الإسناد من الدين
الإسناد من الدين
لقد أكرم الله تعالى هذه الامة المحمدية ، بخصائص كثيرة ومزايا وفيرة ، منها ما يتعلق بذات الشريعة المطهرة ، وألوان العبادات والمعاملات والطاعات والمثوبات، يسراً وسهولةً ومضاعفة أجر… ، ومنها ما يتعلق بخدمة الشريعة ونقلها وتبليغها وتدوينها وضبطها وحفظها.
ومن أهم هذه الخصائص للأمة المحمدية خصيصةُ (الإسناد) في تبليغ الشريعة المطهرة وعلومها من السلف إلى الخلف ، فقد كان الإسناد الشرط الأول في كل علم منقول فيها ، حتى في الكلمة الواحدة، يتلقاها الخالف عن السالف ، واللاحق عن السابق بالإسناد.
قال العلماء: (الإسناد) هو مصدر من قولك : أسندت الحديث الى قائله ، إذا رفعته الى بذكر ناقله.
فمثلاً قول الإمام أبي عبد الله البخاري رحمه الله تعالى في كتابـه الذي سمّاه:
(( الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وأيامه ))
هكذا كامل اسم – صحيح البخاري – عند غير واحد من العلماء في كتاب العلم، في باب إثم من كذب على النبي صلى الله علي وسلم:
(( حدّثنا مكيّ بن إبراهيم ، قال : حدّثنا يزيد بن أبي عبيد الله – وهو مولى سلمة بن الأكوع – ، عن سلمة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من يقل عليَّ ما لم أقل ، فليتبوأ مقعده من النار ، يسمى إسناداً. وذات السلسلة التي ذكر فيها البخاري الرُّواة تسمى (سنداً).
وعرَّفوا (الإسناد) بقولهم: هو حكاية طريق متن الحديث.
وعرَّفوا (السَّند) بأنه طريق متن الحديث .
وسُمِّي (سنداً) لاعتماد الحفاظ عليه في الحكم بصحة الحديث أو ضعفه، أخذاً من معنى (السَّـند) لغةً، وهو ما استندت إليه من جدار أو غيره.
وعلى هذا: فـ (الإسناد) هو قولك أو قول البخاري مثلاً: حدَّثنا فلان، قال : حدَّثنا فلان …. ، و (السَّـند) هو أولئك الرواة الناقلون المذكورون قبل متن الحديث. ومتن الحديث هنا قوله صلى الله عليه وسلم: (( من يقل عليَّ ما لم أقل.. )) والمحدِّثون يستعملون كُلاً من (السَّند) و(الإسناد) في موضع الآخر، ويُعرف المراد بالقرائن.
و(الإسناد) خصيصةٌ فاضلة من خصائص هذه الأمة ، لم يُؤْتها أحدٌ من الأمم قبلها. وهو من الدين بموقع عظيم ، روى الحافظ الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد)) ، في ترجمة ( أبي إسحاق إبراهيم بن محمد الأمين البخاري ) بسنده الى تلميذ عبدالله بن المبارك : عبدان، قال سمعت عبدالله بن المبارك يقول:
الإسناد عندي من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء ، ولكن إذا قيل له : من حدَّثك ؟ بقى ( أي ساكتاً منقطعاً مفحماً ) قال عبدان: ذكر – أي عبد الله بن المبارك – هذا عند ذكر الزنادقة و ما يضعون من الأحاديث.
قال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري ـ في كتابه ((معرفة علوم الحديث )) ، بعد ذكره كلمة عبدالله بن المبارك (( الإسناد من الدين ولولا الإسناد … )) .
((قال ابو عبدالله : فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له ، وكثرة مواظبتهم على حفظه ، لدرس منار الإسلام ، وتمكن أهل الإلحاد والبدع منه، بوضع الأحاديث وقلب الأسانيد ، فإن الأخبار إذا تعرَّت عن وجود الإسناد فيها كانت بُتراً.
وقال العلامــة الشيخ عبـد الرحمن المُعلِّمي رحمه الله تعالى في فاتحة كتاب (( تقدمة المعرفة للجرح والتعديل )) لإبن أبي حاتم الرازي:
الإنسان يفتقر في دينه ودنياه إلى معلومات كثيرة ، لا سبيل له إليها إلا بالأخبار وإذ كان يقع في الأخبار الحق والباطل ، والصدق والكذب ، والصواب والخطأ ، فهو مضطر الى تمييز ذلك.
وقد هيّأ الله تبارك وتعالى لنا سلف صدق، حفظوا لنا جميع ما نحتاج إليه من الأخبار، في تفسير كتاب ربنا عز وجل، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه، وقضايا القضاة ، وفتاوى الفقهاء، واللغة وآدابها ، والشعر، والتاريخ، غير ذلك .
والتزموا وألزموا مَنْ بعدهم سَوْقَ تلك الأخبار بالاسانيد، وتتبعوا أحوال الرواة التي تساعد على نقد أخبارهم وحفظوها لنا في جملة ما حفظوا ، وتفقدوا أحوال الرواة، وقضوا على كل راوٍ بما يستحقه، فميَّزوا من يجب الإحتجاج بخبره ولو انفرد ، ومن لا يجب الإحتجاج به إلا إذا اعتضد، ومن لا يحتج به ولكن يستشهد، ومن يعتمد عليه في حال دون أخرى، وما دون ذلك من متساهل ومغفل وكذاب.
وعمدوا الى الأخبار فانتقدوها وفحصوها، وخلَّصوا لنا منها ما ضمَّنوه كتب الصحيح، وتفقدوا الأخبار التي ظاهرها الصحة ، وقد عرفوا بسعة علمهم ودقة فهمهم ما يدفعها من الصحة ، فشرحوا عللها ، وبينوا خللها ، وضمنوها كتب العلل.
وحاولوا ما ذلك إمتة الأخبار الكاذبة ، فم ينقل أفاضلهم منها إلا ما احتاجوا إلى ذكره، للدلالة على كذب راويه أو وهنه. ومن تسامح من متأخريهم فروى كل ما سمع ، فقد بين ذلك ، ووكل الناس الى النقد الذي قد مهدت قواعده، ونصبت معالمه ، فبحقٍّ قال المستشرق المحقق مرجليوث :
((ليفتخر المسلمون ما شاؤا بعلم حديثهم )).
كما حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أبوالعباس من محمد الدوري ، حدثنا أبو بكر بن أبي الأسود ، حدثنا إبراهيم أبو إسحاق الطالقنانى ، حدثنا بقية حدثنا وبالإسناد إلى عتبة بن أبي حكيم أنه كان عند اسحاق بن – عبدالله بن – ابي فروة – أحد الضعفاء المتروكين – وعنده الزهري ، فجعل ابن أبي فروة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له الزهري : قاتلك الله يا ابن أبي فروة ! ما أجرأك على الله ؟!
لا تسند حديثك ! تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة ! انتهى.
وقد جاء عن ابن المبارك وغيره من الأئمة كلمات كثيرة في تبيين مقام الإسناد ، كلها تتجه الى إبراز أهمية (الإسناد) ، وفوائده ، ومزاياه ، ولزوم العناية به ، وأنه من خصائص علوم الإسلام ، وفي نقل جملة منها هنا استكمال لبيان موضع الإسناد من الدين ، وإيضاح لأثره في تبلغي هذه الشريعة الإسلامية المطهرة وعلومها..
وقال عبد الله بن المبارك ايضاً، مَثَلُ الذي يطلب أمر دينه بلا إسناد ، كَمَثَلِ الذي يرتقي السطح بلا سلَّم ، وقال أيضاً : بيننا وبين القوم القوائم ، يعني بالقوائم : الإسناد ، وبالقوم : أهل البدع ومن شاكلهم.
وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى : الإسناد سلاح المؤمن ، فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شي يقاتل؟ وقال أيضاً : الإسناد زين الحديث ، فمن اعتنى به فهو السعيد.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد، كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى وهو لا يدري! . وقال سفيان بين عيينة رحمه اللع تعالى : حدّث الزهري يوماً بحديث ، فقلت : هاته بلا إسناد ، فقال الزهري : أترقى السطح بلا سلم ؟!.
وقال الحافظ بقية بن الوليد الحمصي رحمه الله تعالى : ذاكرت حماد بن زيد بأحاديث ، فقال ما أجودها لو كان لها أجنحة ، يعنى إسناداً ويشير بقوله : لو كان لها أجنحة ، إلى أنها ساقطة لا ترتفع عن الأرض ، لعدم الإسناد فيها ، وقال بعض العلماء : الأسانيد قوائم الأحاديث . أي دعائمها التي تثبت بها.
وقال الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى : ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد . وقال الحافظ يزيد بن زريع رحمه الله تعالى : لكل دين فرسان ، وفرسان هذا الدين اصحاب الأسانيد .
وقال الحافظ الجوَّال الرَّحال أبو سعد السمعاني رحمه الله تعالى ، في كتابه ((أدب الإملاء والإستملاء)):
و(( ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بد لها من النقل ، ولا تعرف صحَّتها إلا بالإسناد الصحيح ،، والصحة في الإسناد لا تعرف إلا برواية الثقة عن الثقة ، والعدل عن العدل )) .
ثم ساق بإسناده إلى (( زُنيج محمد بن عمرو – الرازي شيخ الإمام مسلم وأبي داود وابن ماجه – ، قال : سمعت بَهْزَ بن أسد – العمِّي البصري ، المتوفى بعيد سنة 200 رحمه الله تعالى ، الحافظ الثقة الثبت – يقول إذا ذكر له الإسناد فيه شيء ، قال : هذا فيه عهدة ، ويقول: لو أن لرجلٍ على رجل عشرة دراهم ، ثم حجده ، لم يستطع أخذها منه إلا بشاهدين عدلين ، فدين الله أحق أن يؤخذ فيه بالعدول.
وقال الحافظ أبو حاتم الرازي رحمه الله تعالى : لم يكن في أٌمةٍ من الأمم ، منذ خلق الله آدم ، أمناء يحفظون آثار نبيهم ، وأنساب سلفهم ، إلا في هذه الأمة ، فقال له رجل : يا أبا حاتم ، ربما روَوْا حديثاً لا أصل له ولا يصح ؟ فقال أبو حاتم : علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم ، فروايتهم ذلك – أي الحديث الواهي – للمعرفة ، ليتبيَّن لمن بعدهم أنهم ميَّزوا الآثار وحفظوها.
قال عبد الفتاح : وهذه الكلمات وكثير غيرها من كلمات الأئمة التي جاءت في الاهتمام بالسند أو الإسناد ، دعت المتقدمين من علماء المسلمين ، أن لا يعطوا الاعتبار التام للكتاب إلا إذا كان راويه الثقة الضابط العدل ، قد قرأه على مؤلفه، أو كان لديه سند متصل بقراءة الكتاب وتَلَقِّيه من شيوخه عن شيوخهم إلى مؤلِّفه.
ولهذا قرروا القاعـدة المشهورة في أول كتب آداب البحث والمناظرة ، وهي : ( إن كنت ناقلا فالصِّحة ، او مدعياً فالدَّليل ) ، إي إن كنت ناقلاً لكلام خبري فعليك إثبات صحته عن المنقول عنه ، وإن كنت مدعيا دعوى في موضوع ما عقلي ، فعليك إقامة الدليل على صحة المدعى الذي تدَّعيه ).
وهذا الذي عبَّروا عنه بقولهم : (( إن كنت ناقلاً فالصِّحة ، أو مدعياً فالدَّليل )) ، عبَّر عنه الإمام الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى، بقوله العذب الجامع البليغ، في كتابه: ( مقدمة في أصول التفسير ) (( العلم إما نقلٌ مُصَدَّق ، أو استدلال مُحَقَّق )) انتهى .
وقال الحافظ ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه (( الفصل في الملل والأهواء والنَّحل )) مبيٍّنا أهمية الإسناد وأن من خصائث الأمة الإسلامية ما خلاصته :
(( نقل الثقة عن الثقة ، حتى يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم ، مع الاتصال ، يخبر كل واحدٍ منهم باسمِ الذي أخبره ونسبه ، وكلهم معروف الحال والعين والعدالة والزمان والمكان : خَصَّ الله به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها ، وأبقاه عندهم غضًّا جديداً على قديم الدهور ، يرحل في طلبه إلى الآفاق البعيدة من لا يحصى عددهم إلا خالقهم ، ويواظب على تقييده من كان الناقل قريباً منه.
قد تولى الله حفظه عليهم والحمدلله رب العالمين ، فلا تفوتهم زلَّةٌ في كلمة فما فوقها ، في شيء من النقل إن وقعت لأحدهم ، ولا يُمكن فاسقاً أن يقحم كلمة موضوعة ولله تعالى الشكر .
عن ابن علية وإسحاق بن إبراهيم، قالا: أخذ هارون الرشيد زنديقاً فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي ؟ قال : لأريح العباد منك
فقال: يا أمير المؤمنين، أين أنت من أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم !! أُحرِّم فيها الحلال، وأُحلل فيها الحرام، ما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – منها حرفاً !! فقال له الرشيد :
أين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري وعبدالله بن المبارك !! ينخلانها نخلاً ، فيخرجانها حرفاً حرفاً !! ) انتهى .
وفي سنة 447 في عهد الخليفة العباسي العادل الصالح القائم بأمر الله رحمه الله تعالى ، أظهر بعض اليهود كتاباً ، ادَّعوا أنه كتاب رسول الله الى أهل خيبر (اليهود ) بإسقاط الجزية عنهم ، وفيه شهادة بعض الصحابة رضى الله عنهم بذلك ، وذكروا أن خط سيدنا على رضي الله عنه فيه ، وجاؤا بالكتاب إلى رئيس الرؤساء أبي القاسم على بن الحسن وزير القائم بأمر الله.
فعرضه رئيس الرؤساء على الحافظ الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى، فتأمله ثم قال: هذه كذب مُزوَّر، فقيل له من أين لك هذا ؟
قال : فيه شهادة معاوية رضى الله عنه ، وهو إنَّما أسلم عام فتح مكة – وكان فتحها في سنة ثمان من الهجرة – وفتح خيبر كان في سنة سبع
وفيه شهادة سعد بن معاذ رضي الله عنه، وهو قد مات يوم بني قُريظة قبل فتح خيبر بسنتين ، فاستحسن ذلك من رئيس الرؤساء واعتمده وأمضاه ، ورد اليهود شر رد لظهور تزوير الكتاب.
قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله :
وقال أستاذنا المحقق الإمام ، خاتمة شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية ، شيخ الإسلام مصطفى صبري التوقادي ، المتوفى بالقاهرة سنة 1373 رحمه الله تعالى ، في كتابه الفذ الفريد الذي وُصف حين صدوره بأنه ( كتاب القرن الرابع عشر ) : (( موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين )) وهو يتحدث عن اهتمام المسلمين بحفظ السنة المطهرة وضبطها ، والعناية بحراستها وصيانتها بطريق الإسناد ، ما يلي :
(( الطريقة المتبعة في الإسلام لتوثيق الأحاديث النبوية : أفضل طريق وأعلاها ، لا تدانيها في دِقَّتها وسُموِّها أيُّ طريقة علمية غربية اتبعت في توثيق الروايات، ففي (صحيح البخاري) مثلاً : ألفان وست مئة واثنان من الأحاديث المسندة، سوى المكررة ، انتقاها البخاري من مئة الف حديث صحيح يحفظها، وفيه قريب من ألفي راوٍ ، اختارهم من نيِّفٍ وثلاثين ألفاً من الرُّواة الثقات الذين يعرفهم ، وكتاب البخاري ، البالغ أربع مجلدات كبيرة ، يبقى بعد حذف أسانيده على حجم مجلد واحد متوسط الحجم.
فهل سمعتم وسمعت الدنيا أن كتاب تاريخ في هذا الحجم ، يُروى ما فيه سماعاً من ألفي رجل ثقة ، يعرفهم المؤلف وغيره من أهل العلم ، بأسمائهم وأوصافهم ، على أن تكون كل جملة معيَّنة في الكتاب ، مؤلفة من سطر أو أكثر أو اقل تقريباً ، سمعها فلان ، وهو من فلان ، إلى أن اتصل – الإسناد والسماع – بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فيقام لكل سطر من سطور الكتاب تقريباً شهود من الرُّواة يتحملون مسؤولية روايته )) إنتهى .
وهذا شيء لا يوجد في الدنيا إلا عند المسلمين.
وقال الشيخ مصطفى صبري قبل ذلك بصفحات ، ولا مغالاة أصلاً في نفي من يُساوي محمداً صلى الله عليه وسلم أو يُدانيه ، في كون حياته من بعد مبعثه إلى وفاته – ولا سيما أحاديثه مع المناسبات الداعية الى ورودها – مضبوطة مدوَّنة- ولا نغالي أيضاً إذا قلنا : إن ضبط سُنة نبي الإسلام أصح وأثبت من ضبط كتب أهل الكتاب.
فقد أدى كمال الاعتناء الإسلامي بحياة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وتتبُّع أقواله وأفعاله ، إلى الاعتناء بحياة المتتبعين أنفسهم أعني الرُواة عنه ، وليس أحدٌ في الدنيا عُني في سبيل العناية به ، بكل من لقيه وبكل من روى عنه شيئاً ، وبمن روى ، عمن روى ، عمن روى إلى آخره – إلا رسول الله سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم -.
وأُلِّف في الصحابة الكتب ، مثل طبقات ابن سعد ، وكتاب الصحابة لابن السكن ، وكتاب الاستيعاب لابن عبد البر ، ومعرفة الصحابة للبغوي ن وأُسد الغابة لابن الأثير ، والإصابة لابن حجر ، وغيرها من المؤلفات ، ففيها نحو عشرة آلاف صحابي مع تراجمهم.
ودُرس في كتب أسماء الرجال من التابعين ، وتبع التابعين ، حياة نحو مئة ألف رجل على الأقل ، وعلى تخمين العالم الألماني (شبرينجر) خمس مئة ألف ، فلا أغالي إذا قلت أيضاً : إن كيفية الاعتناء بحياة محمد صلى الله عليه وسلم معجزة من معجزات الإسلام ، قال العالم الألماني المار الذكر في مقدمة كتاب ((الإصابة)) الذي طبع في كلكته في الهند وتولَّى تصحيحه :
إن الدنيا لم تر، ولن ترى، أمةً مثل المسلمين، فقد درس بفضل علم الرجال الذي أوجدوه حياة نصف مليون رجل.
وحسبك أن نقد الرجال أي رجال الحديث أصبح علماً مدوناً في الإسلام ، له كتب خاصة لا تستوعبها المجلَّدات ، نذكر منها : ((تهذيب الكمال)) للمزَّي ، وعليه كتاب علاء الدين مُغُلطاي في ثلاثة عشر مجلداً ، و ((تهذيب التهذيب)) للحافظ ابن الحجر في اثني عشر مجلداًَ ، و ((ميزان الاعتدال)) للذهبي، و ((لسان الميزان)) لابن حجر ، وغيرها مما لا يحصى.
كان كل هذا التوسع في تدقيق أحوال الرجال ، للاطلاع على منزلة رواة الأحاديث في الصدق والضبط والأمانة
قال العلامة الفاضل الشيخ شبلي النعماني الهندي في كتابه عن السيرة النبوية :
(( إن كل مِلَّةٍ وكل طائفةٍ من معتنقي الأديان ، تُقدَّس دينها وتفضله على دين غيرها ، فلو وجَّهنا سؤالاً عاماً إلى جميع أهل الأرض عمن له الموجودية الفائقة من بين مؤسسي الأديان ، فلا شك أن الأجوبة على هذا السؤال ترد مختلفةً بعدد اختلاف مرسليها في الدين .
ولكن إذا زدنا تفصيلاً وإيضاحاً في لفظ السؤال ، فقلنا مثلاً : من ذا الذي ضُبط جميع نصوص كتابه المُنزل عليه ضبطاً ، وثُبِّت حرفيِّاًَ بموفقية وصداقة لم تكونا من حظ الكتب المقدَّسة ؟
ومن ناحية أخرى: قُيِّد ونُقل جميع وقائع حياته، وجميع أفعاله وأقواله وأسفاره وأخلاقه وعاداته، حتى شكل لباسه، وصورة تلبُّسه، وخطوط وجهه، وكيفيِّة تكلُّمه ومشيه، وطرز معاشرته، وحتى أكله وشربه ونومه وتبسُّمه ومساعيه بجميع فروعه وتفاصيله ؟ فالجواب – لا بدَّ أن يكون -: محمد صلى الله عليه وسلم )) انتهى. باختصار وتصرف يسير.
وقال الإمام أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدَّغولي السرخسي رحمه الله تعالى : سمعت محمد بن حاتم بن المظفَّر يقول : إن الله تعالى قد أكرم هذه الأمة وشرَّفها وفضلها بالإسناد ، وليس لأحدٍ من الأمم كلَّها قديمها وحديثا إسناد ، وإنما هي صحف في أيديهم ، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم ، وليس عندهم تمييزٌ بين ما نزل من التوراة والإنجيل مما جاءهم به أنبياؤهم ، وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي أخذوها عن غير الثقات.
وهذه الأمة الشريفة – زادها الله شرفاً بنبِّيها – ، إنما تنُص الحديث – أي ترويه – عن الثقة المعرف في زمانه ، المشهور بالصدق والأمانة ، عن مثله ، حتى تتناهى أخبارهم ، ثم يبحثون أشدَّ البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ ، والأضبط فالأضبط ، والأطول مجالسةً لمن فوقه ممن كان أقصر مجالسةً ، ثم يكتبون الحديث من عشرين وجهاً – أي طريقاً – وأكثر ، حتى يهذِّبوه من الغلط والزلل ، ويضبطوا حروفه ، ويعُدُّوه عدَّاً.
فهذا من أفضل نعم الله تعالى على هذه الأمة ، فنستوزع الله شُكر هذه النعمة وغيرها من نعمه ، ونسأله التثبيت والتوفيق لما يقرِّب إليه ، ويزلف لديه ويمسِّكنا بطاعته ، إنه ولي حميد . انتهى
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مصدر البحث : كتاب الإسناد من الدين للشيخ عبد الفتاح أبوغدة