دواعي المحبة والألفة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي دعى إلى التآلف والتآخي بين البشر.. وهيأ أسباب الرزق المعلوم لهم بقدر.. أظهر الجميل منا وللقبيح ستر.. فمن أطاعه غفر له.. ما خفي منه وما ظهر.. ومن عصاه خاب وخسر.. أعل المتحابين فيه على منابر وسرر.. تحت ظل العرش في أعلى مستقر.. والصلاة والسلام على سيدنا محمد ذي الوجه المنير الأزهر.. كان أتقى الناس وأحسنهم عشرة في الحضر والسفر.. كان خلقه القرآن وبذلك جاء الخبر.. اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر.. ما تعاقب الليل والنهار وكلما أشرقت الشمس أو بزغ القمر. أما بعد.. قال تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم} الأنفال آية 1. وقال تعالى: {الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين} الزخرف آية 67. وقال تعالى: {إنما المؤمنون اخوة} الحجرات 10. وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى».. وكان عمر الفاروق رضي الله عنه يقول «ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تبدأه بالسلم، وأن تناديه بأحب الأسماء إليه، وأن تفسح له في المجلس».
لقد كان سلف الأمة من الصحابة الأخيار.. والآل الأطهار.. يتزاورون في الله ويتحابون في الله ويغضبون لله ويبغضون في الله أطاعوا الله ورسوله.. فهانت عليهم الدنيا وما فيها من ملهيات.. وتزودوا من النوافل والقربات.. فدنت لهم الدرجات.. وارتقوا إلى المراتب الرفيعات.. وحطت عنهم الذنوب والتبعات وجميع السيئات.. فرضي عنهم رب الأرض والسموات.
أخي المسلم نضع بين يديك هذا الكتيب المتواضع الصغير في حجمه الكبير في محتواه.. لمن أراد الاستبصار.. ولو طبقنا ما فيه من كلام سيد الأبرار.. لصفت النفوس والأسرار.. راجين بهذا العمل أن ننال رضى العزيز الغفار.. وشفاعة المصطفى المختار.. وأن يكون ذلك سببا وزيادة في الاعتبار.. حتى نلحق بركب الأخيار.. من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين والأطهار.. إنه سميع قريب مجيب غفار…
وصلى الله على سيد الأبرار وزين المرسلين الأخيار
إفشاء السلام
عن أبي هريرة رضي اله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم». رواه مسلم.
قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: ومعنى الحديث لا يكمل إيمانكم ولا يصلح حالكم في الإيمان إلا بالتحاب، وفي الحديث الحث العظيم على إفشاء السلام وبذله للمسلمين كلهم من عرفت ومن لم تعرف. والسلام أول أسباب التآلف ومفتاح استجلاب المودة وفي إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضهم لبعض وإظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم من أهل الملل مع ما فيه من رياضة النفس ولزوم التواضع وإعظام حرمات المسلمين. اهـ.
والسلام اسم من أسماء الله تعالى وضعه الله في الأرض. وهو دعاء بالأمن من كل ما يخاف في الدنيا والآخرة. وقد سماه اله تحية طيبة مباركة، واختاره تحية للأنبياء والملائكة وجعله تحية المؤمنين بعضهم لبعض في الجنة وتحية الله لهم.
قال الله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شيء حسيبا}. سورة النساء.
قال الإمام الماوردي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: «بأحسن منها» يعني الزيادة في الدعاء. «أو ردوها» يعني بمثلها.
وروى الحسن أن رجلا سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعليكم السلام ورحمة الله» ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته» ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وعليكم» فقيل: يا رسول الله رددت على الأول والثاني وقلت للثالث وعليكم، فقال: إن الأول سلم وأبقى من التحية شيئا فرددت عليه بأحسن مما جاء به وكذلك الثاني وإن الثالث جاء بالتحية كلها فرددت عليه مثل ذلك. رواه ابن جرير عن سلمان الفارسي رضي الله عنه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما خلق الله تعالى آدم صلى الله عليه وسلم قال: إذهب فسلم على أولئك – نفر من الملائكة جلوس – فاستمع ما يحيونك، فإنها تحيتك وتحية ذريتك: السلام عليكم، قالوا: السلام عليكم ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله. متفق عليه.
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: السلام اسم من أسماء الله تعالى وضعه في الأرض فأفشوه بينكم، فإن الرجل المسلم إذا مر بقوم فسلم عليهم فردوا عليه، كان له عليهم فضل درجة بتذكيره إياهم السلام، فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم. رواه البزار والطبراني.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة. رواه أبو داود والترمذي والنسائي في عمل اليوم والليلة.
قال مجموعة من العلماء في تهذيب الترغيب والترهيب للإمام المنذري رحمه الله تعالى: وفي هذه الأحاديث استحباب السلام على من تعرف ومن لا تعرف، وهو سنة مؤكدة في حق الفرد وسنة كفاية في حق الجماعة، ورد السلام واجب كفائي بحق الجماعة، عيني بحق الفرد، والسلام أفضل من الرد، وهو وسيلة المحبة بين المسلمين.
التبسم وطلاقة الوجه
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تبسمك في وجه أخيك صدقة. مختصر من حديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
قال الإمام المناوي في فيض القدير: تبسمك في وجه أخيك أي في الإسلام لك صدقة، يعني إظهارك له البشاشة والبشر إذا لقيته تؤجر عليه كما تؤجر على الصدقة، قال بعض العارفين: التبسم والبشر من آثار أنوار القلب (وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة) والبشاشة مصيدة المودة والبر شيء هين وجه طليق وكلام لين. قال ابن عيينة: وفيه رد على العالم الذي يصعر خده للناس كأنه منزه عن الناس مستقذر لهم أو غضبان عليهم، قال الغزالي: ولا يعلم المسكين أن الورع ليس في الجبهة حتى يقطب ولا في الوجه حتى يعفر ولا في الخد حتى يصعر ولا في الظهر حتى ينحني ولا في الذيل حتى يضم إنما الورع في القلب.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق. رواه مسلم.
قال ابن علان في كتابه دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين: أي بوجه ضاحك مستبشر وذلك لما فيه من ايناس الأخ المؤمن ودفع الايحاش عنه وجبر خاطره، وبذلك يحصل التأليف المطلوب بين المؤمنين.
وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل معروف صدقة وان من المعروف، أن تلقى أخاك بوجه طلق وأن تفرغ من دلوك في إناء أخيك. رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
جاء في كتاب موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين للشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى: قال بعض الحكماء: إن أردت حسن المعيشة خالق صديقك وعدوك بوجه الرضا. وتوقر من غير كبر، وتواضع في غير مذلة، وكن في جميع أمورك في أوسطها فكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
المصافحة
لاشك أن المصافحة بين الاخوان توثق عرى المحبة والمودة بينهم هذا مع مغفرة الله سبحانه وتعالى لهما.
عن البراء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا. رواه أبو داود.
وعن أبي الخطاب قتادة قال: قلت لأنس: أكانت المصاحفة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. رواه البخاري.
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تلاقوا تصافحوا، وإذا قدموا من سفر تعانقوا.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: والمصافحة سنة مجمع عليها عند كل لقاء. وقال الامام الكرماني رحمه الله تعالى: وهي (أي المصافحة) مما يؤكد المحبة.
وذكر الشيخ عبدالرحمن حسن حبنكة الميداني في كتابه القيم (الأخلاق الإسلامية وأسسها): تحت باب من ظواهر خلق سماحة النفس المصافحة بوصفها مظهرا من مظاهر البشر وحسن التلاقي وآدابه. ثم ساق الأحاديث التي مرت معنا وفيها الحث على المصافحة بين الاخوان.
وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المسلم إذا لقي أخاه فأخذ بيده تحاتت عنه ذنوبهما كما يتحات الورق عن الشجرة في ريح عاصف وإلا غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحر. رواه الطبراني بإسناد حسن. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح غير سالم بن غيلان وهو ثقة.
الكلمة الطيبة
للكلمة الطيبة أثر عظيم في إشاعة روح المحبة والتآلف بين المسلمين فعندما تبادر أخاك بالكلام الحسن والسؤال عن أحواله فإن ذلك يفرحه ويرسخ لك المحبة في قلبه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والكلمة الطيبة صدقة. وهو جزء من حديث متفق عليه. وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة. متفق عليه.
ذكر الإمام ابن علان في دليل الفالحين شارحا لعنوان الباب (استحباب طيب الكلام) أي لينه وترك خشونته، وطلاقة الوجه هي تهلله بالانشراح والابتسام عند اللقاء قال الشاعر:
بشاشة وجه المرء خير من القرى فكيف بمن يقري القرى وهو يضحك
القرى: استضافة الضيف.
قال الله تعالى {واخفض جناحك للمؤمن) لين جانبك وتواضع للمؤمنين.
وقال الإمام ابن علان في موضع آخر شارحا للحديث: والكلمة الطيبة كأمر بمعروف ونهي عن منكر وإلانه لمخاطب في غير مأثم.
قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: فيه (أي الحديث) أن الكلمة الطيبة سبب للنجاة من النار وهي الكلمة التي فيها تطييب قلب إنسان إذا كانت مباحة أو طاعة.
قال الله تعالى {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاه الا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم}. فصلت آية 33-35.
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى في كتابه في ظلال القرآن في تفسيره لهذه الآيات (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين) أن كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء. ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة، ومع الاستسلام لله الذي تتاورى معه الذات، فتصبح الدعوة خالصة لله ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ، ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالاعراض أو بسوء الأدب أو بالتبجح في الانكار، فهو إنما يتقدم بالحسنة فهو في المقام الرفيع، وغيره يتقدم بالسيئة فهو في المكان الدون.
(ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) وليس له (أي للداعية) أن يرد بالسيئة، فإن الحسنة لا يستوي أثرها – كما لا تستوي قيمتها – مع السيئة، والصبر والتسامح والاستعلاء على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة، فتنقلب مع الخصومة إلى الولاء، ومن الجماح إلى اللين.
(ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) وتصدق هذه القاعدة في الغالبية الغالبة من الحالات، ويقلب الهياج إلى وداعة والغضب إلى سكينة، والتبجح إلى حياء، على كلمة طيبة، ونبرة هادئة، وبسمة حانية في وجه هائج غاضب، متبجح مفلوت الزمام، ولو قوبل بمثل فعله ازداد هياجا وغضبا وتبجحا ومرودا، وخلع حياؤه نهائيا، وأفلت زمامه، وأخذته العزة بالاثم، غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسمح وهو قادر على الإساءة والرد، وهذه القدرة ضرورية لتؤتي السماحة أثرها، حتى لا يصور الإحسان في نفس المسيء ضعفا، ولئن أحس أنه ضعف لم يحترمه، ولم يكن للحسنة أثرها إطلاقا.
الحب في الله تعالى
وعن أبي هريرة رضي اله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم ذكر السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم: ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه. (جزء من حديث متفق عليه).
قال الإمام ابن علان: المراد أنهما داما على المحبة ولم يقطعاها لعارض دنيوي سواء اجتمعا حقيقة أم لا حتى فرق بينهما الموت.
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن انقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار. متفق عليه.
قال الامام جلال الدين الرومي رحمه الله تعالى: إن الحب الخالد ليحول بإذن الله تعالى المر حلو، والتراب برا، والكدر صفاء – والألم شفاء، والسجن روضة، والسقم نعمة، والقهر رحمة، والليل نهارا، والظلام نورا، والقسوة لينا، وهو الذي يلين الحديد، ويذيب الحجر، ويبعث الميت، وينفخ فيه الحياة من جديد.
جاء في موعظة المؤمنين من احياء علوم الدين للشيخ القاسمي رحمه الله تعالى: تحقيق المحبة في الله هو أن يحب المرء لا يحبه لذاته بل إلى حظوظه الأخروية منه كمن يحب أستاذه لأنه يتوسل به إلى تحصيل العلم وتحسين العمل، ومقصوده من العلم والعمل الفوز في الآخرة، فهذا من جملة المحبين في الله وكذلك من يحب تلميذه لأنه يتلقف منه العلم وينال بواسطته رتبة التعليم فهو محب في الله.
وعن أبي كريمة المقدام بن معديكرب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه). رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.
قال الإمام ابن علان: وحكمته أنه سبب لمزيد الحب وتأكده. قال العلامة المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير تعليقا على الحديث السابق: أنه يحبه لله سبحانه وتعالى لأنه إذا أخبره به فقد استمال قلبه واجتلب وده فإنه إذا علم أنه يحبه قبل نصحه ولم يرد عليه قوله. قال البغدادي: إنما حث على الاعلام بالمحبة إذا كانت لله لا لطمع في الدنيا ولا هوى بل يستجلب مودته فإن إظهار المحبة لأجل الدنيا والعطاء تملق وهو نقص.
وعن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: يا معاذ والله اني لاحبك ثم أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
جاء في الوعظ المطلوب من قوت القلوب للشيخ القاسمي: وقد كانت المؤاخاة في الله تعالى، والصحبة لأجله، والمحبة له في الحضر والسفر طرائق للعاملين، لما في ذلك من الفضل، ولما جاء فيه من الأمر والندب إذ كان الحب في الله عز وجل من أوثق عرى الإيمان، وكانت الألفة والصحبة لأجله، والمحبة والتزاور من أحسن أسباب المتقين.
عن عطاء أنه كان يقول: تفقدوا اخوانكم بعد ثلاث، فإن كانوا مرضى فعودوهم، وإن كانوا مشاغيل فأعينوهم، وإن كانوا نسوا فذكروهم.
وكان سعيد بن العاص يقول: لجليسي علي ثلاث: إذا دنا رحبت به، وإذا حدث أقبلت عليه، وإذا جلس أوسعت له. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في وصيته لمجاهد: ولا تذكر أخاك إذا تغيب عنك إلا بمثل ما تحب أن تذكر به إذا غبت، وإعفه بما تحب أن تعفى به. وكان الفضيل رحمه الله تعالى يقول: إذا وقعت الغيبة ارتفعت الأخوة.
وقال الجنيد رحمه الله تعالى: ما تآخى اثنان في الله عز وجل فاستوحش أحدهما من صاحبه واحتشم منه إلا لعله في احدهما.
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: إذا تغير أخوك وحال عما كان فلا تدعه لأجل ذلك، فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى.
وكان بعضهم يقول: لقاء الاخوان مسلاة للهم ومذهب للأحزان.
التفسح في المجلس
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقيمن أحدكم رجلا من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن توسعوا وتفسحوا، وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه. متفق عليه.
جاء في نزهة المتقين: أفاد الحديث حرمة إقامة إنسان من مكان مباح سبق إليه ليجلس به غيره ولو كان الداخل أفضل من الجالس بعلم أو سن وهذا الحكم يشمل الرجال والنساء. ولكن الفقهاء استثنوا من ذلك من عرف بمجلس من المسجد يدرس فيه فجلس فيه غيره فيقام للمدرس. واستثنوا مسائل أخرى. وهذا لا ينافي استحباب القيام للعالم من غير رغبة ولا طلب، وإنما تركه ابن عمر ورعا خشية الدخول في مدلول النهي وفي الحديث استحباب التوسعة للداخل.
وعن ابي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خير المجالس أوسعها. رواه أبو داود بإسناذ صحيح.
قال الإمام السهار نفوري في بذل المجهود تعليقا على الحديث السابق: لأنها (أي المجالس) أبعد من تأذى أهلها، وإمكان التفسح المأمور به.
جاء في نزهة المتقين شرح رياض الصالحين: أفاد الحديث باستحباب إفساح المجالس وذلك لما فيه من الخير والبركة واراحة الجالسين، ودفع ما يفضي إلى ضيق المجلس من الكراهية والبغض.
قال الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير}.
قال الشيخ الصابوني حفظه الله وأطال في عمره في صفوة التفاسير: نداء من الله تعالى للمؤمنين بأكرم وصف وألطف عبارة أي يا من صدقتم الله ورسوله وتحليتم بالإيمان الذي هو زينة الإنسان (إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فأفسحوا) أي إذا قال لكم أحد توسعوا في المجالس – سواء كان مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره من المجالس – فتوسعوا وافسحوا له (يفسح الله لكم) أي وسع لكم ربكم في رحمته وجنته، قال الإمام الفخر الرازي رحمه الله تعالى: مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه، في المكان والرزق والصدر والقبر والجنة، واعلم أن الآية دلت على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا قام أحدكم من مجلس ثم رجع إليه فهو أحق به. رواه مسلم. وعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: كنا إذا اتينا النبي صلى الله عليه وسلم، جلس أحدنا حيث ينتهي. رواه ابو داود والترمذي وقال: حديث حسن.
جاء في نزهة المتقين: أفاد الحديث أنه من أدب الجلوس في المجالس أن يجلس الإنسان حيث ينتهي به المجلس. وعلى القادم حيث يجد فراغا إلا ما خصص لأحد أو شغر المكان لعذر طرأ على صاحبه، ولا يطلب قيام أحد من مجلسه ليجلس مكانه.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما. رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.
جاء في نزهة المتقين: أفاد الحديث حرمة التفريق بين اثنين والجلوس بينهما إلا بإذنهما، ويلحق به انه لا يجوز له التسمع إلى كلامهما إلا برضاهما إذا كانا يتكلمان سرا.
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة. رواه ابو داود بإسناذ حسن.
قال العلامة الراغب الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن: اللعن: الطرد والابعاد على سبيل السخط. وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة، وفي الدنيا انقطاع من قبول رحمته وتوفيقه.
جاء في بذل المجهود للإمام السهارنفوري: قال في فتح الودود: لأنه يستدير بعضهم بظهره فيؤذيه فيستحق السب واللعن، وأيضا يتخطى رقابهم فيؤذيهم. وقال الإمام القاري: يتأول (أي اللعن) بوجهين أحدهما يتخطاهم ولا يجلس حيث ينتهي به المجلس، والثاني يجلس بينهم فيحجب بعضهم عن بعض. وقال الإمام التوربشتي: المراد به الماجن الذي يقيم نفسه مقام السخرية ليكون ضحكة بين الناس، ومن يجري مجراه من المتآكلين بالشعوذة. اهـ. والشعوذة: خفة باليد وأخذ كالسحر يرى الشيء بغير ما عليه أصله في رؤى العين، والماجن: من لا يبالي قولا أو فعلا.
قال الإمام السهارنفوري: قلت وأخرجه الطبراني في الكبير عن واثلة بن الاسقع رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في نفر من أصحابه، فجلست وسط الحلقة، فقال بعضهم: يا واثلة قم عن هذا المجلس، فانا قد نهينا عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوا واثلة فإني أعلم بالذي أخرجه من منزله، قلت: يا رسول الله وما الذي أخرجني من منزلي قال: خرجت تسأل عن البر من الشك، قلت: والذي بعثك بالحق ما أخرجني غيره، قال: فإن البر ما استقر في النفس واطمأن في القلب، والشك ما لم يستقر في النفس، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك، وإن أفتاك المفتون.
فهذا الحديث يدل على جواز الجلوس في وسط الحلقة، فيحمل النهي على التنزيه اهـ.
لين الجانب والسماحة والرفق
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول لله صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بمن يحرم على النار أو بمن تحرم عليه النار – تحرم على كل قريب هين لين سهل. رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
جاء في نزهة المتقين: كل قريب أي محبب إلى الناس لحسن معاملته لهم، وهذا لا ينشأ غالبا إلا من الإيمان الصحيح. هين لين سهل المقصود بهذه الألفاظ التواضع والليونة وحسن المعاملة للناس وقضاء حوائجهم.
وقد أفاد الحديث مكانة الأخلاق وأنها منجاة من النار، وأن حسن معاملة الناس من الإيمان.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله. متفق عليه.
جاء في نزهة المتقين: ان الله رفيق أي لطيف رؤوف بعباده يأخذهم بالأسهل وقد أفاد الحديث الترغيب بالرفق لما فيه من لين الجانب واختيار الأسهل لما في ذلك من تواصل وتآلف.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ان الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطى على العنف وما لا يعطى على ما سواه. رواه مسلم.
وعن جرير بن عبدالله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يحرم الرفق يحرم الخير كله. رواه مسلم.
جاء في نزهة المتقين: يحرم الرفق أي لا يوفق له ولا يكون فيه، بل يكون فيه العنف والقسوة. يحرم الخير كله أي يخسر كل الخير الناشئ عن الرفق، لأن الله يعطي على الرفق ويثيب عليه، فمن فقده فقد كل ثوابه.
وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحمة للرجل السمح فقال: رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى. وفي رواية وإذا قضى. رواه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المؤمن يألف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف. رواه أحمد والبزار والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح.
النداء بأحب الأسماء
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسمائكم. رواه أبو داود.
إن من دواعي الحب والتآلف بين المسلمين أن ينادي كل منهم أخاه بما يحب من الأسماء ويكنيه بأحب الكنى إليه، ولقد كنى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم طفلا صغيرا، روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا – أي ليلاطفنا ويمازحنا – حتى يقول لأخ لي: يا أبا عميرة ما فعل النغير. (النغير وهو طائر).
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه تهذيب الأسماء واللغات: يستحب تحسين الاسم لحديث «أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم فأحسنوا أسماءكم» رواه أبو داود بإسناد جيد. وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أحب أسمائكم إلى الله عبدالله وعبدالرحمن» وفي سنن أبي داود والنسائي عن ابن وهب الجشمي الصحابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله عبدالله وعبدالرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة».
ثم قال الإمام النووي: «ويستحب تغيير الاسم القبيح إلى حسن، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اله عنه أن زينب كان اسمها برة فقيل: تزكي نفسها فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب» ثم قال الإمام النووي: ويحرم تلقيب الإنسان بما يكرهه سواء كان صفة له كالأعمش والأجلح والأعمى والأصم والأقرع والأعرج والأبرص والأحول والأثبج والأصفر والأحدب والأزرق والأفطس والأشتر والأثرم والأقطع والزمن والمقعد والأشل سواء كان صنعه لأبيه أو أمه أو غير ذلك مما يكرهه. واتفقت العلماء على جواز ذكره بذلك على سبيل التعريف لمن لا يعرفه إلا بذلك كهؤلاء المذكورين في المثال فإنهم أئمة وعلماء مشهورون بهذه الألقاب في كتب الحديث وغيرها ولا يعرفهم أكثر الناس إلا بالألقاب. واتفقوا على جواز تلقيبه باللقب الحسن وما لا يكره كعتيق لقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأبي تراب لقب علي بن أبي طالب وذي اليدين لقلب الخرباق بن عمرو وسرق لقب الحباب بن أسد الجهني فهؤلاء صحابيون رضي الله عنهم لقبهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الألقاب وكانوا يحبونها، وتجوز التكنية لكل مسلم، ويستحب لنا أن نكني أهل الفضل من العلماء وغيرهم ويستحب أن يكنى بأكبر أولاده وفي حديث في سنن أبي داود وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل رجلا عن أكبر أولاده فكناه به: ويجوز تكنية بغير أولاده، ويجوز تكنية من لا ولد له.
التزاور في الله
عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن رجلا زار أخا له في قرية فأرصد الله تعالى على مدرجته ملكا فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لي في هذه القرية. قال: هل لك من نعمة تربها؟؟ قال: لا غير أني أحببته في الله. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه». رواه مسلم.
قوله «تربها» أي تقوم بها وتسعى في صلاحها، و«المدرجة» بفتح الميم والراء هي الطريق.
قال الإمام النووي في شرحه لصحيح: قال العلماء: محبة الله عبده رحمته له ورضاه عنه وإرادته له الخير وأن يفعل به فعل المحب من الخير، وأصل المحبة في حق العباد ميل القلب والله تعالى منزه عن ذلك.
في هذا الحديث فضل المحبة في الله تعالى وأنها سبب لحب الله تعالى العبد، وفيه فضيلة زيارة الصالحين والأصحاب.
وقال الإمام القرطبي في كتابه المفهم: بشره الملك بأن الله تعالى قد أحبه بسبب ذلك جي بسبب زيارة أخيه لحبه له في الله تعالى وقد تقدم القول في محبة الله تعالى للعبد، وإن ذلك راجع إلى إكرامه إياه وبره به، ومحبة الله للطاعة: قبولها وثوابه عليها. وفي هذه الأحاديث ما يدل على أن الحب في الله والتزاور فيه من أفضل الأعمال، وأعظم القرب إذا تجرد عن أغراض الدنيا وأهواء النفوس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله فقد استكمل الإيمان. رواه أحمد وأبو داود.
وعن أنس رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد أتى أخاه يزوره في الله إلا ناداه مناد من السماء أن طبت وطابت لك الجنة وإلا قال الله في ملكوت عرشه: عبدي زار في وعلي قراه فلم يرض له بثواب دون الجنة» رواه البزار وأبو يعلي بإسناد جيد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من عاد مريضا أو زار أخا له في الله تعالى ناداه مناد بأن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلا». رواه الترمذي. وقال: حديث حسن. وابن ماجة وابن حبان.
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأثر عن ربه تبارك وتعالى: «حقت محبتي للمتحابين في وحقت محبتي للمتواصلين في وحقت محبتي للمتزاورين في وحقت محبتي للمتباذلين في» رواه أحمد بإسناد صحيح.
وعن عون قال: قال عبدالله يعني ابن مسعود لأصحابه حين قدموا عليه: هل تجالسون؟ قالوا: لا نترك ذلك. فقال: فهل تزاورون؟ قالوا: نعم يا أبا عبدالرحمن إن الرجل منا ليفقد أخاه فيمشى على رجليه إلى آخر الكوفة. قال إنكم لن تزالوا بخير ما فعلتم ذلك. رواه الطبراني.
عدم إيذاء المسلم
عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. جزء من حديث متفق عليه.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: وقوله صلى الله عليه وسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده قالوا معناه المسلم الكامل وليس المراد نفي أصل الإسلام عن من لم يكن بهذه الصفة بل هذا كمال يقال العلم ما نفع أو العالم زيد أي الكامل أو المحبوب ويدل على ما ذكرناه من معنى الحديث قوله أي المسلمين خير قال من سلم المسلمون من لسانه ويده ثم أن كمال الإسلام والمسلم متعلق بخصال أخر كثيرة وإنما خص ما ذكره لما ذكرناه من الحلمة الخاصة والله أعلم.
قال تعالى «والذين يؤذون المؤمنين بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا». الأحزاب 58.
ذكر الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسيره: وروى أن عمر بن الخطاب قال لأبي بن كعب: قرأت البارحة هذه الآية ففزعت منها «والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا» الآية، والله إني لأضربهم وأنهرهم. فقال له أبي: يا أمير المؤمنين، لست منهم، إنما أنت معلم ومقوم. وقد قيل: إن سبب نزول هذه الآية أن عمر رأى جارية من الأنصار فضربها وكره ما رأى من زينتها، فخرج أهلها فآذوا عمر باللسان، فأنزل الله هذه الآية. وقيل: نزلت في علي، فإن المنافقين كانوا يؤذونه ويكذبون عليه. رضي الله عنه.
{والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا} أي والذين يؤذون أهل الإيمان من الرجال والنساء بوجه من وجوه الأذى من قول أو فعل، وسواء أكان الإيذاء للعرض، أو الشرف أو المال، بأن ينسبوا إليهم ما هم برآء منه، لم يعملوه ولم يفعلوه، فهو إيذاء بغير حق، كأن يشتم المؤمن أحدا، أو يضربه، أو يقتله، فقد أتوا بالكذب المحض والبهتان الكبير: وهو نسبة شيء لهم لا علم لهم به ولم يفعلوه، على سبيل العيب والإنقاص، وارتكبوا ذنبا واضحا بينا. ونظير الآية: {ومن يكسب خطئة أو إثما، ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا}. النساء 4/112.
ومن الإيذاء السخرية والتنابز بالألقاب، فقال عز من قائل: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} الحجرات.
قال الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: ينهى تعالى عن السخرية بالناس وهو احتقارهم والاستهزاء بهم كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: الكبر بطر الحق وغمص الناس – ويروى – وغمط الناس». والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم وهذا حرام فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرا عن الله تعالى وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء. رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
قال في دليل الفالحين:
أي ليس شأن ذي الإيمان الكامل الذي ينبغي أن يكون منه كثرة الطعن في الأنساب أو بالإعابة واللمز ولا اللعان أي كثير اللعن وهو الطرد من رحمة الله تعالى ولا الفاحش ولا البذيء اهـ.
والفاحش من الفحش وهو القول السيء والقبيح، والبذيء من البذاء وهو السفيه الفاحش في منطقة، وإن كان كلاما صدقا. نزهة المتقين.
وما يلحق بهذا الباب (وهو عدم إيذاء المسلم) كثرة المزاح معه مما يفضي إلى العداوة والبغضاء، فهذا منهي عنه لما فيه من الضرر الذي يصيب المجتمع المسلم.
قال الشيخ عبدالله سراج الدين رحمه الله تعالى في كتابه القيم «سيدنا محمد رسول الله – شمائله الحميدة – خصالة المجيدة»:
وأما ما ورد في الحديث من النهي عن المزاح كما في سنن الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تمار أخاك ولا تمازحه، ولا تعده موعدا فتخلفه»: فهذا النهي محمول على الإفراط في المزاح، لما في ذلك من الشغل عن ذكر الله تعالى، أو عن التفكير في مهمات الدين، ولما فيه من قسوة القلب بكثرة الضحك، بل إن كثرة المزاح تورث العداوة والأذى والحقد، وجراءة الصغير على الكبير.
وقد قال عمر رضي الله عنه: من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به. أي: بأن أكثر المزاح. كما وأن النهي عن المزاح محمول على المزاح الذي فيه أذى أو حزن للغير.
وفي سنن أبي داود والترمذي عن عبدالله بن السائب عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبا ولا جادا، ومن أخذ عصا أخيه فليردها».
وروى أبو داود عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يسيرون مع النبي صلى الله عليه وسلم فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه، ففزع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يروع مسلما».
وفي يوم الخندق كان زيد بن ثابت ينقل التراب مع المسلمين فنعس، فجاء عمارة بن حزم فأخذ سلاحه وهو لا يشعر، فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وروى عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه أن رجلا أخذ نعل رجل، فغيبها وهو يمزح، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تروعوا المسلم، فإن روعة المسلم ظلم عظيم». قال الحافظ المنذري: «رواه البزار والطبراني وابن حبان.
ولا يعني ذلك أن كل مزاح منهي عنه، بل هناك مزاح مندوب إليه.
يقول الشيخ عبدالله سراج الدين رحمه الله تعالى: فالمزاح مندوب إليه بين الاخوان والأصدقاء بما لا أذى فيه، ولا ضرر ولا قذف ولا غيبة ولا شين: في عرض أو دين، ولا استخفاف بأحد منهم.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبسط لجلسائه بساط الانطلاق الشرعي المباح: القال والحال، دون أن يقبضهم بحاله، أو يكبتهم بقاله، فإذا تحدثوا بأمر شاركهم في حديثهم ما لم يكن إثما.
ففي (الصحيحين) عن أنس رضي الله عنه قال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليخالطنا – أي: ليلاطفنا ويمازحنا – حتى يقول لأخ لي: يا أبا عمير ما فعل النغير». وروى الترمذي عن أنس رضي الله عنه أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا، وكان يهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هدية من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج إلى البادية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن زاهرا باديتنا ونحن حاضروه».
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان زاهر رجلا دميما فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو يبيع متاعه، فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره.
فقال زاهر: من هذا؟ أرسلني. فالتفت زاهر فعرف النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يشتري هذا العبد؟». فقال: يا رسول الله إذا والله تجدني كاسدا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكن عند الله لست بكاسد» أو قال: «أنت عند الله غال».
وكذلك الأمر بالنسبة للضحك إذا كثر أو كان بقصد السخرية أو كان في الأمور المنهي عنها.
قال الشيخ عبدالله سراج الدين رحمه الله تعالى: وأما الضحك المنهي عنه شرعا: فهو ما كان من باب السخرية بالناس، وانتقاصهم، أو فيه انتهاك لحرمات الدين أو المسلمين، أو ما كان كثيرا، فإن كثرة الضحك تميت القلب الروحاني الإيماني، لما تفضي إليه من الغفلة المورثة لقسوة القلب، وتميت القلب الجسماني، لأن كثرة الضحك تضعف القلب بسبب كثرة خفقانه، فيؤدي ذلك إلى موته.
قال الإمام الغزالي رضي الله عنه: كثرة الضحك والفرح بالدنيا سم قاتل يسري إلى العروق، فيخرج من القلب الخوف والحزن اهـ.
روى البخاري في (الأدب المفرد) وابن ماجه عن أبي هريرة رضي اله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تكثروا من الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب».
وهناك أحاديث كثيرة وردت في النهي عن كثرة الضحك. وأما الضحك في غير الأمور التي ذكرناها فهو جائز ولا شيء فيه.
قال الشيخ عبدالله سراج الدين رحمه الله تعالى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يتبسم في وجوه أصحابه حين يلقاهم، وفي حديثه إليهم، تلطفا بهم ومؤانسة لهم.
قال جرير بن عبدالله رضي الله عنه: «ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم». رواه الترمذي.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة، وآخر أهل النار خروجا منها. رجل يؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، وارفعوا عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر، وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له: فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول: رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا! فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه». رواه مسلم والترمذي في الشمائل واللفظ له.
فيجب على المسلم أن يبتعد عما يؤذي أخاه المسلم بل يسعى إلى إدخال السرور عليه فإن ذلك يعد من الأعمال العظيمة عند الله تعالى ويكفي أن نعلم بأن الله تعالى سوف يسره ويفرحه يوم القيامة وهل هناك أعظم من هذا.
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لقى أخاه المسلم بما يحب ليسره بذلك سره الله عز وجل يوم القيامة». رواه الطبراني بإسناد حسن.
حق المسلم على المسلم
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس».
وفي رواية لمسلم: حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه.
وروى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام.
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة». وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه. متفق عليه.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى». متفق عليه.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة». متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه، التقوى ههنا، بحسب أمرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم». رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه». متفق عليه.
وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» فقال رجل: يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما أرأيت إن كان ظالما فكيف أنصره؟ قال: «تحجزه – أو تمنعه – من الظلم فإن ذلك نصرة». رواه البخاري.
الدعاء بظهر الغيب
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه الأذكار: وروينا في صحيح مسلم عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك ولك بمثل.
وفي رواية أخرى في صحيح مسلم عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به آمين ولك بمثله.
جاء في كتاب الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية للإمام ابن علان: قال القرطبي في المفهم: المسلم هنا هو الذي سلم المسلمون من لسانه ويده الذي يحب للناس ما يحب لنفسه لأن هذا هو الذي تحمله شفقته وحاله على أخيه المسلم أن يدفعوا له بظهر الغيب أي في حال غيبته عنه وإنما خص حالة الغيبة بالذكر لبعدها من الرياء والأغراض المفسدة أو المنقصة، فإنه في حال الغيبة يمتحض الإخلاص ويصح قصد وجه الله تعالى بذلك فيوافقه الملك في الدعاء ويبشره على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بان له مثل ما دعا به لأخيه، والأخوة هنا هي الأخوة الدينية وقد يكون معها صداقة ومعرفة وقد لا، وقد لا تتعين فإن انسان إذا دعا لاخوانه المسلمين حيث كانوا وصدق الله في دعائه وأخلص فيه في حال الغيبة عنهم أو من بعضهم، قال الملك له ذلك القول بأن يكون ثوابه أعظم لأنه دعا بالخير وقصده للإسلام ولكل المسلمين والله أعلم.
ثم قال الإمام تحت عنوان: «باب استحباب طلب الدعاء من أهل الفضل وإن كان الطالب أفضل من المطلوب منه.
اعلم أن الأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصر، وهو مجمع عليه، ومن أدل ما يستدل به ما روينا في كتابي أبي داود والترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن وقال: «لا تنسنا يا أخي من دعائك فقال كلمة ما يسرني أن لي بها الدنيا، وفي رواية قال أشركنا يا أخي في دعائك. قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
جاء في كتاب الفتوحات الربانية: ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه قال: كان عمر إذا أتى عليه امداد أهل اليمن سألهم أفيكم أويس بن عامر حتى أتى عليه أويس بن عامر إلى أن قال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع امداد اليمن من مراد ثم من قرن كان به أثر برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بار بها لو أقسم على الله لأبره، فان استطعت أن يستغفر لك فافعل، فاستغفر لي، فاستغفر له.
الامداد: جمع مدد وهم الأعوان والأنصار الذين كانوا يمدون المسلمين في الجهاد
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا