حكم الجهر والاجتماع على الذكر
حكم الجهر والاجتماع على الذكر
الأستاذ: كمال بوغلة
مقدمة
دأب المغاربة على تحفيظ القرآن أولادهم منذ القديم، إذ أن بلاد المغرب الإسلامي كانت مشهورة بتعلم القرآن وتعليمه، وبقيت هذه السنة المحمودة إلى عهد قريب، حيث لا تكاد تجد يافعا إلا ويحفظ شطراً من كتاب الله تعالى، ولقد استعان هؤلاء على الحفظ بالأسلوب الجماعي وهو ما يسمى عندهم “بالتكرار” من أجل ترسيخ الحفظ وتيسيره. لكن المدة الأخيرة شهدت ظهور بعض المتدينين الجدد الذين تأثروا باجتهادات المشارقة فاستقوا منهم فتاواهم وأنكروا كل أصيل غثه وسمينه، وراحوا ينعتون الجاهرين بالذكر والمجتمعين عليه بمختلف الأوصاف، فاضطربت الأحوال، واختلطت الأقوال بين مانع ومجيز، فاقتضى الأمر كتابة هذه الرسالة للسباحة في مختلف الآراء، واستقصاء الصواب وحسما للخلاف وقطعا لدابر الفتنة وإقامة للحجة، وليحذر المتشدقون من حديث الرسول : r ((من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار))[الترمذي وقال حسن صحيح]، وقوله تعالى: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَـنَـعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة/114].
وما أطلبه من القارئ هو القراءة المتأنية وإبعاد الأحكام المسبقة، وإخلاص النية للبحث عن الصواب. هذا ونسأل الله التوفيق والسداد.
مدلول الذكر
الذكر مصدر ذَكَرَ، وهو ما يجري على القلب واللسان والمراد به هنا ذكر الله تعالى.
وأنهى الحسين الدمغاني في كتابه “إصلاح الوجوه والنظائر في القرآن الكريم” معاني لفظة الذكر إلى ثمانية عشر معنى نذكر منها:
العمل الصالح : كقوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُم ْ)[البقرة/152].
الذكر باللسان : كقوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُـــم ْ)[النساء/103].
الذكـر في القلب والنفس : كقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ )[آل عمران/135] .
العظة : كقوله تعـــالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ)[الغاشية/21]؛ الخبر، كقوله تعالى:( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي )[الأنبياء/24].
الوحي : كقوله تعالى: أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا)[القمر/26].
اللوح المحفوظ : كقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ ) الأنبياء/105.)
صلاة الجمعة : كقوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ )[الجمعة/09.)
وخلاصة القول في معنى الذكر -على وجه العموم- أنه يشمل مطلق الثناء على الله بما يستحقه من جميل بالقلب واللسان والأركان، ويشمل الصلاة والتسليم على الرسول r ، ويشمل مطلق الدعاء من الخلق إلى الخالق.
وسائل الذكر
في إمكاننا أن نجمل وسائل الذكر في وسيلتين اثنتين:
الوسيلــة الأولى : الفكـر
فالتفكر في الأشياء وتصورها مقدم بالطبع ع لي مباشرة فعلها أو تركها. وقد جاءت لفظة “التفكـر” ومشتقاتـه، في عـدة آيات في الذكر الحكيم، مثل قوله تعالى:( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران/191]؛ ومثل قوله تعالى:( أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى)[ الروم/8]
وقد جاءت أيضا بلفظة التفكر ومشتقاته عدة أحاديث نبوية، منها ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله r قال: ((تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله)) الطبراني وغيره.
والذكر بالقلب يشمل جميع ما تطمئن إليه النفس من المضمرات الخيرية سواء كانت هذه المضمرات بين الذاكر وربه، أو بينه وبين نفسه، أو بينه وبين أخيه، والذكر في النفس والتفكر أفضل الأذكار عند العارفين بالله لأنه عمل في الخفية الذي أمر الله به في كتابه العزيز، وحثّ الرسول r في سنته الشريفة، ولأنه طارد للغفلة، وداع إلى استحضـار عظمة الواحد القهار في الحركات والسكنات، ولأن ثمرات الأذكار باللسان كلها حظوظ النفس.
الوسيلة الثانية : اللسان
فالذكر متى أطلق يكون بجارحة اللسان، فعن عبد الله ابن بشر قال: أتى النبيَّ r رجل فقال: “يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ ، فبابٌ نتمسك به جامع، فقال: ((لا يزال لسانك رطبا بذكر الله))[أحمد] .
فالذكر متى أطلق انصرف إلى صيغ الأذكار المأثورة عن الرسول r وهي كثيرة جدا ومرغب فيها شرعا طوال الليل والنهار كما أن بعضها متأكد في أوقات معينة.
فمن ذلك عقب كل صلاة مكتوبة في الصلوات الخمس المفروضة، ويتأكد استحباب الذكر عقب صلاة الصبح حتى الشروق وعقب صلاة العصر حتى الغروب؛ قال تعالى 🙁 و وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ)[آل عمران/41] وقال:( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا )[طه/130)
وأفضل صيغ الأذكار تلاوة القرآن وتعليمه وتعلمه.
يقول بعض الصالحين:إنَّ الذكر على سبعة أنحاء:
ذكر العينين بالبكاء
وذكر الأذنين بالإصغاء
وذكر اليدين بالعطاء
وذكر البدن بالوفاء
وذكر القلب بالخوف والرجاء
وذكر الروح بالتسليم والرضاء.
في جواز الجهر بالذكر والاجتماع عليه
القائلون بجواز الجهر، احتجوا بوجوه قوية نذكر منها:
ما رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي في “شعب الإيمان” عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله r :((يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة. ))
قال الحافـظ عبـد العظيم المنذري في كتاب “الترغيب والترهيب”: ورواه أحمد بإسناد صحيح وزاد في آخره:
قال قتادة: والله أسرع بالمغفرة.
وقال العلامة الجزري في “مفتاح الحصن الحصين”: فيه دليل على جواز الجهر بالذكر خلافا لمن منعه.
وقال السيوطي: الذكر في الملأ لا يكون إلا عن جهر فدل الحديث على جوازه.
روى الترمذي والنسائي وابن ماجه والبزار والبيهقي في شعب الإيمان وابن أبي الدنيا في “كتاب الذكر” عن أبي عباس مرفوعا: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم إذا ذكرتني خاليا ذكرتك خاليا، وإذا ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ خير من الذي تذكرني فيهم أو أكثر.))
روى البخـاري ومسلـم والبيهقي في “الأسماء والصفات”، عن أبي هريرة مرفوعا :
((إن لله ملائكــةً يطـوفون، في الطرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوما يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم، فَيَحُفُّونَهم بأجنحتهم إلى السماء، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عبيد في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك. فيقول: لو رأوك كانوا أشدّ لك عبادة، وأشد لك تمجيدا، وأكثر لك تسبيحا. فيقول: فما يسألوني؟ فيقولون: يسألونك الجنة، فيقول وهل رأوها؟ فيقولون لا، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا، وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة فيقول: فمم يتعوذون؟ فيقولون من النار. فيقول وهل رأوها. فيقولون: لا فكيف لو رأوها. فقولون: لو رأوها كانوا أشد منها فراراً، فيقول أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك من الملائكة: فلان ليس منهم، إنما جاء لحاجة فيقول لهم: قوم لا يشقى جليسهم.))
وروى نحوه ابن حبان والترمذي وأبو نعيم في “حلية الأولياء” وأحمد وغيرهم.
روى أحمد وأبو يعلى وابن حبان والبيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله r قال: ((يقول الله يوم القيامة: سيعلم أهل الجمع اليوم من أهل الكرم اليوم، فقيل من أهل الكـرم يا رسـول الله؟ فقال: أهل مجالس الذكر.))
روى أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه وابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما، أنهما شهدا على رسول الله r أنه قال: ((لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده.))
روى أحمد والترمذي وحسنه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله: r ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حِلَقُ الذكر.))
روى أحمد عن ابن عمرو قال: ((يا رسول الله، ما غنيمة مجالس الذكر؟ قال: الجنة)). قال المنذري: رواه أحمد بإسناد حسن .
روى الحاكم والبيهقي في “شعب الإيمان” وابن حبان وأحمد وأبو يعلى وابن السني عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله r : ((أكثروا ذكر الله حتى يقولوا إنه مجنون.))
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله: r ((اذكروا الله ذكرا حتى يقول المنافقون إنكم تراؤون.))
قال السيوطي في “نتيجة الفكر في الجهر بالذكر”: وجه الاستدلال بهذين الحديثين أنه إنما يقال ذلك عند الجهر بالذكر لا عند السر.
روى أبو داود وأبو يعلى عن أنس مرفوعا: ((لأن أقعد مع قوم يذكرون الله حتى مطلع الشمس أحبّ إلي من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أقعد مع قوم يذكرون من صلاة العصر -إلى أن تغرب الشمس – أحب إلي من أن أعتق أربعة.))
روى البخاري ومسلم بسندهما عن عمرو بن دينار قال أخبرني أبو معبد أصدق موالي ابن عباس عن مولاه ابن عباس قال: ((إن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس في المكتوبة كان على عهد رسول الله. r وفي رواية لهما: ((كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله بالتكبير.))
فإن قلتَ:
هذا الحديث وإن كان يثبت الجهر بالذكر، إلا أنه غير معمول به عند جمهور الفقهاء: الحنفية والشافعية، فإنهم صرحوا بأنه لا يسن الجهر بالذكر بعد الصلاة، بل بالسر.
وقال النووي في “شرح صحيح مسلم”: هذا الحديث دليل لما قاله يعني السلف، إنه يستحب رفع الصوت بالذكر عقب المكتوبة.
وممن استحبه ابن حزم الظاهري. ونقل ابن بطال وغيره أن أرباب المذاهب متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالذكر، وحمل الشافعي هذا الحديث على أنه جهر وقتا يسيرا، لا أنهم جهروا دائما.
قلتُ-أي- اللكنوي :
عدم كونه معمولا به في استحباب الجهر بالذكر بعد الصلاة لا يستلزم عدم جوازه مطلقا، فإن الحديث دلّ على مطلق الجواز ولو أحيانا وليس المطلوب إلا هذا.
روى سعيد بن منصور، في رواية عبيد بن عمي عن عمر رضي الله عنه، وأبو عبيد من وجه آخر عنه، والبيهقي عنه وعلقه البخاري :((أنه كان يكبر في قبة بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج من تكبيره.))
أقوال العلماء في جواز الجهر بالذكر والاجتماع عليه
الإمام النووي:
ذكر الإمام النووي في كتابه “رياض الصالحين” باباً سمَّاه “استحباب الاجتماع على القراءة” واستدل بحديث أبي هريرة:((وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده))[مسلم]؛ وذكر باباً آخر أسماه “باب فضل حِلَقِ الذكر والندب إلى ملازمتها والنهي عن مفارقتها لغير عذر” وأورد قوله تعالى:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تــَـعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ )[الكهف/27] ثم ذكر حديث: ((إن لله تعالى ملائكةً يطوفون في الطرق…)) وذكر حديث: ((لا يقعد قوم يذكرون الله…)) وذكر مجموعة أخرى من الأحاديث. الإمام مسلم : جاء عند الإمام مسلم في صحيحه باب اسمه “باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن الكريم وعلى الذكر” وأورد في مسلم مجموعة من الأحاديث التي تجيز ذلك.
الإمام الترمذي:
خصص الإمام الترمذي في كتابه الصحيح باباً سماه “باب ما جاء في القوم يجلسون فيذكرون الله تعالى، ما لهم من الفضل” وساق مجموعة من الأحاديث ذكرنا بعضها في هذه الدراسة.
الإمام السيوطي:
ألّف الإمام السيوطي رسالة سماها “نتيجة الفكر في الجهر بالذكر” وقف عليها الإمام اللكنوي، وطبعت أكثر من مرة ضمن الجزء الثاني من كتاب “الحاوي للفتاوى” للإمام السيوطي. ومما قاله الإمام السيوطي حول هذه المسألة: »الذكر في الملأ لا يكون إلا عن جهر فدل الحديث على جوازه«.وقال أيضا: »وجه الاستدلال بهذين الحديثين أنه إنما يقال ذلك عند الجهر لا عند السر«.
الشيخ عبد الحق الدهلوي:
أورد في رسالته المسماة بـ”توصيل المريد إلى المراد، ببيان أحكام الأحزاب والأوراد” كلاما طويلا بالفارسية في جوازه وقد ذكره الإمام اللكنوى معربا نذكر مـنه:»الجهر والإعلان بالذكر والتلاوة والاجتماع للذكر في المجالس والمساجد جائز ومشروع لحديث ((من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه))، وقوله تعالى:( اذْكُرُواْ اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا)[البقرة/200] أيضا يمكن دليلا له، وفي صحيح البخاري: (( كنا لا نعرف انصراف الناس من الصلاة في عهد رسول الله r إلا بالذكر جهرا.))
وفي الصحيح: أنهم: ((كانوا يجهرون بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير))، وجاء في بعض الروايات تخصيصه بالفجر والمغرب.
فأما الاجتماع للذكر بانفراد فهو ثابت من حديث متفق عليه، ومن رواية أبي هريرة مرفوعا ((إن لله ملائكـة يطوفون في الطرق…))، وفي رواية: ((وما جلس قوم مسلمون مجلسا يذكـرون الله فيه إلا حفتهم الملائكة ونزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة.))
وتأويل الذكر بمذاكرة العلم وآلاء الله تعالى بعيد، ولا يجوز حمل اللفظ على خلاف المتبادر إلى الذهن من غير ضرورة«
ولا يقال: لا يلزم من اجتماع قوم للذكر جهرهم بالذكر لجواز أن يكون ذكر كل منهم سرا على حدة. لأنا نقول: إذا كان الذكر سرا، فلا يظهر للاجتماع فائدة معتد بها.
وأما الاجتماع للتلاوة فهو ثابت من حديث: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يقرؤون القرآن، ويتدارسونه إلا حفت بهم الملائكة)). ومن هاهنا أخذوا جواز قراءة الأحزاب في المساجد والمجالس.
وذهب مالك وأصحابه إلى كراهة جميع هذه الأمور لعدم عمل السلف بها، ولسدّ الذرائع، وقطع مواد البدعة، لئلا تلزم الزيادة في الدين والخروج عن الحق المبين، وقد وقع في زماننا هذا ما خافه واتقاه…اهـ
الإمام اللكنوى:
بعد أن ذكر أحاديث القائلين بالجواز قال: »فهذه أحاديث صحيحة يظهر منها من نظائرها صراحة أو إشارة أن لا كراهة في الجهر بالذكر (والاجتماع عليه) بل فيها ما يدل على جوازه، أو استحبابه، كيف لا والجهر بالذكر له أثر في ترقيق القلوب، ما ليس في السر.
نعم الجهر المفرط ممنوع شرعا، وكذا الجهر غير المفرط إذا كان فيه إيذاء لأحد من نائم أو مصل، أو حصلت فيه شبهة رياء أو لوحظت فيه خصوصيات غير مشروعة أو التزام كالتزام الملتزمات، فكم من مباح يصير بالالتزام -من غير لزوم- والتخصيص -من غير مخصص- مكروها، كما صرّح به علي القارئ في “شرح المشكاة” والحصكفي في “الدر المختار”«.
العلامة عبد الفتاح أبو غدة:
قال رحمه الله: »وقد ذهب بعض العلماء إلى منع الجهر بالذكر منفردا أو بجماعة، ولكن الحق جوازه ومشروعيته لشروطه، كما حققه الإمام اللكنوي في هذه الرسالة والإمام السيوطي قبله«.
الدكتور محمد بن عبد الكريم:
قـال: والمعترض على الذكر جماعةً محجوج بحجتين اثنتين:
الحجة الأولى:
أن الكتاب والسنة قد أطلقا الذكر، ولم يقيداه بالفرد أو الجماعة بل أمرا به الإنسان تارة بصيغة المفرد، وتارة بصيغة الجمع، ومن هنا أصبحت كيفية أداء الذكر مباحة، اعتمادا على القاعدة الأصولية التي تقول: “الأصل في الأشياء الإباحة، حتى يأتي دليل من الكتاب أو السنة بوجوبها أو تحريمها.
الحجة الثانية:
أن بعض الأحاديث النبوية تشير إلى استحباب الاجتماع على الذكر وعلى قراءة القرآن، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر)). وقال أيضا عندما خرج على حلقة من أصحابه كانوا بالمسجد: ((ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، نحمده على ما هدانا للإسلام ومنّ به علينا. قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة.))
وقال أيضا: ((لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده)).
وقال : r ((…وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله… )). أدلة القائلين بمنع الجهر بالذكر والاجتماع عليه والتعقيب على استدلالاتهم:
استدل القائلون بمنع الجهر بالذكر والاجتماع عليه بأدلة كثيرة منها:
1- ( قوله تعالى ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ)[الأعراف/205] فإن هذه الآية تدل بالذكر خفية فيكون الجهر به ممنوعا إلا فيما ورد به النص.
والجواب على هذا الاستدلال بوجوه:
-هذا الأمر ليس للافتراض أو الوجوب حتى يحرم ضده أو يكره، بل هو أمر إرشادي يرشدك إليه قوله تعـــالى:?تضرعا وخيفة?.
-هذه الآية محمولة على سامع القرآن كما يدل عليه اتصاله بقوله تعالى:? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ?[الأعراف/204] فالمعنى: “اذكر ربك أيها المنصت في نفسك تضرعا وخيفة”، وكذا أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابـن زيد، وقال السيوطي في “نتيجة الفكر”: »كأنه لما أمر بالإنصات، خشي من ذلك البطالة فنبه على أنه وإن كان مأمورا بالإنصات، إلا أنه يكلف بالذكر القلبي حتى لا يغفل عن ذكر الله تعالى، ولذا ختم بقوله: (وَلاَ تَكُنْ مِنْ الْغَافِـلِـين) فلا دلالة في الآية على منع الجهر.
-هذه الآية تدل على إثبات الجهر غير المفـرط، لا على منعه، ومعنى قوله:( وَدُونَ الْجَهْرِ) المفرط، والمراد منه أن يقع الذكر بحيث يكون بين المخافتة والجهر، كما قال تعالى:( وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً)[الإسراء/110]. وعلى هذا تدل الآية على جواز السر والجهر كليهما، وأفضلية السر للتضرع والخفية.
2- روى ابن شيبة وأحمد بن حنبل وابن مردويه والبيهقي في كتاب “الأسماء والصفات” عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: ((كنا مع رسول الله r في غزاة، فجعلنا لا نهبط واديا ولا نصعد شرفا، إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، فدنا منا وقال: يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا، إنمـا تدعــون سميعا بصيرا، إن الذين تدعون أقرب إليكم من عنق راحلة أحدكم.))
قال النووي في شـرح صحيح مسلم: »قوله (اربعوا) بهمزة وصل، وفتح الباء الموحدة، معناه: ارفقوا بأنفسكم، واخفضوا أصواتكم، فإن رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد حتى يخاطبه ففيه الندب إلى خفض الصوت بالذكر إذا لم تدع حاجة إلى رفعه فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه فإن دعت حاجة إلى الرفع رفع«.
والجواب عنه من وجوه:
-أن الأمر من “اربعوا” ليس للوجوب حتى يكره الجهر أو يحرم وكيف ومعنى الربع ينبئ عن أن الأمر إنما هو للتيسير عليهم، ولذا قال الشيخ الدهلوي في “اللمعات شرح المشكاة”: »في قوله “اربعوا” إشارة إلى المنع من الجهر للتيسير والإرفاق، لا لكون الجهر غير مشروع«؛ فلا يثبت من ذلك استحباب السر، ولا كلام فيه.
-بأن جهرهم كان مفرطا كما يدل عليه سياق بعض الروايات قال في “فتح الورود شرح سنن أبي داود”: »في قوله: “رفعوا أصواتهم” دلالة على أنهم بالغوا في الجهر، فلا يلزم منه منع الجهر مطلقا«.
-هو أنه لم يمنعهم رسول الله r بل أقرهم عليه، ليفهموا أن رفع الصوت بالذكر في السفر، أو عند صعود الثنية مسنون، فإن السنية كما تثبت بالقول والفعل، كذلك تثبت بالتقرير. فلذلك نهى رسول الله سدا للذرائع، وتيسيرا على الأمة، ولا دلالة على منع الجهر مطلقا كما لا يخفى.
3- ( ومنها قوله تعالى:( وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) [الإسراء/110].
والجواب عنه بوجوه:
-هذه الآية لم تمنع الجهر مطلقا، بل الجهر المفرط لقوله:( وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً) فكانت دليلا للمجوزين لا للمانعين.
-هذه الآية نزلت لما كان رسول الله r مختفيا بمكة، فكان إذا صلى جهر فسمعه المشركون فسبوا القرآن ومن أنزله، فنهاه الله تعالى عن ذلك، وقـال: ( وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ) أي بقراءتك القرآن في الصلاة، لئلا يسمعه المشركون فيسبونه: ( وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ ) أي الجهر الجهير والسر الكثير (سَبِيلاً).
كذا أخرجه البخاري والترمذي وقال: حسن صحيح عن ابن عباس. فالمنع إنما كان لإيذاء المشركين وسبهم، وقد زال هذا فيزول المنع أيضا.
4- ومن أدلة المانعين: (إخراج ابن مسعود رافعي أصواتهم في المساجد وقوله لهم: ما أراكم إلا مبتدعين.)
والجواب عن ذلك من وجوه:
-أن هذا الأثر وإن ذكره جمع من الفقهاء، لم يوجد له أثر في كتب الحديث، بل الثابت خلافه. قال السيوطي في “نتيجة الفكر”: »هذا الأثر عن ابن مسعود يحتاج إلى بيان سنده ومن أخرجه من الحفاظ في كتبهم، ورأيت ما يقتضي إنكار ذلك عن ابن مسعود، وهو ما رواه ابن حنبل في كتاب “الزهد” حدثنا حسين بن محمد بسنده عن أبي وائل قال: ((هؤلاء الذين يزعمون أن عبد الله ينهى عن الذكر، ما جالست عبد الله مجلسا قط إلا وذكر الله فيه)).
-أنه على تقدير ثبوته معارض بالأحاديث الصحيحة الصريحة في جواز الجهر غير المفرط، وهي مقدمة عليه عند التعارض.
-الإخراج من المسجد لو نسب إليه بطريق الحقيقة، يجوز أن يكون ذلك لاعتقادهم العبادة فيه، ولتعليم الناس أنه بدعة، والفعل الجائز يجوز أن يكون غير جائز لغرض يلحقه، فكذا غير الجائز يجوز أن يجوز لغرض، كما ترك رسول الله r الأفضل تعليما للجواز.
5- ومن أدلة المانعين ما رواه البيهقي في “شعب الإيمان” وابن حبان وأحمد في مسنده، عن سعد بن مالك بسند صحيح مرفوعا: ((خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي)) فإن هذا الحديث يدل على أن الذكر الجهري شر، والشر لا يكون إلا حراما أو مكروها.
والجواب عنه: أن هذا لا يدل على منع الجهر، بل على أفضلية السر ولا كلام فيه، وذلك لأن لفظ الخير له استعمالات:
أحدها: أن يراد به معنى التفضيل، وضده حينئذ شر.
ثانيها: أن يراد به معنى الأفضلية، وحينئذ فأصله أخير. وقد سئل السيوطي عن حديث: ((حياتي خير لكم ومماتي خير لكم)): كيف يمكن أن يكون كل منهما خيرا من الآخر.
فأجاب: بأن للخير استعمالين، فالخير في هذا الحديث للاستعمال الأول، فيراد به التفضيل لا الأفضلية، والمقصود أن في كل من حياته وموته r خير. إذا عرفت هذا فنقول: الخير في قوله: ((خير الذكر الخفي)) ليس بالمعنى الأول، بل بالمعنى الثاني، فيكون المطلوب أن في الذكر الخفي زيادة خير، وفي الجهر أقل منه لا أن الجهر شر كما فهم المستدل.
هذا ونسأل الله تعالى أن ينفع قارئ هذه البحث ويوفقه للعمل به إنه على ذلك لقدير، وبالإجابة لجدير وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع
– التصوف في ميزان الإسلام، للدكتور محمد بن عبد الكريم.
– ساحة الفكر في الجهر بالذكر للإمام أبي الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي باعتناء العلامة عبد الفتاح أبو غدة.
مرجع البحث :
http://www.marwakf-dz.org/majaletmasjeed/majaletmasjeed302.php