رمي الجمار قبل الزوال بين المجيزين والمانعين (دراسة فقهية)
رمي الجمار قبل الزوال بين المجيزين والمانعين
دراسة مقارنة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سار على نهجه إلى يوم الدين .
وبعد :
فخلال عمل الفقير في إفتاء الحجيج وإرشادهم كان لا بد في كل عام من أن تواجهنا مشكلة الاختلاف في الرمي قبل الزوال , فيحتدم الخلاف بين العلماء وبين طلبة العلم بل وبين أصحاب حملات الحج والحجيج فذاك يجيز وذاك يمنع وقد وصل الحال في بعض الأحيان إلى التشنيع والتبديع
وهذا مقال موجز حول هذه المسألة كتبته بين يدي حج السنة الماضية وأحببت أن يكون بين يدي موسم حج هذا العام فأقول وبالله التوفيق : الرمي قبل الزوال له حالات :
الحالة الأولى
الرمي قبل الزوال في يوم العيد :
وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم حيث أجمعوا على جواز الرمي يوم العيد قبل الزوال بل أجمعوا على أن ذلك هو الأفضل لفعل النبي صلى الله عليه وسلم
والحالة الثانية
الرمي قبل الزوال في اليوم الحادي عشر :
وقد اختلف أهل العلم في ذلك على قولين :
القول الأول :
أن ذلك لا يجوز ولا يجزئ وعلى من رمى قبل الزوال أن يرمي بعده :
وهذا هو مذهب جمهور العلماء ( [1] ) بل حكاه الماوردي إجماعا حيث قال : ( لا يجوز تقديم رمي يوم على زواله إجماعا ) ([2] ) .
ولكن هذا الإجماع لا يصح كما سيأتي , بل هذا القول هو ما عليه الجماهير وهو ما عليه المذاهب الأربعة : من حنفية ([3] ) ومالكية ([4] ) وشافعية ([5] ) وحنابلة ([6] )
القول الثاني :
أن الرمي قبل الزوال جائز ومجزئ :
وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة ( [7] ) ورواية عن أبي يوسف ( [8] ) وهو مذهب ابن عباس ( [9] ) وابن الزبير ( [10] ) وعكرمة ([11] ) وعطاء ( [12]) وطاووس ( [13] ) وابن طاووس ([14] ) ومحمد الباقر ([15] )
وهو وجه في مذهب الشافعية قال به بعض الشافعية كإمام الحرمين والرافعي والإسنوي ([16] ) بل عده الشرواني مقابل الأصح في المذهب ( [17] )
وهو قول لبعض الحنابلة كابن الجوزي ([18] ) وابن الزاغوني ([19] )
وأفتى به طائفة من المعاصرين ومنهم : الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود ([20] ) والدكتور يوسف القرضاوي ( [21] ) والشيخ مصطفى الزرقا ( [22] )
ووقت بدء الجواز عند أكثر القائلين بجوازه قبل الزوال هو من طلوع الشمس ، ومنهم من قال بجوازه من طلوع الفجر كالحنفية ومن قال بالجواز من الشافعية.
الأدلة
أولا أدلة الجمهور :
دليلهم الأحاديث الكثيرة التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بعد الزوال وقد قال صلى الله عليه وسلم ( خذوا عني مناسككم ) ([23] )
قال النووي : دليلنا أنه صلى الله عليه وسلم رمى كما ذكرنا وقال صلى الله عليه وسلم لتأخذوا عني مناسككم ) ([24] )
ومن الأحاديث التي فيها أنه صلى الله عليه وسلم رمى بعد الزوال :
– حديث جابر بن عبد الله عند مسلم( [25] )
– وحديث ابن عباس عند الترمذي وابن ماجه ( [26] )
– وحديث عائشة عند أبي داود ( [27] )
– وحديث ابن عمر عند البخاري ( [28] )
ثانيا : أدلة الآخرين : لهم أدلة منها :
1- قياس الأولى: فإن المشروع يوم العيد رمي جمرة واحدة ومع ذلك ترمى قبل الزوال , والمشروع في بقية الأيام رمي الجمار الثلاث فمن باب أولى ترمى قبل الزوال لأنه ينبغي توسيع وقت الرمي فيها لا تضييقه.
2- قياس اليوم الحادي والثاني والثالث عشر على يوم العيد بجامع أن الكل أيام نحر وتشريق.
3- قياس جواز الرمي قبل الزوال بجواز الرمي ليلا للرعاة والسقاة وذوي الحاجات بجامع الحاجة في كلٍ , والحاجة في هذه الأيام أشد للزحام الشديد الذي قد يؤدي إلى إزهاق الأنفس كما لا يخفى.
4- قياس تقديم الرمي على التأخير حيث يجوز تأخير الرمي إلى اليوم التالي وإلى آخر التشريق , وأجيب عن الأقيسة السابقة بأن الأصل في هذا الباب التوقيف لا القياس قال الكاساني : ( وهذا باب لا يعرف بالقياس بل بالتوقيف ) ( [29] ) ومع ذلك فالقياس مع الفارق فإن يوم العيد فيه أعمال كثيرة بخلاف أيام التشريق كما أن القياس إنما يكون عند عدم النص أما مع وجود النص فهو فاسد الاعتبار كما هو معلوم.
5- حديث ابن عباس قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أيام منى فيقول لا حرج فسأله رجل فقال رميت بعدما أمسيت قال لا حرج ) ( [30] ) فدل على أن وقت رمي الجمار مبني على العفو والمسامحة ورفع الحرج , وأجيب بأن ذلك في الرمي في المساء لا في الرمي قبل الزوال.
6- حديث وبرة بن عبد الرحمن السلمي قال : سألت بن عمر رضي الله عنهما متى أرمي الجمار ؟ قال : إذا رمى إمامك فارمه ، فأعدت عليه المسألة ، قال : كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا ( [31] ) وأجيب بأنه اجتهاد من ابن عمر رضي الله عنه كما اجتهد في ذلك ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهم.
7- أن في ذلك مصلحة للحجيج فهو من المصالح المطلقة والمرسلة في الشرع فيلحق بالمصالح المعتبرة , وأجيب بأن المصلحة المطلقة المرسلة إذا خالفت النص فهي من المصالح الملغاة لا المعتبرة.
وأجيب عن أدلة الجمهور
1- بأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم إنما يدل على الأفضلية لا الوجوب كما هو معلوم , وأجيب بأن الفعل هنا مقرون بقوله ( لتأخذوا عني مناسككم ).
2- من استدل على المنع بفعله صلى الله عليه وسلم يلزمه أن يقول بمنع تأخير طواف الإفاضة عن يوم العيد لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف يوم العيد وقد قال ( لتأخذوا عني مناسككم ) , وأجيب بأنه قد قام الدليل على جواز تأخير طواف الإفاضة عن يوم العيد ، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت : حاضت صفية بنت حُيي بعدما أفاضت ، قالت : فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أحابستنا هي ؟ قلت : يا رسول الله إنها قد أفاضت وطافت بالبيت ثم حاضت بعد الإفاضة ، قال : فلتنفر إذا ) كما أن الإجماع قائم على جواز تأخير الإفاضة عن يوم العيد والإجماع حجة قاطعة.
3- أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم الرمي قبل الزوال لا يدل المنع فهو كترك الوقوف بعرفة بعد العشاء إلي طلوع الفجر مع أنه وقت للوقوف , وأجيب بأن الدليل قد دل على أن ما بعد العشاء إلى الفجر وقت للوقوف كما في حديث عروة بن مضرس مرفوعا ( من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً ، فقد تم حجة وقضى تفثه ) ( [32] )
الحالة الثالثة
الرمي قبل الزوال في اليوم الثاني عشر يوم النفر الأول :
وقد اختلف في ذلك أهل العلم على أقوال :
القول الأول :
أن ذلك لا يجوز ولا يجزئ
وهو مذهب جمهور العلماء وعليه المذاهب الأربعة من حنفية ومالكية وشافعية وحنابلة كما تقدم النقل عنهم في الحالة الأولى.
والقول الثاني :
أن ذلك جائز ومجزئ :
وهو قول من سبق ذكرهم ممن يقولون بجواز ذلك في اليوم الحادي عشر , وهناك أيضا رواية عن الإمام أحمد بجواز الرمي والنفر في هذا اليوم قبل الزوال ( [33] )
والقول الثالث :
يجوز بشرط أن ينفر في نفس اليوم بعد الزوال :
وهو رواية عن الإمام أحمد ([34] ) وهو قول إسحاق وعكرمة ( [35] )
والأدلة في هذه المسألة هي الأدلة نفسها في المسألة السابقة ودليل رواية أحمد هو الحاجة للنفر في ذلك اليوم دون اليوم السابق.
الحالة الرابعة
الرمي قبل الزوال في اليوم الثالث عشر يوم النفر الثاني :
وقد اختلف أهل العلم في ذلك على أقوال :
القول الأول : أن ذلك لا يجوز ولا يجزئ :
وهو مذهب المالكية ([36] )والشافعية ([37] ) والحنابلة ([38] )وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن وهو المعتمد في مذهب الحنفية ( [39] )
والقول الثاني : أن ذلك جائز ومجزئ :
هو قول من سبق ذكرهم ممن يقولون بالجواز في اليوم الحادي عشر والثاني عشر , لكن يشار إلى أن للإمام أبي حنيفة هنا قولا واحدا فقط وهو الجواز ([40] ) بخلاف الأيام السابقة فهي رواية فقط
والقول الثالث : أن ذلك جائز لكن لا ينفر إلا بعد الزوال :
وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول إسحاق وعكرمة ([41] )
والأدلة في هذه المسألة هي الأدلة نفسها في المسائل السابقة , ودليل أبي حنيفة هو أنه عندما جاز إسقاط مبيت ليلة هذا اليوم ورميه تخفيفا فيجوز الرمي والنفر فيه قبل الزوال كذلك تخفيفا ([42] )
تتمة :
مذهب الشافعية أن أيام التشريق كاليوم الواحد في الرمي فيجوز تدارك رمي اليوم الأول في اليوم الثاني ورمي اليوم الأول والثاني في اليوم الثالث , وإذا رمى على سبيل التدارك جاز له الرمي قبل الزوال قال النووي في المجموع ( [43] ) ( ويجوز تقديم رمي يوم التدارك على الزوال ) اهـ
وقد طُرحت هذه المسألة في عدة مؤلفات فمنها :
– رمي الجمرات وما يتعلق به من أحكام للدكتور شرف بن علي الشريف
– بحث اللجنة الدائمة المنشور في مجلة البحوث الإسلامية ، العدد الخامس
– رسالة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود ضمن مجموع رسائله
– رد ا الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ضمن مجموع رسائله
– لكن أحسن وأشمل من تطرق لهذه المسألة فيما وقفت عليه هو أخونا وزميلنا الشيخ علي محمد ونيس في رسالته تحقيق المقال في رمي الجمار قبل الزوال وقد استفدت منها في مقالي هذا كثيرا.
وعلى العموم
فالمسألة مما يسوغ فيه الخلاف فلا ينكر فيها على المخالف خصوصا إذا دعت إلى الأخذ بقوله الحاجة والمشقة , فمن كان أهلا للاجتهاد والترجيح فليأخذ بما ترجح عنده ومن لم يكن أهلا لذلك فإن كان له مذهب فليأخذ بمذهبه وإن لم يكن له مذهب فليسأل من يثق بدينه وعلمه ويأخذ بفتواه كما قال تعالى ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )
لكن الأحوط قطعا هو الأخذ بمذهب الجمهور , وإذا تحرى الحاج الوقت المناسب فلن يجد الزحام إن شاء الله.
كما ننصح الحجيج بتنظيم أنفسهم واتباع إرشادات الجهات المختصة , كما ننصح الجهات المختصة بالاهتمام بتطوير منى والجمرات وما من شأنه تسهيل الرمي والمناسك على الحجيج , وقد سمعنا عن مشاريع طوابق الجمرات وقطارات الأنفاق سهل الله تنفيذها , ووفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد
كتبه: عضو (المجلس العلمي) بالمنارة
الشيخ: عبد الفتاح بن صالح قديش اليافعي
[1] الاستذكار لابن عبد البر 13 / 214
[2] مرقاة المفاتيح لملا علي القاري 5 / 513
[3] بدائع الصنائع للكاساني 2/ 324
[4] شرح الدردير بحاشية الدسوقي 2 / 275
[5] المجموع للنووي 7 / 211 ومغني المحتاج للشربيني 2 / 276
[6] المغني لابن قدامة 5 / 328 والفروع لابن مفلح 3 / 382 والإنصاف للمرداوي 4 / 45
[7] بدائع الصنائع للكاساني 2/ 324 وفتح القدير 2 / 185 ومجمع الأنهر 1/ 281
[8] إرشاد الساري 161
[9] مصنف ابن أبي شيبة 3/ 319 ونصب الراية 3 / 175
[10] أخبار مكة للفاكهي 4 / 298
[11] الحاوي للماوردي 4 / 194
[12] لكن في القرى لقاصد أم القرى 524 : ( وقال عطاء : رمي الجمار بعد الزوال ، فإن رمى قبل الزوال بجهالة أجزأه ) اه فهو عنده للجاهل , وروى ابن أبي شيبة 3/319 : عن ابن جريج ، قال سمعت عطاء يقول : ( لا ترمي الجمرة حتى تزول الشمس ، فعاودته في ذلك ، فقال ذلك ) اه فهذا قول منه بالمنع ولا نعلم أي أقواله هو الأخير حتى ننسبه إليه , وهنا تظهر ميزة المذاهب الأربعة حيث إن الأصحاب في كل مذهب تتبعوا المتعارض من أقوال الإمام وعلموا المتأخر من المتقدم بخلاف غير الأربعة حيث ليس لهم أصحاب يهتمون بذلك
[13] فتح الباري 3 / 678
[14] مصنف ابن أبي شيبة / 3 / 319
[15] الاستذكار لأبن عبد البر 13 / 215 وبداية المجتهد 3 / 352
[16] تحفة المحتاج 4 / 138
[17] حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 4 / 138
[18] الفروع لابن مفلح 3 / 382 والإنصاف للمرداوي 4 / 45
[19] ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1 / 182 والإنصاف للمردودي 4 / 45
[20] مجموع رسائل الشيخ عبد الله آل محمود 3 / 186 و 1 / 11
[21] ـ راجع مائة سؤال عن الحج والعمرة /92 / ، وكتاب فتاوى معاصرة / ج 3 / .
[22] ـ فتاوى الشيخ مصطفى الزرقا 196
[23] صحيح مسلم 2/943
[24] شرح النووي على مسلم 9 / 41
[25] صحيح مسلم 3 / 677
[26] سنن الترمذي 3/243 وسنن ابن ماجه 2/1014
[27] سنن أبي داود 2/201
[28] البخاري مع الفتح 3 / 677
[29] بدائع الصنائع 2 / 324
[30] رواه النسائي في الكبرى 2/438 وهو في البخاري2/615 دون ( أيام منى )
[31] رواه البخاري 3 / 677 مع الفتح
[32] رواه الترمذي 3/238
[33] الفروع لابن مفلح 3 /519 والإنصاف للمرداوي 4 / 45
[34] الفروع لابن مفلح 3 / 382
[35] المغني لابن قدامة 5 / 328
[36] حاشية الدسوقي على شرح الدردير 2/275
[37] المجموع للنووي 7 / 211
[38] المغني لابن قدامة 5/ 328
[39] الهداية للمرغناني1 / 149
[40] العناية على الهداية للبابرتي 2 / 499
[41] المغني لابن قدامة 5 / 328 وشرح الزركشي على الخرقي 3 /279
[42] الهداية للميرغيناني 1 / 149 المبسوط للسرخسي 4/69
[43] المجموع 8/170