بناه على أنَّ ما سبق له لا يغيِّره الدعاء لزمه أن لا يأكل و لا يشرب إذا جاع أو عطش، ولا يتداوى إذا مرض وأن يلقى الكفار بلا سلاح ويقول في ذلك كله ما قضاه الله تعالى لا يرد و هذا لا يقوله مسلم و لا عاقل و ما أجرأ هذا الشخص على الجرأة بأذكار الشرع وحاصله أن الإيمان بالقضاء لا يقتضي ترك الأسباب فالله تعالى قدَّر الأمر وقدَّر سببه .
وقال الإمام أبو القاسم القشيري رضي الله عنه:
اختلف الناس في أنَّ الأفضل الدعاء أم السكوت و الرضا، فمنهم من قال الدعاء عبادة للحديث السابق : الدعاء هو العبادة ، ولأن الدعاء إظهار الافتقار إلى الله تعالى ، وقالت طائفة السكوت والخمود تحت جريان الحكم أتم، والرضا بما سبق به القدر أولى، وقال قوم يكون صاحبَ دعاءٍ بلسانه، ورضاً بقلبه ليأتيَ بالأمرين جميعاً.
قال القشيري: والأولى أن يقال الأوقات مختلفة، ففي بعض أحوال، الدعاء أفضل من السكوت، وهو الأدب ، وفي بعض الأحوال السكوت أفضل من الدعاء، وهو الأدب.
وقال شيخ الإسلام زكريا في شرح الرسالة:
فرُبَّ شخصٍ في خلوةٍ يغلب عليه الدعاء وكمال التضرع والبكاء فملازمته لحالته أقرب لنيل مقصوده، وربما يغلب عليه توالي نعم ربه وعجزه عن شكرها، ويستحي بعجزه عن شكر ما توالى عليه من النعم أن يطلب زيادة على ما هو فيه، فالسكوت ولزوم الحياء أولى.